رَحَلَ رفيقنا

"رشيد، ثريا، زكريا، المعلم نخلة... رضا" وغيرهم. سنبقى أسرى لتلك الأصوات التي شكّلتنا ولجُمل زياد المسرحية التي أخذت تدور على ألسنتنا، وغدت جزءًا من حواراتنا وسخريتنا من واقعنا.

زياد! أنت هون؟ يا لطيف شو مشتاقتلك!

في العام 2013، وبينما أنا ذاهبة إلى مقرّ جريدة "السفير"، لمحتُ زياد الرحباني جالسًا في مقهى "كوستا" بصحبة إحدى الممثلات. هكذا، لم أُلقِ عليه التحية، بل باغتُّه ووقفتُ قبالته: زياد! كيفك؟ أنت هون؟ يا لطيف شو مشتاقتلك!

رفع زياد رأسه ونظر إليَّ مذهولًا وأجاب بهدوء: أهلين، تفضلي اقعدي.

أكملتُ حديثي بطيشنة المراهقين: أنا من سوريا، بتعرف أنا بحبك كتير! ردّ بالهدوء نفسه: طيب، اقعدي شوي!

قلتُ له: ما فيني اقعد، عندي موعد، بس فيني أتصوّر معك؟

وللمرة الثالثة قال لي: طيب اقعدي وبعدين منحكي.

وأجبته: لا...لا عندي موعد، شكرًا كتير.

وما إن تجاوزتُ المقهى بأمتار قليلة حتى انتبهتُ إلى الخفّة التي تعاطيتُ فيها مع زياد الرحباني، من أنا؟ لماذا فعلتُ ذلك؟ كيف اقتحمتُ جلسته وطلبت إليه أن نأخذ صورة سوية؟

دارت هذه الأحاديث في دماغي ثم أخذتُ أبرّر طيشنتي. تذكرتُ أنّي أحفظ أغانيه جميعًا، بل أنّي أُردد جملًهُ، ولم أترك مقابلة له إلا وحضرتها، حتى أنني، أسوة بسوريين كثر، أعرف تفاصيل حياته. هكذا، حسبتُ أن زيادًا رفيق من رفاقي الذين أتبادل وإياهم الأسرار والأفكار والأحلام. ظننتُ أن زياد بمجرد أن يراني سيقول لي: هنادي، إنت هون، أيمت جيتي من سوريا؟ اقعدي نشرب قهوة! بتلك الألفة المحببة للأصدقاء العتيقين.

عدتُ إلى سوريا وقصصتُ لعائلتي ما حدث بيني وبين زياد، وبالطبع، ضحكوا عليّ ودُهشوا لما أسموه "تصرفًا لاواعيًا" لا يليق بعمري!

لم يمض سوى أسبوع حتّى اتصلت أختي ضاحكة وهي تقول: "الحمد لله ما قلتي اسمك لزياد، كنتِ فضحتينا!". قلت لها: "ليش؟ شو فيه؟"، قالت لي: "زياد كان بمقابلة على تلفزيون لبنان وقال إنو من أسبوع كان قاعد بالمقهى وهبَطت عليه صبية وقالت له أنا من سوريا، فيني إتصور معك؟"، وأردف زياد بعدها: "شو مفكرتني مغارة جعيتا حتى تتصور معي!".

كلُّ ما أذكره أنّ زيادًا رافقني، شأني شأن سوريين كثر، منذ طفولتي، حين سمعتُ لأول مرة أغنية "سألوني الناس عنك يا حبيبي"

في العام 2008، كانت دمشق عاصمة ثقافية للوطن العربي، وكان زياد سيقيم حفلات في قلعتها لأربعة أيام. اشترى صديقي فايز عطاف التذاكر لنا على أن نحضر الحفلة في اليوم الثاني. لم أستطع أن أتمالك نفسي، أخذت التذاكر منه وقلت له: لا أستطيع الانتظار، أريد أن أراه اليوم! سافرتُ إلى دمشق وذهبتُ مباشرة إلى القلعة علّني ألمح زياد خارجًا من بروفا، أو يتسنى لي رؤيته عن قرب، لكن القلعة كانت تغص بسوريين من جميع المحافظات، وكان الوصول إلى الصف الأول عسيرًا. وما إن بدأ زياد يعزف على البيانو مقدمة "صباح ومسا"، حتى بدأنا نردّد الأغنية فتوقف عن العزف وقال: من الصعب على أحد أن يعرف الأغنية من الثواني الأولى، كيف عرفتم؟ هكذا، تتالى العزف وتتالى تردادنا للأغاني. عزف في نهاية الحفل "وقمح"، لا أعرف لماذا بدأت بالبكاء، بكاء من حقق حلمه وحضر حفلة لزياد أم أن الموسيقى بحدّ ذاتها تنبثق من روح زياد الحزينة. قال لنا زياد في ختام الحفل: "الصراحة من وقت ما حكتنا الأمانة العامة للاحتفالية حتى نقدم هالأربع ليالي وبلشت توصلنا الأخبار كيف الجو، جوّكم والاستعدادات، تصوّرنا قد ما فينا نتصور شو البرنامج وشو بدنا نحط بالبرنامج، قالوا لنا: حافظين كل شي، اضطرينا نحط تمارين متل العادة، شفنا الجمهور حافظ كل شي فليش نتمرن؟ وإذا حافظين كل شي لشو نعمل حفلة؟ جايين كنّا نسمّعكم طلعنا عم  نسمّعلكم!

لا أذكر، بالضبط، متى بدأ ولعي بشخصية زياد ومسرحياته وأفكاره. كلُّ ما أذكره أنّ زيادًا كان جزءًا من حياتي. رافقني، شأني شأن سوريين كثر، منذ طفولتي، حين سمعتُ لأول مرة أغنية "سألوني الناس عنك يا حبيبي"، وعرفتُ أن من لحّنها هو ابن فيروز الذي اسمه زياد. تعود الأغنية إلى ذاكرتي في برلين كلما خرجتُ من أمسية شعرية وحيدة وما من يدٍ تمتد إليًّ.

 كنتُ مراهقة أعيش في قرية بعيدة، أتبادل الكاسيتات مع صديقاتي. أتذكر أنّي سمعت لأول مرة مسرحية "سهرية" مسجلة على كاسيت في بيت المطرب عصام الخطيب الذي كان شيوعيًا وأعمى. هل يمكنك أن تتخيل كيف يتحول الصوت إلى شخص وترسم ملامحه الساخرة وتعشقه؟ للحظة كنتُ أتخيل نفسي مكان المطرب عصام، يسمع فحسب من دون أن يرى الشخصيات، بل يرسم خيالات فحسب. ثم حصلت على كاسيت الجزء الأول من مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" ولم يتسنَْ لي الحصول على الجزء الثاني. كنتُ أضع المسرحيتين في المسجّلة بالتناوب، حتى إنّي حفظتُ بعض مقاطعهما غيبًا، كما لو أن أحدًا سوف يمتحنني بمقاطع المسرحية، كذلك كان الأمر بالنسبة لـ "نزل السرور" و"فيلم أميركي طويل".

سيطول بنا الوقت كثيرًا حتى نرى تلك الشخصيات "رشيد، ثريا، زكريا، المعلم نخلة...رضا" وغيرهم. غير أننا، في الوقت نفسه، سنبقى أسرى لتلك الأصوات التي شكّلتنا ولجمل زياد المسرحية التي أخذت تدور على ألسنتنا، وغدت جزءًا من حواراتنا وسخريتنا من واقعنا. يمكنني أن أقول إن زياد ساهم بتشكيل وعي كثيرين منا وغيّر مفاهيمنا من دون أن يدّعي أنه منظّر ثوري.

لم يصنع زياد هالة حول نفسه، ولم يُخف حياته الشخصية وخساراته وخذلانه. كان يشبهنا، نحن رفاقه، يحبّ وينكسر، يدخّن ويشتم بألفاظ بذيئة، ينتقد ويجرح. كان فوضويًا مشاغبًا، يسخر من الجميع، كارهًا للسلطة، يساريًّا حقيقيًا لا يُخفي دعمه للمقاومة. ببساطة، كان إنسانًا عاديًا، وهذا ما جعلنا نرى فيه الرفيق لا القديس، هذا ما جعله قريبًا إلينا مثل فرد من العائلة، نختلف معه ونشتمه وفي الوقت نفسه نبكي معه.

برحيله لا نفقد الموسيقيّ والمسرحي فحسب، بل نخسر صوت المقهورين والحالمين

"وراء كل امرأة عظيمة ولا حدا...الله خلقها عظيمة، مش ضروري يكون حدا وراها".

ربما كانت تلك العبارة من أكثر العبارات التي جعلتني أعشق زياد الرحباني، وأفهم انحيازه للمرأة المنكسرة في علاقتها بالرجل. في مرات كثيرة وأنا أسمع "كيفك أنت"، لا سيما تلك الرقة والخذلان المنبعثين من صوت الكمان، كنتُ أعتقد أن زياد يكتب عني وعن نساء كثيرات خذلهن الحب وأوقع بهنّ من شاهق. لكن المرأة بطبعها قادرة على الغفران دومًا حين يرمي لها حبيبها بكلمة "شو بيصير لو تنوي ترميلك كلمة حلوة كلّ اللي حملته منّك برجع بتحمّلو"، كما في أغنية "قال قايل عن حبي وحبك مش حلو ذكّرني بحياتك هالحب قديه إلو ". الرجل الذي يترك المرأة فريسة الشك بعد علاقة طويلة لا تعرف المرأة الفكاك منها في "كبيرة المزحة هيك" و"يا سلام على حبك يا سلام"، وبرغم جميع تقلبات هذا الرجل، تكتب له المرأة الشعر والنثر ولا تفقد ثقتها به لأنه "فيه ناس كتير لكن بيصير ما فيه غيرو". هل كان زياد يعيش تفاصيل حياتي، على سبيل المثال، حتى يكتب أغاني توجعني؟ كيف يمكن أن يتغلغل رجل في أعماق امرأة إلى هذا الحدّ ويكتب عن الخيبة والخذلان والحزن والثقة إن لم يكن زياد الرحباني؟

"أنا ضد الكل... وبنحاز للناس".

اختلفتُ وأصدقاء كثر في عام 2011 بسبب زياد الرحباني ومواقفه من الثورة، وتحوّل الخلاف إلى قطيعة مع بعضهم. لم يكن دفاعي عنه لأنّي معجبة بمسرحياته وأغانيه، بل مثل من يدافع عن رفيق مسيرة طويلة، رفيق قد لا أتفق معه لكنّي مستعدة للموت في سبيله. أفكر الآن: هل كان زياد رائيًا ويعرف أن الطريق الذي سلكته الثورة في سوريا لن يودي إلا إلى مزيد من العنف والدمار؟

طال صمتُ زياد في الفترة الأخيرة، وربما زاد اغترابه في هذا العالم القبيح، فكان عليه أن يرحل، لأن العالم لم يعد متسعًا لجمال مثل هذا.

مات زياد الرحباني.

وبموته، أشعر أن جزءًا مني قد مات أيضًا، جزءًا من ذكرياتي وماضيَّ سوف أدفنه معه. فأنا لا أفقد صديقًا رافقني منذ الطفولة فحسب، بل تاريخًا مليئًا بالحب والحروب والفقد والحزن والخيبات والانكسارات والأحلام. مات ذلك الجزء الأحب إليّ، مات المتمرد الشجاع الصادق. وبرحيله لا نفقد الموسيقيّ والمسرحي فحسب، بل نخسر صوت المقهورين والحالمين، نخسر من علّمنا أن نخلق الفرح من قلب القهر والأمل من قلب اليأس.

يرسل لي صديق حضرت وإياه حفلة زياد رسالة يقول فيها: "زعلت من كل قلبي كأنه حدا من عيلتي توفى"، أما صديقي الآخر فيرسل لي: "ليش مات، ليش؟ أنا مخنوق"، فيما ابن أخي يقول لي: "كانت أغاني زياد ملجأً لي حين تخلى عني الجميع بعد اعتقالي"!

أتابع من ينعونه على صفحات التواصل الاجتماعي، كأنه رفيق الجميع، رفيق الحب والمقهى والثورة. تحولت صفحة "فيسبوك" إلى خيمة عزاء كبيرة، نعزي فيها بعضنا بعضًا برحيل رفيقنا زياد.

يرحل زياد. وكما اعتدت أن أردّد إحدى أغانيه أو جمله الساخرة في كل موقف يحصل معي، أدندن بحزن:

"ودايمًا بالآخر

فيه آخر

في وقت فراق

فيه وقت فراق.

بكرا برجع بوقف معكم

إذا مش بكرا البعدو أكيد

أنتو احكوني

وأنا بسمعكن

حتى لولا الصوت بعيد".

حزينة، كوجه المجدليّة

منذ متى وإسرائيل تخاف على السوريين وتنصّب نفسها قاضيًا للصلح بينهم؟

هنادي زرقة
نريد أبناءنا أحياء

سوف يبقى النضال السلمي للنساء في الكشف عن مصير أحبائهن من أصدق وأنبل أشكال النضال الإنساني، هؤلاء الأمهات...

هنادي زرقة
صنع الله ابراهيم ونحن في رواياته

حين سألت صنع الله ابراهيم عن شخصية عبد الناصر في روايته الأخيرة "1970"، والتي أسبغ عليها صفات جعلتنا نتعا...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة