حرب الضرائب الأميركية: الإمبراطورية في خطر؟

لا خلاف على أن أثر سياسات ترمب في صيغتها الحالية كارثي على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. لكن ما زال كثر يراهنون على تراجع ترمب نفسه، أو على تغيير سياسي في الانتخابات القادمة، ربطًا بما يُمكن تسميته "عقلانية النظام السياسي الأميركي".

(1)

تاريخيًا، مرت الظاهرة الإمبريالية بمراحل عدّة، بدأت أولاها بالكشوف الاستعمارية في القرن الخامس عشر. ذهبت الإسبان والبرتغاليون إلى أميركا اللاتينية واستولوا على مناجم الذهب. أما الهولنديون، أسياد التجارة العالمية في ذلك الوقت، فسيطروا على رأس الرجاء الصالح والهند الشرقية (إندونيسيا). فيما باشر الإنكليز والفرنسيون، لاحقًا، ببناء المستعمرات في أميركا الشمالية، إلى جانب شروع إنكلترا في استعمار الهند، والحلول محل هولندا كسيّدة للتجارة العالمية، مع تطور الزراعة الرأسمالية في إنكلترا.

قامت الإمبريالية في تلك المرحلة على مصادرة الثروات الطبيعية من المستعمرات، أو النهب في صيغته الأكثر جلافة.

تبدأ المرحلة الثانية في منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، بعد الثورة الصناعية وانتهاء الحروب النابليونية. وتُسمى تلك المرحلة غالبًا بـ"الإمبريالية الجديدة"، حيث جرى تقسيم أفريقيا بين الدول الاستعمارية، والتعامل معها كأسواق للمنتجات الإمبراطورية وفضاءات توسع محتمل للإنتاج.

تبلور الصراع في تلك المرحلة كصراع تجاري بين الوافدين الجدد إلى النادي الاستعماري، ألمانيا واليابان وإيطاليا والنمسا، والإمبراطوريتين الأقدم إنكلترا وفرنسا. وكان في الأساس صراعًا على الدخول إلى الأسواق، انتهى بالحربين العالميتين الأولى والثانية، التي خسرها الطرفان في الواقع لمصلحة طرف ثالث من خارجهما، هو الولايات المتحدة.

(2)

المرحلة الثالثة من الإمبريالية هي المرحلة التي يمكن الخلاف أصلًا حول وصفها بـ"الإمبريالية"، نظرًا لغياب التوظيف المباشر للأدوات العسكرية تجاريًا. وقد بدأت هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية. كان للولايات المتحدة تصوّر لحل الصراع، سبق أن طرحته في نهاية الحرب العالمية الأولى، يتمثّل بإعادة تنظيم الاستعمار (وليس إلغاؤه كما فهمت الشعوب المستعمَرة مقترحات ويلسون في ذلك الوقت)، بحيث لا يتعارض مع مبدأ التجارة الحرّة الذي تبنته الولايات المتحدة.

بعد الحرب العالمية الثانية، فرضت الولايات المتحدة على فضائها الاستراتيجي ــــ أي المعسكر الرأسمالي ــــ التجارة الحرة، على اعتبار أن التجارة الحرة تضمن للولايات المتحدة مصادرة فوائض الشعوب المختلفة من دون استخدام القوة العسكرية مباشرة، بل من خلال التبادل غير المتكافئ للسلع بين دولة تنتج 35% من إجمالي الناتج العالمي، ودول ذات قدرات صناعية متواضعة جدًا.

هذا الترتيب كان محكومًا بالفشل لأسباب بُنيوية وتاريخية متعددة. من بين الأسباب البنيوية أن تراكم الفوائض الأميركية نفسه كان يتسبب في ارتفاع كلفة الإنتاج في الولايات المتحدة نتيجة تحسّن مستويات المعيشة، واضطرار الشعوب الأخرى بالتالي إلى تطوير قدرات إنتاجية أرخص لتحقيق الكفاية، وأسباب تاريخية كنهوض أوروبا واليابان سريعًا في الستينيات.

ما فعله ترمب من فرض تعريفات على الصين بشكل غير مخطط جيدًا، وتعميم التعريفات على سائر الدول، لم ينصح به أي اقتصادي

من هنا كان إلغاء معيار الذهب عام 1971 (التزام الولايات المتحدة باستبدال الدولار بالذهب مقابل التزام الدول باستعمال الدولار كعملة مرجعية للتبادل التجاري، أو ما عُرف بنظام "بريتون وودز")  ضرورة سياسية لإدارة نيكسون المتورطة في حرب فيتنام ومسؤوليات إنفاق اجتماعي ضخم، لكن الأمر كان بشكل غير مباشر تعبيرًا عن تأزم الترتيب التجاري الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب الثانية.

افتتح إلغاء معيار الذهب مرحلة جديدة من الهيمنة الأميركية تتجاوز لعبة التجارة الحرة برمتها، وتقوم بالأساس على مصادرة الفوائض المالية عوضًا عن مصادرة الفوائض التجارية، بعدما أصبح من المتعذر على الولايات المتحدة الاعتماد على قدرتها التنافسية تجاريًا.

مصادرة الفوائض المالية في الولايات المتحدة اعتمد على قدرة الولايات المتحدة على خلق أسواق مال تتمتع بحرية شبه كاملة (إلغاء تشريع غلاس ستيغال ــــ Glass-Steagall ــــ مثًلا عام 1979، وهو تشريع كان يحدّ من قدرة البنوك على استثمار الودائع المالية فيها لمنع التوسّع في المضاربة والإفلاس)، بحيث تحوّلت الولايات المتحدة إلى مركز تصب فيه الفوائض المالية لأوروبا واليابان وحتى الصين، ويقوم بتشغيل تلك الأموال أو تقديمها كتمويل لشركات عالمية مستفيدة من تحرير التجارة.

بهذا المعنى، كانت الولايات المتحدة أول إمبراطورية في التاريخ تعتمد في مصادرتها للفوائض على الهيمنة المالية، لا العسكرية أو التجارية. وفي الوقت الذي تراجع فيه نصيب الولايات المتحدة من الصادرات العالمية إلى 13%، فإن حجم سوق الأسهم الأميركي يمثل اليوم نحو 42% من إجمالي سوق الأسهم العالمي.

(3)

كان من الطبيعي أن يقود هذا الوضع إلى تآكل الصناعة الأميركية لأسباب عدّة، بينها التقييم المرتفع للدولار، لأن العالم كله يشتري بالدولار حتى لو لم يشتر سلعًا من الولايات المتحدة، وبينها ارتفاع كلفة الإنتاج في الولايات المتحدة بسبب ارتفاع سعر الدولار، وارتفاع كلفة العمالة، فضلًا عن القيود البيئية. هناك أيضًا أسباب تاريخية أهمها صعود الصين كقوة صناعية كبرى يصعب منافستها.

لمواجهة تلك المعضلة، تحاول إدارة ترمب أولًا مواجهة الأسباب التاريخية المتمثلة في صعود الصين عبر فرض التعريفات عليها، على أمل أن يتسبّب ذلك في تقليص النمو الصيني وإفساح مجال في المقابل للولايات المتحدة. ثانيًا، يقترح ستيف ميران، مستشار ترمب الاقتصادي، إجبار الدول عبر التهديد بالتعريفات الجمركية على رفع قيمة عُملتها في مقابل الدولار من دون التخلي عن الدولار كعملة عالمية، ومن ثم تحسين تنافسية المنتج الأميركي المقوّم بالدولار مع تراجع قيمته. يبدو اقتراح ميران أكثر عقلانية بالتأكيد من الخطة الجمركية التي يتبناها لترمب، لكنه يبقى مغامرة غير مأمونة العواقب.

ما فعله ترمب من فرض تعريفات على الصين بشكل غير مخطط جيدًا قطاعيًا (بمعنى فرض تعريفة شاملة، تعريفة على قطاعات بعينها كقطاعات السيارات الكهربائية)، وتعميم التعريفات على سائر الدول، لم ينصح به أي اقتصادي، لا في فريق ترمب ولا خارجه. أما ما نصح به ميران، فلم يأخذ ترمب خطوات جدية في اتجاهه حتى الآن. 

قد يقود فرض التعريفات بهذا الشكل غير المخطط على الصين إلى كارثة بالنسبة للولايات المتحدة التي تستورد من الصين وغيرها من البلدان الآسيوية كثيرًا من مدخلات الإنتاج الضرورية لصناعة السيارات، على سبيل المثال، التي فرض عليها ترمب رسومًا خاصة.

لذلك، لا خلاف على أن أثر سياسات ترمب في صيغتها الحالية كارثي على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. لكن ما زال كثير يراهنون على أن ترمب نفسه سيتراجع، وسيعيد تنظيم الفوضى التي أحدثها، فضلًا عن الرهان على انتخابات التجديد النصفي والتغيير السياسي في الانتخابات القادمة، ربطًا بما يُمكن تسميته "عقلانية النظام السياسي الأميركي".

ما يمثل مفارقة فعلية هو أن الفرصة الوحيدة لتلك الإمبراطورية لتجديد عافيتها الإنتاجية، أي عبر استيعاب العمالة المهاجرة التي توفر قوة عمل رخيصة قادرة على الحفاظ جزئيًا على تنافسية الصناعة الأميركية، لا تلقى ترحيبًا من قبل ترمب وحركة MAGA التي يمثلها، والتي تحلم باستعادة الأوج الإمبراطوري للولايات المتحدة.

فخلال أشهر عدّة من توليه رئاسة الولايات المتحدة، قام ترمب بترحيل 100 ألف مهاجر غير مسجل من أصل نحو 11 مليون مهاجر غير مسجل في الولايات المتحدة، يشارك 8 مليون منهم في قوة العمل الأميركية، مشكلين ما نسبته نحو 5% من قوة العمل الأميركية.

وسواء تراجع ترمب أو لم يتراجع، فإن ما يجري يفيد بأن الولايات المتحدة تواجه تهديدًا فعليًا لوضعيتها كقوة عالمية فائقة، على الأقل من الناحية الاقتصادية.

قصور وديون: أيام تشاوشيسكو الأخيرة

لا يشبه المجمع الرئاسي في مصر كثيرًا في طرازه معمار "بيت الجمهورية" الذي بناه الرئيس الروماني نيقولا تشاو...

محمود هدهود
عبد الناصر والعرب الذين لا يحبّون البنادق

لقد كان السؤال المطروح في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو ما إذا كان العرب مضطرين إلى التورط في هذا الصراع...

محمود هدهود

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة