قصور وديون: أيام تشاوشيسكو الأخيرة
لا يشبه المجمع الرئاسي في مصر كثيرًا في طرازه معمار "بيت الجمهورية" الذي بناه الرئيس الروماني نيقولا تشاوشيسكو في الثمانينيات، لكن ليس من السهل مقاومة غواية المقارنة بين ظروف بناء القصرين.
لا يشبه المجمع الرئاسي في مصر كثيرًا في طرازه معمار "بيت الجمهورية" الذي بناه الرئيس الروماني نيقولا تشاوشيسكو في الثمانينيات، لكن ليس من السهل مقاومة غواية المقارنة بين ظروف بناء القصرين.
في 1996، افتُتح قصر البرلمان المعروف بـ"بيت الجمهورية" في العاصمة الرومانية بوخارست. القصر الذي استغرق بناؤه أكثر من عشرة أعوام، امتد على مساحة 365 ألف متر مربع ليكون ثاني أكبر مبنى إداري في العالم بعد البنتاغون الأميركي وقت افتتاحه (سوف يحل قصر البرلمان التايلاندي محله في المرتبة الثانية بعد افتتاحه سنة 2021).
كان بناء القصر جزءًا من خطة حضرية أوسع عُرفت بالتنظيم قادها الرئيس الروماني نيقولا تشاوشيسكو في الثمانينيات، مستهدفًا مضاعفة عدد المدن في رومانيا بحلول سنة 1990، عبر استثمارات ضخمة في البنية التحتية للقرى التي أريد لها أن تصير مراكز مدينية صناعية.
تضمنت الخطة إعادة رسم قلب العاصمة بوخارست، وفق رؤية اقتبسها تشاوشيسكو من رفيقه الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، جمعت بين الميغالومانيا (الهوس بالضخامة) والنزعة التنظيمية المتطرفة التي شاعت في البلدان الاشتراكية.
في سبيل ذلك، جرى هدم عشرات المباني ذات القيمة التاريخية، من بينها ثلاثة أديرة تاريخية، وعشرون كنيسة، وثلاثة معابد يهودية، وثلاث مستشفيات، ومسرحان، واستاد رياضي بني على طراز "الآرت ديكو" (يعرف المصريون طراز "الآرت ديكو" جيدًا، وإن لم يعرفوا اسمه، فكل من تجول في وسط البلد بالقاهرة لن ينسى المشهد الشهير لميدان طلعت حرب حيث تنتصب عمارة بهلر المبنية على طراز "الآرت ديكو"، وكأنها تقسم السماء إلى نصفين، كما تنتشر عمارات "الآرت ديكو" في جزيرة الزمالك).
تذكرتُ بيت الجمهورية عندما انتشرت صور المجمع الرئاسي في العاصمة الإدارية الجديدة، كما ذكرتني الإزالات التي تطلبها المشروع الروماني نظيرتها الجارية في شرق القاهرة التي تقضي على عشرات المباني المعمارية الفريدة في جبانات القاهرة التاريخية.
لا يشبه المجمع الرئاسي كثيرًا في طرازه معمار بيت الجمهورية، لكن ليس من السهل مقاومة غواية المقارنة بين ظروف بناء القصرين. كان بيت الجمهورية قد شرع في بنائه سنة 1984 بعد أن أطلق تشاوشيسكو خطته التقشفية الشهيرة لسداد عشرة مليارات من الدولارات هي مجموع الديون التي حصل عليها في السبعينيات.
كان من الممكن أن يحتفي المصريون بصور المجمع الرئاسي لولا أنها جاءت في وقت تعاني فيه غالبية المصريين من أزمة اقتصادية طاحنة
تستحق قصة الديون السيادية في السبعينيات أن تُروى لأنها قصتنا جميعًا، نحن سكان العالم الثالث. فالطفرة الهائلة في أسعار النفط بعد الحصار النفطي الذي أعلنته بلدان الخليج العربي سنة 1973، أثمر فوائض مالية هائلة كان على مصرفيي الولايات المتحدة وإنكلترا البحث عن ميكانيزمات مالية لتدويرها، وكانت الديون السيادية هي الحل الأمثل لذلك. لكن كما بدأت الموجة نفطية انتهت نفطية كذلك. فقد أدت الثورة الإيرانية إلى طفرة جديدة في أسعار النفط انتهت إلى تضخم عالمي ارتأى معه بول فولكر، مدير الاحتياطي الأميركي، أن ينتهج نهجًا نقديًا متشددًا برفع سعر الفائدة وتقليص المعروض النقدي، وكان من شأن ذلك أن يكبح عجلة التسليف المتسارعة.
أمام هذه الأزمة، وجد الرومانيون أنفسهم بين شقي رحى أسعار الطاقة وتكاليف الاستدانة. عندئذ قرر تشاوشيسكو عكس التاريخ بأي ثمن، طالما أن الشعب هو من سيدفع هذا الثمن. فرض تشاوشيسكو خطة تقشفية صارمة تضمنت تقليص إمدادات الطاقة إلى المنازل في بلد يمتاز بشتاء قارس، وتصدير الإنتاج الزراعي لرومانيا، حتى وإن أدى ذلك إلى نقص في الغذاء، وعاد الرومانيون ليختبروا نظام الحصص الغذائية كأنهم يعيشون الحرب العالمية من جديد.
ما زال بعض المعلقين من ذوي النزعة القومية المتشددة يتفهمون إجراءات تشاوشيسكو الوطنية. إلا أن ما لا يمكن تفهمه هو ما توازى مع تلك الخطة التقشفية التي لم تأت على حساب المواطنين فحسب، إنما على حساب قدرات رومانيا الإنتاجية التي تدهورت بشدة أيضًا. فبينما كان التقشف الصارم مفروضًا على الناس، كان جموح التشييد للرئيس يستنزف مليارات الدولارات.
قُدرت تكاليف بناء قصر البرلمان الذي كان يُفترض الانتهاء منه بحلول 1990 (تعطلت الخطط بفعل الإطاحة بتشاوشيسكو في 1989) بـ 1.75 مليار دولار. فإذا عرفنا أن إجمالي الدين الخارجي الذي فرض تشاوشيسكو التقشف لسداده كان 10 مليار دولار، تكشفت المفارقة.
يبلغ الدين الخارجي لمصر اليوم 152 مليار دولار انخفاضًا من 168 مليار دولار، بينما رددت "نيويورك تايمز" تقديرًا لتكلفة العاصمة الإدارية الجديدة خلال ست سنوات بنحو 59 مليار دولار، كما أثبتت مقالة للمدون المصري ياسر شلبي توجيه ما مجموعه نحو 25 مليار دولار من الاستثمارات العامة للعاصمة في حدود ما أمكنه رصده من خلال الأرقام المعلنة.
ليس من السهل فهم كيف يفكر الزعماء من أمثال تشاوشيسكو، لكن من الواضح أن شعوبًا كثيرة ترى في المعمار والبناء مؤشر الحضارة والعظمة، ولا شك أن المصريين من بين تلك الشعوب، حيث اعتادوا الاستدلال على عظمة أسلافهم الفراعنة من خلال الإشارة إلى الأهرامات وعبقرية مبانيها.
كان من الممكن أن يحتفي المصريون بصور المجمع الرئاسي لولا أنها جاءت في وقت تعاني فيه غالبية المصريين من أزمة اقتصادية طاحنة. ففي نفس اليوم الذي ظهرت فيه تلك الصور على مواقع التواصل الاجتماعي، خرج تقرير منظمة الغذاء والزراعة (فاو) عن الأمن الغذائي في شمال أفريقيا ليقول إن نحو 10 ملايين مصري عانوا من الجوع خلال الفترة الواقعة بين 2021 و2023، ومن المرجح منطقيًا أن تلك الأرقام ستتزايد بفعل تقليص الدعم المستمر.
المبدأ العقاري القاضي باختزان القيمة غير قابل للتفسير خارج البنى السيكولوجية لهؤلاء الزعماء
تمتلك مصر عشرات القصور الرئاسية الموروثة من الأسرة العلوية التي حكمت مصر حكمًا ملكيًا على نحو قرن ونصف القرن. لكن زعماء العالم الثالث يميلون إلى تخليد أسمائهم في ذاكرة أممهم عبر المباني، وهو خيال فرعوني عميق الجذور في مصر. بجانب ذلك، فإن المبدأ العقاري الذي يسود بين الطبقات الوسطى في جنوب العالم لا يفارق التصورات الاقتصادية لزعمائها، حيث يرون في مشاريع البنية التحتية والاستطباق (الاستطباق gentrification آلية لرفع القيمة العقارية عبر إحلال طبقة أرقى من المقيمين) طريقة لإنتاج قيمة عقارية مختزنة.
مثلًا، في عام 1973، قرر تشاوشيسكو إحياء مشروع الربط بين الدانوب والبحر الأسود عبر قناة مائية، وبدأ المشروع الذي استغرق العمل فيه 14 عامًا، بتكلفة بلغت 2 مليار دولار كان من المفترض أن يجري استردادها من عوائد القناة على مدى 50 عامًا.
تجاهل تشاوشيسكو التحذيرات من عدم جدوى المشروع اقتصاديًا، وهو ما تأكد فيما بعد، إذ بقي متوسط العائد السنوي للقناة عند 3 مليون دولار، ما يعني أن استرداد الاستثمار فيها قد يتطلب ستة قرون. برغم ذلك واصل تشاوشيسكو مشاريعه الحفرية سنة 1982 عندما قرر شق قناة جديدة تصل بوخارست بالدانوب.
كان تشاوشيسكو بالتأكيد يدرك لاجدوى مثل تلك المشاريع، لكنه استسلم على الأرجح لأوهام المبدأ العقاري الذي طمح إلى تحويل بوخارست إلى خزان هائل للقيمة العقارية.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برر كذلك تمسكه بمشروع توسيع قناة السويس برغم ضعف جدواه الاقتصادية برغبته في رفع الروح المعنوية للمصريين. ينطوي التصريح بهذا التبرير على نوع من الشجاعة، لكنه لا يكفي تفسيرًا للاستمرار في هذا النوع من المشاريع، إذ وراء الأسباب المعنوية، والميغالومانيا، والرغبة في تسيطر الأسماء في التاريخ، والتصورات العقارية، جانب تقني ولا شك، هو الإدراك الضمني للعجز عن إحداث تنمية خارج القطاع العقاري. ذلك أن القطاع العقاري يمثل في الأخير طريقة سهلة لتحقيق إنجازات سريعة، تناسب طموح حكومات الجنوب لحرق المراحل، وتناسب أيضا فقر الخبرة والكفاءة التي تتسم بها تلك الحكومات.
تخدم استثمارات البنية التحتية والعقارية شبكات واسعة من البيروقراطيين وصغار المقاولين الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية المستفيدة من تلك السياسات. لم يتمثل أهم ما كشف عنه المقاول والمعارض السياسي محمد علي سنة 2019 باتهام الرئيس بالتوسع في الإنفاق على القصور والاستراحات الرئاسية والفنادق التي يديرها مقربون منه. ما يتعلق بالبنية التحتية السياسية والمؤسسية للنظام القائم في مصر بحق هو المجمع العسكري العقاري (على غرار المجمع العسكري الصناعي الذي انتقده الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور في خطابه الوداعي سنة 1961)، حيث تتشكل شبكات بين كبار الضباط والبيروقراطيين من جهة ومقاولين ورجال أعمال من جهة أخرى للتربح من عقود المقاولات الحكومية.
يدعم تشكل تلك الشبكات قانون المناقصات الذي يسمح للمسؤولين بالإسناد بالأمر المباشر الذي تجسد في مشهد تكليف الرئيس ثلاثة مقاولين بمشروعات تتكلف نحو 7.5 مليار جنيه على الهواء مباشرة. قد تفسر لنا شبكات المصالح من هذا النوع تمسك الدولة بمشاريع الطرق والكباري في شرق القاهرة ومصر الجديدة، برغم الانتقادات الواسعة لهدم المباني الأثرية وتشويه البيئة الحضرية والنسيج العمراني لتلك الأحياء.
لا يتعلق الأمر بصغار المقاولين فحسب، بل يمتد أيضًا إلى رأس المال الكبير. فخلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، تضاعفت أرباح مجموعة طلعت مصطفى ثلاثة أضعاف على أساس سنوي لتسجل نحو 130 مليون دولار، مدعومة بالعوائد السريعة لمشروع ساوثميد العقاري في الساحل الشمالي الذي تنفذه المجموعة بالتعاون مع الحكومة المصرية، وهو ما أعلنت المجموعة أنه يستوعب استثمارات بقيمة مليار جنيه مصر (20 مليار دولار).
وفق ذلك، لا يمثل المبدأ العقاري القاضي باختزان القيمة عبر توجيه الاستثمارات العامة إلى البنية التحتية والمشاريع العقارية مجرد خيار اقتصادي عابر. إنه أقرب ما يكون إلى نمط من أنماط الاقتصاد السياسي له جذوره الثقافية. وهو قادر على إغراء كثير من زعماء العالم الثالث، ودفعهم نحو مسارات تبدو للوهلة الأولى عديمة المنطق وغير قابلة للتفسير خارج البنى السيكولوجية لهؤلاء الزعماء.