عبد الناصر والعرب الذين لا يحبّون البنادق

لقد كان السؤال المطروح في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو ما إذا كان العرب مضطرين إلى التورط في هذا الصراع، أم أن عليهم أن يأخذوا خطوة إلى الخلف. فإذا كان على الفلسطينيين أن يندثروا، فليس على العرب أن يرافقوهم في هذا الاندثار.

عندما نتجادل في التاريخ، فإنّ ما يهم حقًا ليس سؤال الحقيقة، إنما سؤال الأيديولوجيا. فالتاريخ في الحاضر هو حجاج سياسي يرتدي ثوب المعرفة الموضوعية. يجب أن يكون هذا واضحًا عندما نتساءل عن حقيقة مواقف عبد الناصر ودلالاتها في واقع صراعنا اليوم. ولذلك، فإن ما أقترحه بوضوح هو أن نبدأ النقاش بالعكس، أي بالظبط من جهة الحجاج السياسي. وأعتقد أن ما سننتهي إليه عبر هذا النهج سيبدو كاشفًا بشكل مثير.

الآن، بخصوص الحجاج السياسي. مازال كثير من المعلقين العرب يصرّون على اعتبار التناقض الرئيسي في المسألة الفلسطينية عبارة عن تناقض بين أطروحتين، لنسمِّ الأولى مبدئيًا "أطروحة التسوية" التي تقوم على حل الدولتين، إسرائيل على الأرض التي احتلتها سنة 1948 وتحظى سيادتها عليها بالاعتراف الدولي، ودولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ولنسمّ الثانية مبدئيًا كذلك "أطروحة التحرير" التي ترفض التنازل عن أراضي فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، باعتبارها أرض الشعب الفلسطيني العربي.

يقفز هذا النقاش على واقعة صلبة، وهي أن التسوية لم تُعرض لمرة واحدة بجدية من الأساس. فالاتفاق الإطاري بخصوص الضفة الغربية وقطاع غزة الذي أُلحق بمعاهدة السلام المصرية ــــ الإسرائيلية سنة 1979، لم يتضمن شيئًا يتجاوز منح الحكم الذاتي المحدود لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" في اتفاق أوسلو لعام 1993، مع وعد بمفاوضات غير محدّدة للتوصل إلى حل نهائي لا يتضمن بالضرورة دولة فلسطينية على حدود 1967. وعندما ذهب ياسر عرفات إلى كامب ديفيد سنة 2000 من أجل الحصول على دولة على حدود 67، لم يلقَ من الرئيس الأمريكي "الكيوت" بيل كلينتون إلا التقريع لأنه لم يتنازل عن كل شيء في تلك الدولة حتى يحصل عليها.

يفترض كثير من هؤلاء المعلقين في المرحلة التالية أن المشكلة هي أن إسرائيل لم تطمئن إلى جدية العرب في إنهاء الصراع حال القبول بدولة فلسطينية على حدود 67، وهو ما حرمها من الدوافع الكافية لإنجاز تلك المهمة. لكن هذا الحجاج ينتهي بحيلة دائرية إلى استحالة التسوية. فإذا كان من المتوقع دومًا أن يبقى بين العرب مجموعة من "المتشددين" أو إن شئت "المتطرفين"، المتمسكين بكامل فلسطين التاريخية، فإن إسرائيل لن تطمئن أبدًا، ومن ثم فإننا لن نصل أبدًا إلى التسوية.

يقفز هذا الجدل السفسطائي على الواقعة الصلبة الأخرى، وهي أن إسرائيل منذ احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، لم تأل جهدًا في مسعاها لتقويض أي إمكان لحل الدولتين. لقد صدر قانون ضم القدس بعد أقل من شهرين من احتلالها، ثم تلا معاهدة السلام مع مصر انفجار النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، بحيث صار واضحًا لكل ذي عينين، غير مربوطتين بعصابة التطبيع، استحالة أن تتخلى إسرائيل طوعًا عن الضفة الغربية.

الآن، هل يجب أن نذهب إلى التحرير؟ إن هذا لا يمثل سوى مزيد من الانسياق وراء الجدل البيزنطي الذي لا يخدم سوى تغطية شهوة التطبيع المتوهجة في قلب كثير من المثقفين العرب، دع عنك حكامهم. إن المسألة ببساطة ليست في التناقض بين حلول مقترحة، إنما في أن هناك عقبة كأداء في أي حل، هذه العقبة هي ببساطة وجود إسرائيل كدولة يهودية في حد ذاته.

لقد تحوّل تخلف العرب ليس فقط عسكريًا، وإنما تقنيًا، إلى شرط لوجود إسرائيل

إذا لم يكن هذا هو التناقض الأساسي في المسألة الفلسطينية، فيحب علينا، بالتأكيد، أن نتساءل عما هو هذا التناقض! لقد كان السؤال المطروح عبر تاريخ طويل في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو ما إذا كان العرب مضطرين إلى التورط في هذا الصراع، أم أن عليهم أن يأخذوا خطوة إلى الخلف، وأن يتركوا الفلسطينيين ليواجهوا قدرهم أو سوء طالعهم. فإذا كان على الفلسطينيين أن يندثروا، فليس على العرب أن يرافقوهم في هذا الاندثار.

لقد تكرّر هذا الجدل في كل بلد عربي تقريبًا. لدينا في مصر دبلوماسي مصري سابق عائد من تل أبيب يذكّرنا كل صباح بالحصاد المر للكفاح المسلح ولخطابات التحرير والمقاومة والمواجهة مع العدو الإسرائيلي. ولديهم في السعودية ذباب إلكتروني يقوده أحد رجال ولي العهد بنفسه، وبحساب يحمل اسم أحد أكبر مجرمي الإبادة الجماعية في التاريخ، يرددون الأفكار نفسها. وفي أبو ظبي زعيم عربي يرى في إسرائيل أعز حلفائه في الإقليم.

إن هذه هي المسألة التي يجب علينا جميعًا أن نواجهها بشجاعة، ودون مناورات ترفع شعارات العقلانية والموضوعية والواقعية السياسية والبحث عن المصلحة الحقيقية للشعب الفلسطيني في العيش النعامي تحت ظلال الاستعمار الوارفة. لقد كان هذا في الواقع هو النقاش الأساسي في الثقافة العربية عبر سنوات، يتخفى أحيانًا بأقنعة التراث والحداثة والأصالة والمعاصرة، لكنه لا يلبث يُسفر عن وجهه في اللحظات المفصلية، عندما تُدك بيروت، أو تباد غزة، أو يُحاصر عرفات في مقره في رام الله إلى الموت.

إن المسألة برمتها هي أن العرب لن يتجاوزوا واقعهم التاريخي المريض بالسلطوية والتنمية المعاقة في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي. تبدو تلك المقولة مبالغة تاريخية في نظر كثير من المعلّقين العرب الذين يرون المعضلة في الثقافة العربية أو الريع العربي، أو حتى إن شئت في حماقة العرب المتمثلة في صراعهم مع إسرائيل.

لكنّ واقعنا الموضوعي يقول إن الإمارات العربية المتحدة تبقى دون الثقة الأميركية التي تمنحها مقاتلات جوية من الطراز الأرفع بفعل وجود إسرائيل، وأن امتلاك إيران مشروعًا نوويًا هو أمر مرفوض أولًا وقبل كل شيء لحفظ أمن إسرائيل، وأن مصر صاحبة معاهدة السلام مع إسرائيل منذ نصف قرن، والملتزمة بأمن إسرائيل وحدودها وبمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، تعاني إلى اليوم للحصول على صواريخ جو ــــ جو تتجاوز مدى الرؤية.

لقد تحوّل تخلف العرب ليس فقط عسكريًا، وإنما تقنيًا، إلى شرط لوجود إسرائيل. وتحوّلت الديمقراطية العربية إلى تهديد للنظام الإقليمي المرعي من الولايات المتحدة، بما هي تهديد محتمل لإسرائيل. وتحوّلت السلطوية العربية إلى شرط لإبقاء العرب تحت السيطرة. إن مسألة المواجهة مع إسرائيل هي لذلك مسألة اختيار سياسي، والتمحور العربي نحو إسرائيل هو تمحور قائم على أساس بنيوي عميق: رفض الديمقراطية سياسيًا، وحماية النمط الريعي اقتصاديًا.

لقد ظلت الطبقة الوسطى المصرية، والعربية عمومًا، فاقدة لإرادة القتال وللاستعداد لدفع ضريبته الاقتصادية

من هذا الحجاج السياسي يمكننا أن نعود إلى عبد الناصر. لقد حل عبد الناصر على رأس الدولة المصرية بوعي غير ناضج بحقيقة واضحة، وهي أن الاستقلال ليس مسألة وطنية فحسب، إنما تقع في القلب من أسئلة التحديث والتنمية عربيًا. واختار عبد الناصر لذلك، غير مضطر في الحقيقة، أن يتبنى القومية العربية واعيًا بأن المواجهة مع إسرائيل ليست خيارًا إذا كانت مصر جادة في أن تتجاوز وضعيتها كبلد متخلّف وتابع.

لم تمنح إسرائيل عبد الناصر فرصة للتفكير أو المناورة. وفي غضون أعوامه الأولى، شنت غارات دموية عدة على المواقع الحدودية المصرية. سيناريو تكرّر بحذافيره في الأيام الأولى للنظام السوري الجديد، والاستراتيجية الإسرائيلية واحدة: تُفاوض تحت النار، وعين حمراء تقول إن عليك أن تخضع لشروطي لأنك لن تحتمل عنفي. لقد ظل عبد الناصر مع ذلك، عبر سنواته التالية، متخبطًا في التناقضات السياسية داخل نظامه، والمعضلات الاقتصادية التي واجهها، ويرى إمكانية أن يرجأ الصراع مع إسرائيل إلى الما لانهاية.

ما يكشف عنه محتوى الحوار الذي ظهر تسجيله أخيرًا بين عبد الناصر والقذافي ليس قبول عبد الناصر بحدود 67، فهذا القبول هو أصلًا موقف رسمي قرره عبد الناصر في حياته عندما قبِل بمبادرة وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز (من المفارقات أن نعيد اليوم الاندهاش لخبر أن ناصر قبِل بـ"مبادرة روجرز"، أو أن نعيد اكتشاف ما كتبه ياسين حافظ منذ السبعينيات عن أن عبد الناصر هو آخر ممثّل للعقلانية في السياسة العربية). لم يكن هذا هو موقف السادات لاحقًا كما يروّج الساداتيون القدامى والجدد. فالسادات لم يقبل بحدود 67، بل قبل بالتخلي النهائي عن المسألة الفلسطينية والقفز عنها (نظرية الفلسطينيين سيئي الطالع الذين لا يجب أن يندثر العرب معهم).

الجديد والمهم في هذه المقابلة هو تأكيد حقيقة أن عبد الناصر بوصفه ممثلًا للطبقة الوسطى العربية (البرجوازية الصغيرة إن شئت الاقتراب من الصيغ الماركسية الكلاسيكية) ظل مفتقدًا لإرادة القتال افتقاده إرادة التنمية في مصر. على مدى الخطة الخمسية الأولى، لم يجرؤ عبد الناصر على أن يصارح الطبقة الوسطى المصرية بما يعلم أنها لن تتحمله ولن تقبل به، وهو أن التراكم الأولي في مصر لا يمكن أن يتحقق مع سياسات التوظيف الشامل في الجهاز الحكومي، وتشجيع الاستهلاك.

وعوضًا عن أن يوظف عبد الناصر سلطويته في تجريع الطبقة الوسطى المصرية الدواء المر على غرار ما جرى في سنغافورة والصين وفيتنام ويقدّم نموذجًا للجدارة السياسية، تحوّلت السلطوية إلى عبء عليه وعلى التنمية في مصر، يدفعه إلى استرضاء النهم الاستهلاكي للطبقة الوسطى المصرية على حساب المالية العامة المأزومة بالفعل.

لقد ظلت الطبقة الوسطى المصرية، والعربية عمومًا، فاقدة لإرادة القتال وللاستعداد لدفع ضريبته الاقتصادية. وعندما كان الشباب المصريون يجندون للقتال خلال سنوات الحرب مع إسرائيل، كان الهاجس الأساسي لديهم هو موعد العودة لالتقاط الوظيفة الحكومية المنتظرة بعد التخرج بشهادة جامعية ليس لها من صفة الشهادة الجامعية سوى الاسم.

إذا كان ماركس قد أطلق على تلك الفئة "البرجوازية الصغيرة"، فإن وصف الصغر عنده لم يقصد به ثروتها فحسب، إنما حقارتها أيضًا. فهي طبقة ذات نزوع كلبي (المقصود هنا ليس الشتيمة، وإنما الفلسفة الكلبية التي تدعو إلى التكيف مع الأوضاع السيئة)، تسعى إلى التكيف مع ظروفها مهما كانت تلك الظروف وضيعة.

هكذا، ظلت الطبقة الوسطى العربية على مدى عقود تشكو إفقارها وحرمانها، ثم تخرس عندما يُلوّح لها بالحرب أو الثورة تهديدًا مقبلًا. ليس معنى هذا بالتأكيد أن الحرب أو الثورة هي خيارات نبشر بها. فالعدوانية أبعد ما تكون عن فكر صادق يسعى إلى تحرير البشر من الطغيان والاستغلال. لكننا، في الواقع، نتحدث عن الدفاع عن النفس، عن آخر معاقل الكرامة الإنسانية والعيش الكريم، فينا.

كان عبد الناصر رمزًا للطبقة الوسطى العربية في طموحها إلى الاستقلال والحرية والتنمية، لكنه أيضًا كان رمًزا لها (أو للبرجوازية البيروقراطية كما كتب خليل كلفت في وصف نظام عبد الناصر) في نزعتها الاستهلاكية والكلبية. قبِل عبد الناصر بخيار التسوية، كما قبلِه في الواقع أغلب العرب، بما في ذلك كثير ممن يوصفون بالمتشددين، وهو خيار يمكن تبريره سياسيًا. وأدرك عبد الناصر كما لم يدرك خصومه أن هذا الخيار التسووي نفسه لم يكن ممكنًا من دون قتال، ورفض عبد الناصر ما قبِله السادات من التخلي الكامل عن القضية الفلسطينية، لكنه بعد ذلك افتقد إرادة القتال والاستعداد لدفع ضريبته.

والمسألة اليوم ليست مسألة عبد الناصر وتاريخه، إنما مسألة تجدد الخيار أمام الطبقة الوسطى المصرية والعربية: لنتحرّر من عقدة الأب مع عبد الناصر، ولنصارح أنفسنا، هل نحن مستعدون للدفاع عن وجودنا، أم أننا نفضل الموت التاريخي بسلام؟

قصور وديون: أيام تشاوشيسكو الأخيرة

لا يشبه المجمع الرئاسي في مصر كثيرًا في طرازه معمار "بيت الجمهورية" الذي بناه الرئيس الروماني نيقولا تشاو...

محمود هدهود
حرب الضرائب الأميركية: الإمبراطورية في خطر؟

لا خلاف على أن أثر سياسات ترمب في صيغتها الحالية كارثي على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. لكن ما زال...

محمود هدهود

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة