
من بين أعمال زياد الرحباني، تبقى مسرحية "فيلم أميركي طويل" علامة خاصة في مسيرته، فهي أقرب إلى مانفستو لفنان كان فنه تجسيدًا لأفكاره السياسية ورؤيته الاجتماعية. تنتمي مسرحية الرحباني الصغير إلى نمط أدبي ينظر إلى الواقع من عين الجنون عبر دراما تنتهي إلى جنون المثقف، أو تبدأ من جنون المثقف في مستشفى الأمراض العقلية.
تأثرت "فيلم أميركي طويل" نفسها بعدد من الأعمال التي تنتمي إلى هذا النمط، من بينها الفيلم الأميركي "طائر فوق عش الوقواق" (One Flew Over the Cuckoo's Nest) الذي لعب بطولته جاك نيكلسون، وتدور أحداثه في مصحة عقلية أميركية، وكذلك الفيلم الإيطالي "ألكابوتو" (Il Cappotto) الذي اقتبس زياد من زي بطله ريناتو راسكال، المنامة المخططة المفتوحة، لتكون زي شخصية رشيد بطل "فيلم أميركي طويل" الذي جسده زياد، وتحوّلت صورة زياد بها إلى إحدى الذكريات البارزة في مسيرته الفنية.
عربيًا، قدم يوسف شاهين النمط نفسه سابقا في فيلمه "الاختيار" الذي تدور أحداثه في سياق لا يختلف كثيرًا عن سياق "فيلم أميركي طويل". فبينما تعرضُ "فيلم أميركي طويل" مأساة المثقف اللبناني أثناء الحرب الأهلية، يجسد بطل فيلم "الاختيار"، محمود/سيد (عزت العلايلي)، مأساة المثقف المصري بعد هزيمة يونيو 1967 التي تكشف فصامية المثقف بين هويته البرجوازية وموقعه النضالي كعاشق لبهية التي ترمز إلى وطنه مصر، ما يدفعه أخيرًا إلى الجنون.
قدّم زياد بعد ذلك بسنوات قليلة برنامج "العقل زينة" في إذاعة "صوت الشعب" التي يملكها الحزب الشيوعي اللبناني، حيث واصل زياد طرح نقده التهكمي اللاذع للمجتمع اللبناني في تلك اللحظة. بين "العقل" و"الجنون"، سعى زياد إلى أن يثير انتباه جمهوره إلى لاعقلانية واقعهم، بحيث يبدو الجنون هو الرد الأفضل على هذا الواقع، وكأن زياد يتبنى هيغلية معكوسة، فهو لا يرى أن كل ما هو واقعي هو معقول كما افترض هيغل، بل أن كل ما هو واقعي هو لاعقلانية يجب نقدُها وتحطيمُها وتجاوزها إلى ما هو ثوري ومعقول.
مثّلت المفارقة لذلك أساسًا لكثير من أشعار زياد، كما في أغنية "شو هالأيام" التي يتساءل فيها زياد: "بيقولولك من عرق جبينه طلع مصاري هالإنسان.. طيب كيف هيدا وكيف ملايينه، ولا مرة شايفينه عرقان"، ليُظهر المفارقة اللامعقولة في دعوى أن الثروة هي الابنة الشرعية للعمل الشاق لصاحبها.
حتى في موسيقاه، وقف زياد على أعتاب الجنون دون أن يستسلم له، فاختار الجاز مثلًا، بحثًا عن موسيقى تسمح بالارتجال
حياة زياد تمامًا كبطله رشيد في "فيلم أميركي طويل" هي تجسيد لمأساة المثقف الذي يحاول أن يحافظ على عقله في واقع يأبى أن يخضع لمنطق المعقول. يتقلب زياد، يغيّر آراءه، يبدو في أعين الناس متناقضًا، بل ومتلوّنًا أحيانًا، وفي كل هذا لا يبدو زياد إلا انعكاسًا للاعقلانية الواقع التي يصر على التهكم منها ورفضها، فهو يحاول "ألا يغيرهُ الوطن على الأقل، إن كان غير قادر على تغيير الوطن" كما صرح ذات مرة.
جنون المثقف ليس حالة فردية أُصيب بها زياد، بل هو، نوعًا ما، قدر المثقف الذي يحاصره الواقع. يسعى المثقف النقدي بحكم التعريف إلى مثال يُعدّ الواقع قاصرًا بالنسبة إليه، ويؤسّس عبر هذا المثال مشروعية النقد، فلا معنى للنقد في غياب المثل الأعلى، إذ يعني هذا أن الواقع لا يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه. لكن في إطار نقديته، يجد المثقف نفسه حائرًا بين خطر الجنون في حال أخلص لمثل أعلى لا يمكن أن يحققه، وتهمة التناقض أو التلوّن في حال حاول أن يتكيف مع واقع يبتعد كثيرًا عن مثاله.
زياد هو مثقف عربي يحمل على كتفيه معاناة المثقف العربي كما وصفها الناقد الفلسطيني فيصل درّاج، فقد استولدت الحداثة مثقفًا عربيًا دون أن تستولد له طبقة تحمل مشروعه. وهكذا كُتب عليه أن "ينوس بين جمالية المتمرد ويوتوبيا النقد الاجتماعي الشامل". ناسَ زياد بين جمالية المتمرد ويوتوبيا النقد الشامل، لكنه اختار غالبًا أن يتكيّف مع واقع يدرك لاعقلانيته، فاختار أن يؤيد "حزب الله" كخيار مقاوم في مواجهة إسرائيل، ثم اختار أن يرفض الثورات العربية إذا كانت ستأتي بقوى دينية ظلامية وغير وطنية (في نظره)، وفضّل عليها أنظمة ديكتاتورية إذا كانت وطنية (أيضًا في نظره).
تبدو خطيئة زياد إذًا في نظر البعض أنه حاول ألا يُصاب بالجنون، فاختار أن يتكيّف مع واقع يرفضه، مرة بالنقد التهكمي اللاذع، ومرة أخرى بالاعتصام بنقاط اليقين التي لا يخامرها الارتياب، وكانت نقطة اليقين التي يثوب إليها زياد دومًا هي المقاومة.
حتى في موسيقاه، وقف زياد على أعتاب الجنون دون أن يستسلم له. اختار الجاز مثلًا، لا بحثًا عن تقليعة موسيقية جديدة للتمرد على التقليد الموسيقي للعائلة، أو كسرًا للرتابة، وإنما عن موسيقى تسمح بالارتجال، سواء في العزف أو الغناء، كما يمكنها أن تسمح بغناء الكلام العادي والجمل القصيرة التي يغيب عنها الطابع الشعري، كل ذلك في مزاج داكن كما كان "البلوز" ينقل خليطًا شعوريًا من الحزن واللامبالاة الإيجابية التي تسعى إلى التجاوز.
لم يكن من السهل تكرار تلك التجربة الموسيقية الفريدة كما تجلت في مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" التي غُني فيها "الحالة تعبانة يا ليلى" في أجواء قهوة شعبية، و"مربى الدلال" التي لا تحوي أي جمل عاطفية، وتبدو وكأنها تتحرى اعتيادية الحياة اليومية بتهكميتها وشجونها. مع ذلك، فإن زياد لا يستسلم تمامًا لتجريبية الفنان، ويعود ليقدم مع فيروز مجموعة من الأغاني التي تمزج على نحو مثير بين الطربية والشعرية التقليدية وبين ارتجال الجاز وعاديته، كما نسمع في "كيفك إنت" و"قال قايل".
رحل زياد في لحظة يبدو أنه لم يعُد يجدُ عندها أي شيء يمكنه أن يتكيّف معه. انهارت عوالمه، وبدا كل شيء وكأنه يعود إلى الصفر، بحيث لم يعد قادرًا على أن يحتمي بعقله من جنون الواقع.