ما زال حيًا: عن زياد الرحباني

بين زياد الرحباني وكُتّاب أوروبيين نهضوا بمهمة التحريض اليساري وتفجير العناصر الثقافية المؤسِّسة لرضى المجتمعات عن نفسها، الكثير من التقاطعات. تقدّم هذه المادة زياد الرحباني من زاوية مُقارنة.

إثر فشل مشروع الطالب الجامعي الثوري، جورج بوشنر، في تجييش مزارعي منطقة "هيسين" ضد سلطات الإقطاع في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لاحقته قوات الأمن الألمانية فهرب إلى مدينة ستراسبورغ الفرنسية. هناك، وبعد اختباره المرعب لشيطان النظرية واستحالة عملية التحويل الثوري كما تخيلها، استنتج بوشنر الشاب ما يلي:

"من يحاول المواجهة اليوم، سيبيع جلدَه مثل أي أحمق في السوق". كما استنتج أن جلّ ما يمكن للمرء فعله في اللحظة التاريخية القاتمة تلك هو أن يخلد إلى "الانتحار الراقي عبر العمل".

كتب بوشنر بعد ذلك ثلاث مسرحيات لم يشاهد أيًا منها تُنتج. أغوى ابنة رجل دين، وقدّم دكتوراه علوم في تشريح سمكة، ودكتوراه أخرى في الفلسفة، ومات سنة 1837 وعمره ثلاث وعشرون سنة. 

فوجئ زياد الرحباني (الكهل وقتذاك) في حفلاته الموسيقية بدمشق، في صيف 2008، بكون الجمهور السوري يحفظ إنتاجه عن ظهر قلب. كان زياد الفنانَ البديلَ الوحيد منذ الشيخ إمام الذي يعرفه الناس بهذا النوع من الإخلاص الشخصي في العالم العربي بأسره. وما يُقال عن موسيقاه يقال عن مسرحياته الأربع التي كتبها وأخرجها بين 1975 و1984.

ما وجه الشبه؟

يكمن الشبه في ما يدعونا لاعتبار زياد "جرحًا مفتوحًا" لا يلتئم، كما كان يحلو لهينر مولر تسمية مسرحية بوشنر الأشهر، وغير المكتملة، "فويتسيك".

عكف زياد، ومن عمر المراهقة أي في الخامسة عشر (باشر بوشنر الكتابة في السابعة عشر تقريبًا)، إلى "الانتحار الراقي عبر العمل"، بمعنى ما. فقد كان الفنان الوحيد (وهنا الاختلاف الثقافي الجوهري برأيي عن الشيخ إمام) الذي يتحدث عن الأمل، ممارسًا في الوقت ذاته عدمية الفنان التجريبي، ومعبّرًا عن حساسية ضروب تدمير الذات بأدقّ، وأعقد، وأبسط كتابة بَلغَتها العامية اللبنانية حتى اليوم. 

في مسرحه، عكف المراهق ــــ الذي قال مرة إن الله صديقه ــــ على تفنيد خيانة الطُفيلي الشعبي المُعمّم للثورة، ليقول بعد ذلك في لحظة نضجه إن أسطورة لبنان الخدمات هي وجه آخر لدعارة عائلية، وليُمسرح لاحقًا الحرب الأهلية في مستشفى مجانين، ثم يقوم بقتل أبٍ فنيٍ نهائيًا في مسرحية تحتفي بالفشل حتى في عنوانها. 

أنجز زياد هذا كله في المسرح الذي صُنع في سني الحرب الأهلية العشر الأولى وانتقل إلى العالم العربي باعتباره مسرحًا إذاعيًا. ستلعب مسرحياتُ زياد المكتوبة بالعامية ضمن المسرح العربي الدورَ الذي أداه، منذ الستينيات، كُتّاب مختلفون في أوروبا على مستوى التصدي لـ"مؤثر الواقع"، في منافسة مع السينما وأكثر منها التلفزيون من جهة، والنهوض بمهمة التحريض السياسي اليساري وتفجير العناصر الثقافية المؤسِّسة لرضى المجتمعات ما بعد الصناعية عن نفسها من جهة ثانية: من داريو فو في إيطاليا، إلى توماس بيرنهارد في النمسا، مرورًا بالصياغات الأشرس مع بدايات إدوارد بوند وهوارد باركر الإنكليزيَّين، وصولًا إلى هَوَس الفرنسي ميشيل فينافير في تشريح اليوميّ واللعب في طباقات نُتف الحديث التافه المُعتاد للمواطنين المُغرّبين اجتماعيًا، إذ يحاولون الصمود أمام نظام يعتبر حتى فكرة الفشل جزءًا من خطته. 

صنع زياد ذلك جاسرًا الهوّة بين الكتابة المسرحية والجمهور. صنع ذلك عبر صيغ مباشرة متفاوتة البراعة لكن فعالة دائمًا. صيغٌ لا تعبأ ظاهريًا بحرفة المسرح الفني وتاريخه، لكنها ذات مضاءٍ سياسيٍ وشراسةٍ تقويضيةٍ كوميدية، تكشفان زيفَ المسرح الكوميدي التجاري المُكرّس برمزيه السوري والمصري دريد لحام وعادل إمام. 

فجّر زياد ضيعة أهله الرحبانية المثالية ثلاث مرات: مرة في بار وسط الحرب، وثانية في مستشفى مجانين، ومرة ثالثة بمسرحية لبنانية لا تكتمل

فلنفكر بقول توماس بيرنهارد إنه "يتقيأ النمسا"، الذي يجد صدى لدى زياد في وصفه لُبنان بكونه "الموزع الحصري للقرف"، أو سكيتش داريو فو الشهير الذي يلتهم في جوعه على خشبة فارغة خصيَته في "ميستر بوفو"، فيما يتحدث زياد عن رائحة "الخراء" التي شمّها عندما فتح منخاره بعد عملية طبيّة. 

يذكّر هذا كلّه كثيرًا بعالَم المخرج الأميركي الراحل بوب فوس، في فيلمه الشهير "كل ذلك الجاز ــــ All That Jazz" ــــ 1979، حيث يصمّم مخرج ميوزيكال، يؤديه روي شايدر في برودواي، عرضًا نهائيًا لحياته، أو لموته بشكل أدقّ. في فصل الفيلم الأخير، يرقص شايدر ويُنشد أغنية يودّع فيها الحياة ويرحّب ضاحكًا بالوحدة، متأملًا وَجه جيسكا لانج (ربة إلهامِه) الساحر، فيما يُغلّف الأطباء جثته بالبلاستيك قبل إرساله إلى براد الموتى. 

بعد خمسة وثلاثين عامًا من الاستماع إلى مسرحية زياد "بالنسبة لبكرا شو؟"، فهِمنا أخيرًا عندما شاهدنا العرض المصوّر والمُمنتج من آلاف أمتار السيليوليد في صالات السينما، أن زياد (زكريا) كان يرقص في أداء مبهر، محاصرًا زوجته ثريا (نبيلة زيتوني) كلما حاولت التملص من الرقص للزبون الخليجي في ذلك البار في قلب الحرب الأهلية. رأينا زياد يقفز برشاقة عبر شباك وسط الباب إلى المطبخ. وفهما سبب جزء من الضحكات التي سمعناها مرارًا. عرفنا أخيرًا أن أغنية "عا هدير البوسطة" كانت تُغنى في ميوزيكال فقراء قاسٍ، يبيع فيه زكريا زوجته وسط ضحكٍ عميقٍ ومؤلمٍ يُشبه ازدحام الصور والأزمنة في نهاية فيلم فوس الاستعراضية الباروكية تلك.

يحضر بوب فوس إذ نفكر بزياد بشكل أعمق عبر فيلمه المؤثر "ليني" ــــ 1974. يروي الفيلم حياة ليني بروس، فنان "الستاند آب كوميدي" الأميركي الذي تحدّى أخلاقيات أميركا الستينيات قبل أن تدمره الكآبة والإدمان. ولعلّ مونولوغ زكريا، حين يحاول تبرير فعل الدعارة لنجيب، طباخ المطعم، في "بالنسبة لبكرا شو؟"، هو الأقرب في عالم زياد للحظة انهيار ليني على الخشبة أمام الجمهور في فيلم فوس. ينتظر الجمهور من ليني الاستعراض الفضائحي لذاته المشوّهة ليضحكوا، فيُحدثهم ليني بلحظة عن فيتنام. وعندما لا يضحكون، يقول: "لا تغادروا، لم أقل بعد عِبارة مص الـ..." ــــ هذه العبارة المُعادِلة لدى زياد لمصطلح "جرّصنا..."، وهو يضحك في خلفية بعض أغانيه، أو إصراره الماركسي العتيد على كلمة "تاريخ" إذ يضحك مختنقًا في أغان أخرى مثل "مربى الدلال": "بتحكيلوا بالتاريخ؟! ههههه". 

رأى زياد في الحرب الأهلية مصحًا عقليًا في مسرحية "فيلم أميركي طويل" (وبرغم وضوح الإحالة الى فيلم فورمان، "طيران فوق عش الوقواق" ــــ One Flew Over the Cuckoo's Nest، إلا أن المقارنة مع "مارا ساد"، مسرحية بيتر فايس الشهيرة، جائزة تمامًا، ولا استبعد أن يكون زياد قد شاهد فيلم بيتر بروك عن إخراجه لهذه المسرحية). وضع زياد نفسه عبر شخصية رشيد وسط هذا المصح ليتحدّث عن مشكلة في أساس الفرد ذاته ("الفرد اللي بيفرد": تحدث في لقائه الشهير مع جيزيل خوري عن كون رشيد لا يذكر الطائفة أبدًا)، وهي مشكلة في روحه وربما في الفيزيولوجيا. 

تُقابلنا لدى بوشنر صورة مماثلة لهذه المشكلة الأنطولوجية في فويتسيك:

"كل إنسان هاوية تُصاب بالدوار إذا ما انحنيتَ لتتأملها".

يعرف زياد، الذي عَنون احدى قطعه الموسيقية "أمراض داخلية مزمنة"، عما يتكلم: كشفُه لتلك الأمراض هو اختراق في الذائقة الفنية العربية سيبقى جرحًا مفتوحًا برغم تطويب صاحبه أسطورة، لعل معناها الحقيقي سيبدأ مع نزيف هذا الجرح المستمر.

في عالم زياد المُركّب ما هو أعمق من السطح المُكرّس الذي جعل من زياد نمطًا ثقافيًا ثابتًا وقابلًا للاستحواذ

 فجّر بوشنر في مسرحيته "فويتسيك" غير المكتملة (مات بوشنر تاركًا ثلاثة دفاتر يحمل كل منها صيغة غير مكتملة من المسرحية، ومختلفة عن الصيغ الأخرى) بنية النص الدرامي في زمنه، قاتلًا كلًا من شيلر وغوته، نموذجَي الأدب في عصره. في المقابل، فجّر زياد بدوره ضيعة أهله الرحبانية المثالية على صيغة قرية "بريغادون"، فيلم فينسينت مينيللي الموسيقي الشهير. فجّرها بمسرحَة بلد بأكمله ثلاث مرات: مرة في بار وسط الحرب لا تُذكر الحرب ضمنه قط، وثانية في مستشفى مجانين يبدأ بهارمونيكا إنيو موريكوني التصويرية وينتهي بكمنجة ليلة حب، ومرة ثالثة بمسرحية لبنانية استعراضية لا تكتمل. 

كان فرانتس فويتسيك جنديًا أربعينيًا فقيرًا في دارمشتات، يعيش مع امرأة تصغره بعشرين عامًا، وله منها طفل. اكتشف أنها تخونه مع جندي آخر فقتلها. حوكم وأعدم لاحقًا. من هذه القصة، ومن محضر المحاكمة التي ناقشت مطولًا جنون فويتسيك في تقرير طبي شهير، صنع بوشنر مسرحيته سنة 1837 مقدّمًا أول بطل بروليتاري لتراجيديا في تاريخ الأدب المسرحي الغربي، وعملًا قلقًا أصبح جذر المسرح التعبيري في عشرينيات القرن الماضي، وصلت أصداؤه حتى فيلم ديفيد لينش "الرجل الفيل" (The Elephant Man).

يصنع زياد مع زكريا في "بالنسبة لبكرا شو؟" في نهاية السبعينيات معادلًا لبنانيًا: المجند الألماني المهووس ذو الذهن المشتّت والرؤى الانجيلية، يغدو هنا مديرًا لبنانيًا صغيرًا لصناعة دعارة أسرية ستُعين البروليتاريين في التحوّل إلى برجوازيين صغار. يركض فويتسيك الذي يعمل حلاقًا لكي يجد ما يسدّ رمقه أيضًا، ويجادل زكريا زوجته ثريا في بداية المسرحية بخصوص سيارته وضرورتها، مستغربًا في الوقت نفسه مرور زبائن تغطي جنسياتهم "حلف شمال الأطلسي" على جسدها دون أن يتمكن من دفع فواتير أثاث صالون بيته. يقود ذلك كلّه زكريا وفويتسيك إلى الجنون وفعل القتل أو الشروع فيه.

كذلك هي حال رشيد، بطل "فيلم أميركي طويل"، والشخصية الكبرى الأخرى في عالم زياد المسرحي. يؤمن رشيد بمؤامرة كبرى، فيما تلتصق أُذن فويتسيك بالأرض إذ يهمس لأندريس صديقه مرتجفًا: "الماسونيون...". تكاد جمل رشيد وفويتسيك تكون واحدة: "إشارات بتجي من الأرض وبتدخل عـ دماغه، فبيِعكُف". تتحد الطبيعة المادية عند بوشنر وزياد بالطبيعة البشرية، لتشكل وجودًا قلقًا تتداعى فيه حدود الزمان والمكان، في ضياع كلي لن يؤطره سوى الجهاز: جهاز الأمن ـــ التمريض لدى زياد، وقبالته جهازا الجيش والعِلم لدى بوشنر: ضابط الثكنة الساخر والطبيب الذي استأجر جسد فويتسيك لستة أشهر ليدرس تحوّلات بول هذا الأخير إن اقتصرت تغذيته على الحمّص لستة أشهر.

تتوالى التقاطعات والتقابلات بين المُبدعين، وتُغري بأن يتتبعها المتلقي في سرنمة مُسكرة. في عالم زياد المُركّب ما هو أعمق من السطح المُكرّس الذي جعل من زياد أيقونةً ونمطًا ثقافيًا ثابتًا وقابلًا للاستحواذ في آن. زياد الذي يبكي لصورة طفلة تتدرب على البيانو وسط الحرب الأهلية ويضحك في الوقت ذاته، معتبرًا أن المرأة لا تغدو خطيرة إلا إذا نزفت، يُشبه هجنة مدينته بيروت. بيروت التي تعامل معها باعتبارها مشكلة، بفخرٍ خفيٍ ورهانٍ مستمرّ عليها، مثل سر يفضح نفسه باستمرار ليبقى سرًا.

ألا يشبه هذا في مكان ما "الانتحار الراقي عبر العمل"؟

يقول مقربون في المقابلات التي تلت رحيل زياد إنه عزل نفسه كليًا منذ السابع من أكتوبر في قرارٍ واعٍ. 

أتفرج على مسيرة محبيه الحمراء في شارع الحمرا في بيروت، وأتذكر انصهار أنفاس الناس في قلعة دمشق مع موسيقا "قمح".

 أتجوّل بين مسرحياته وموسيقاه واشتغالاته الصحفية والإذاعية، ثم أتذكر مشيي لأول مرة في شوارع مدينة القاهرة القديمة. قلت لنفسي عندها:

يمكنك أن تقضي حياتك وأنت تتجول مع كل من يشبهك هنا. يمكنك ذلك.

أحدّق في صورة زياد وأقول: ما زال حيًا.

بريشت مُعاصرنا

اليوم، مع انتفاضة لبنان الفتية ضد "حكم المصرف"، عادت جملة شهيرة من مسرحية بريشت "أوبرا القروش الثلاثة" لت...

أسامة غنم
.. غلاماً ذكيّاً: عن اللبّاد أباً وابناً

لا أخبره أن والده قال وهو يشير إلى كتاب في مكتبة معهد العالم العربي: "هذا عمل ابني أحمد. أجدع مصمم أغلفة...

أسامة غنم
عن يوسف I وII

يرسم يوسف عبدلكي اليوم عائلة سورية أمام جدار ليس بجدار تعلوه صور موتى.أتأمل اللوحة في الحاسوب المحمول في...

أسامة غنم

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة