8/12/2024
لم يكن يوم فرح عادي بالنسبة إليّ. كان مسبوقًا بأسبوع من التوتر والترقّب والخوف من حرب أهلية. لكنّ الأهم أنه كان مسبوقًا بالسؤال التالي: هل سيسقط الأبد فعلًا؟
ثمّ سقط الأبد. لم يكن الأمر مستحيلًا كما كنا نظن. عبَرَت يومذاك جملة صديقتي الراحلة مها جديد في ذاكرتي: "اليوم للسوريين، وبكرا للسوريين". كم تمنيت أن تكون معنا في تلك اللحظات، هي وفايز عطاف وهالة سعيد، كي يشاهدوا هتاف كثر لحظة السقوط: "واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد".
لم تكن تلك الليلة مفرحة لكلّ السوريين. أذكر أني قضيت الليل وأنا أتلقى رسائل من أصدقاء خائفين من الانتقام، لا بوصفهم مستفيدين من نظام الأسد، بل لانتمائهم إلى طائفته ذاتها.
أرسلَت لي صديقتي صور بناتها وأبناء أختها وقالت لي: "إذا قتلونا اكتبي عنا، فأنا أحب طريقة كتابتك". أخذتُ أطمئنها أن لا شيء من هذا سيحدث، فالسوريون يهتفون في الساحات بوحدة الشعب. لكنّ الغريب كان سرعة تغيير المواقف وصور البروفايلات، من جانب أشخاص كانوا داعمين للأسد حتّى لحظة السقوط، كما لو أنهم كانوا مع الثورة منذ اليوم الأول.
في ذاك اليوم، كانت لدي أمسية شعرية برفقة شاعرة إيرانية معارضة للنظام الإيراني. وفي نهاية الأمسية، وجّهت إليّ مشاركة إيرانية سؤالًا: هل أنت سعيدة بسقوط الأسد ومجيء الإسلاميين؟ أجبت: نعم، سعيدة جدًا! فابتسمت وقالت: لا تتسرّعي وانظري إلى حالنا!
لم آبه بما قالته، إذ لم أكن أريد لأي فكرة أن تعكّر فرحتي. بدأتُ أقنع نفسي ومن حولي بأن هذه السلطة جاءت بتوافق دولي يشمل السعودية التي بدأت تخلع ثوب التشدد، وأن حكم المتطرفين لم يعد مقبولًا. لم أكن غافلة عن جرائم "النصرة" و"هيئة تحرير الشام"، وكنتُ أشكّ بقدرة السلطة الجديدة على تطبيق العدالة الانتقالية لأنها، أيضًا، ارتكبت جرائم بحق السوريين. لكنّ التفاهمات الدولية أربكتني، شأني شأن كثير من السوريين، وخلطت الأوراق في عقلي، فتأملتُ خيرًا.
لم يطل بنا الوقت حتى بدأت السلطة الجديدة ترتكب انتهاكات، "مؤسساتية" إن صح التعبير، تتمثّل بتعيين أشخاص تابعين لها في دوائر الدولة لا يتّصفون سوى بالولاء. وكنا نواجه هذه التعيينات بالتهكم على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن راحت الانتهاكات تتمثّل بقتل أشخاص واختطاف نساء من الطائفة العلوية في حمص وحماة والساحل، لا ذنب لهم سوى انتمائهم الطائفي، في حين أجرى المجرمون الحقيقيون تسويات وراحوا يقودون "السلم الأهلي".
صمت كثير ممّن كانوا يكتبون خلال الأعوام الماضية "صمتكم يقتلنا"، وادّعى يعضهم أن الصمت موقف
أخذت "الانتهاكات الفردية" تزداد يومًا بعد يوم، وحصيلتها فلاحون وعمال بسطاء ونساء. وبلغ التحريض الطائفي أشده في شهر شباط/فبراير، وعادت الانقسامات الطائفية لتظهر. وراح سوريون يعتبرون الجرائم أحداثًا عابرة، يبرّرونها كما يبررون خطف النساء، فيما رأى آخرون فيها مسامير في نعش الدولة السورية المزمع بناؤها. وشهدت الساحة السورية تحوّلَ كثير من مناصري الأسد إلى داعمين للشرع، ما إن ارتدى بدلة رسمية وشذّب لحيته قليلًا.
بدأ الخوف يتعاظم لديّ. ها هو شبح الحرب الأهلية يعود، كما لو أن 14 عامًا من الاقتتال لم تكن كافية. اتصلتُ بصديقي، وهو شاعر معروف في اللاذقية، وطلبتُ إليه أن يرفع صوته ضدّ الانتهاكات، فقد غدا بحكم انتمائه الطائفي مقربًا من السلطة الحالية وأحد نشطاء السلم الأهلي. "حقكم تخافوا. إذا نحنا خايفين شوي"، قال لي. فسألته: "من نحن؟ ومن أنتم؟". أجابني: "إنتو العلويين!".
وقعت الكلمة عليّ وقع الصاعقة، فبادرت إلى سؤاله: "هل أنا بنظرك علوية؟ ماذا عن صداقتنا الطويلة ووقوفي إلى جانب ضحايا الأسد؟". لم يجب، بل أكمل: "يجب أن نعطي السلطة الجديدة الفرصة ونأخذ بيدها. مهما قتلوا، لن يقتلوا بقدر ما قتل الأسد". استشهدت له بآية "من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا"، وأكملت قائلة إن "أي سلطة يتاح لها التمكّن لعقود خمسة، قد تقتل بدورها كما قتل الأسد". لكنه أغلق الهاتف قبل أن نكمل الكلام.
كان ذلك قبل مجازر الساحل بأيام قليلة. وحين بدأت المجازر تجتاح الساحل، ولم تكتف الميليشيات بالقتل بل عمدت إلى إذلال البشر ونهب الممتلكات وحرقها، لم يكن أمامنا سوى الصراخ من مضاجعنا الآمنة: "أوقفوا التحريض الطائفي ...أوقفوا القتل".
صمت كثير ممّن كانوا يكتبون خلال الأعوام الماضية "صمتكم يقتلنا"، وادّعى يعضهم أن الصمت موقف، وأن لا طاقة لهم على مواجهة التشبيح والتهديد. فعبرت في ذاكرتي التهديدات التي كنتُ أتلقاها بوصفي "خائنة للطائفة"، وكذلك الاستدعاءات إلى الفروع الأمنية. وسألتُ نفسي: لماذا كنتُ "سوريةً" ترفض الظلم أيام نظام الأسد، وغدوتُ، الآن، شاعرة "علوية" بنظر أصدقاء الأمس؟
وضعتني مجازر الساحل أمام تاريخي وجهًا لوجه، وبدأت أتفقد الخسارات التي منيتُ بها منذ عام 2011. تذكرت مقابلة أُجريت مع الشاعر عباس بيضون بعد حرب تموز/يوليو 2006. يقول عباس: "أنا، كشخص (...) منشق وخارج عن الجماعة (الطائفة). لكنّي أنتمي سوسيولوجيًا، تربويًا وحياتيًا وثقافيًا، إلى هؤلاء الناس، وقد أثر فيّ ذلك بعمق، وفوجئت بدرجة الاهتزاز الداخلي بعد قصف الضاحية وقصف الجنوب (...) فجأة عندما دُمّرت، شعرت أن جزءًا كبيرًا من حياتي سقط معها".
وذكّرني ذلك بسؤال وجهه أستاذ مادة الرياضيات إلى أخي: "صحيح أن أختك مرتدة؟". فأجابه: "تقصد أنها لم تعد مسلمة؟". فسارع الأستاذ إلى التوضيح: "أقصد أنها معارضة للأسد، وأنها خرجت عن الطائفة".
من "نحن" ومن "أنتم"؟، راح يكبر السؤال في ذهني. فهرعت إلى المرآة لأتأكد: هل ثمة دم على شفتيّ؟
كانت المجازر تطال أحياء جبلة وتحرق ذكرياتي، وتتوالى معها صور أصدقائي المعارضين للأسد يسقطون قتلى. خمسة أيام مرّت لم أعرف فيها أي خبر عن أهلي. كنتُ أرى ماضيّ أمامي يُقتل وتُحرق جثته على مرأى ومسمع من أصدقائي الذين شاركوني إياه، من دون أن ينبسوا بكلمة.
كان جلّ همّي أن يعرّفني الناس بأنّي سوريةٌ فحسب. لم أكن أعير اهتمامًا للمكان الذي ولدتُ فيه. لكني، فجأة، شعرت بأن انتمائي للقرية التي يحرقون تخومها يفوق أي انتماء. تلك القرية التي قطعتُ علاقتي بدروبها وشجرها وكائناتها إثر اندلاع الثورة. كان الحريق يقترب، وكنت خائفة من أن يعمي رماد الحرائق عينيّ، فلا أعود أعرف من أنا.
كانت النيران والمجازر المرافقة لها كافية لحرق علاقات وتحويلها إلى رماد. كثير من الأصدقاء الذين فتحت لهم بيتي وقلبي أيام الأسد، لم يتّصلوا أو يكرّروا الجملة التي كنت أقولها لهم: "بيتي مفتوح لكم ولأهلكم!".
تذكّرت صديقتي وجميع الخائفين ليلة السقوط. خجلتُ منهم، وبكيت. انهرتُ مرات أمام دموع أخوتي وخوف أحفادي. أنا الآمنة في برلين، وهم برقابهم تحت السكاكين.
بلغ التجاهل ببعض الأصدقاء حد المقاطعة. وحين امتدت المجارز لاحقًا إلى السويداء، وبلغ التحريض الطائفي ذروته، شعرت بالانتماء إلى أقلية، لا طائفية، بل أقلية ترفض القتل وترغب ببناء دولة. دولة مدنية ذات مؤسسات.
انطوت منشورات بعض الأصدقاء على عنف لفظي مستتر وتماهت مع السلطة الجديدة، فيما شكّل البعض مجرّد كتلة صماء. وأعرب أصدقاء عن تصديقهم السرديات الكاذبة التي كانوا يفضحونها أيام الأسد، وراحوا يبررون الارتكابات لمجرد انتمائهم السوسيولوجي إلى السلطة المنتصرة.
من "نحن" ومن "أنتم"؟، راح يكبر السؤال في ذهني. فهرعت إلى المرآة لأتأكد: هل ثمة دم على شفتيّ؟ وأخذتُ أنظر إلى يديّ: هل قتلتُ أحدًا بهما؟ هل أنا، بحكم انتمائي السوسيولوجي، قاتلة؟
ليس هذا الخذلان طعنة في قلبي فحسب، بل في قلب سوريا. أتذكر مها جديد وفايز عطاف وهالة سعيد ومصعب النبهان، وأحسدهم لأنهم رحلوا قبل هذا الدمار الأخلاقي الكبير.
وأشعر، مع سقوط الأسد، بأن أقنعة علمانية ومدنية كان كثر يتلطّون خلفها سقطت، وأننا صرنا عراة أمام بعضنا، مشلوحين في مهب الريح.