حرب تشرين: عن نقطة مضيئة في ظلام دامس
أنا لا أعرف أبي، لكن رجلًا جاء في اليوم التالي لدفنه وانحنى فوق القبر وبدأ يبكيه. وحين سألته العائلة: من أنت؟ أجاب أنه من الجولان وشارك مع والدي في حرب تشرين.
أنا لا أعرف أبي، لكن رجلًا جاء في اليوم التالي لدفنه وانحنى فوق القبر وبدأ يبكيه. وحين سألته العائلة: من أنت؟ أجاب أنه من الجولان وشارك مع والدي في حرب تشرين.
أنا لا أعرف أبي.
لم أكتشف ذلك إلا منذ أيام قليلة، حين اتصل أخي باكيًا ليخبرني أن سلطة الأمر الواقع ألغت يوم العطلة الذي يصاحب حرب تشرين/أكتوبر، وبدأ يسرد لي تاريخ أبي ورفاقه.
لا أريد أن أكتب عن "حرب تشرين" كما يكتب المؤرخون والساسة، بل أريد أن أكتب عنها بوصفها حدثًا عاطفيًا تتشارك فيه عائلتي الصغيرة مع عوائل سورية كثيرة.
أنا لا أعرف أبي، فقد توفي وأنا في السادسة. لا نمتلك صورًا كثيرة له. كل ما لدينا صورتان. في إحداهما كان، على الأرجح، في العشرينيات، يرتدي طقمًا وربطة عنق، وفي أخرى كان يرتدي البزة العسكرية. تلك هي الصورة العالقة في ذهني وهو يطرق الباب في آخر الليل، في آخر زيارة له إلى القرية. غاب بعدها ليعود محمّلًا بنعش.
توفي والدي في عمر السادسة والأربعين، قضى منها سبعة وعشرين عامًا مرابطًا على الجبهة السورية. تضحكني كلمة "مرابط"، كأنها قادمة من عصر سحيق لا يشبه مفردات اليوم.
تزوَّج والداي عام 1960، وسافرا إلى قرية واسط التابعة إلى القنيطرة، هناك حيث كانت قطعة أبي العسكرية. وهناك أنجبت أمي إخوتي الأربعة قبل أن ينزحوا في حرب 1967.
كان جيران أهلي جنودًا فقراء من مختلف الطوائف والقوميّات. تذكر أمي جارتها الشركسية التي خاطت أول طقم لأخي الأكبر، وجارتها من ريف دمشق، قطنا، التي علمتها تحضير المكدوس.
حين نزحت عائلتي من القنيطرة، وأقصد هنا أمي لأن أبي كان يحارب، لم تحمل معها شيئًا. حتى أنها نسيت دفتر العائلة. كلّ ما حملته كان صور جيرانها التي كانت تُخرجها بين حين وآخر وتتساءل: ماذا حلَّ بجيراني؟
انتقلت عائلتي إلى القرية في ريف جبلة، وبقي والدي على الجبهة، يزورنا كل شهرين أو ثلاثة لمدة أسبوع ثم يغيب. لم تكن هناك هواتف، ولم تكن أمي تعلم متى يأتي، وما إذا كان حيًا أم ميتًا.
تروي لي أمي أن أبي جاء في شهر آب/أغسطس في إجازة، وبعدها التحق بالحرب. ويبدو أنها حملت بي خلال هذه الإجازة، إذ إنّي وُلدت في شهر أيار/مايو 1974، وكثيرًا ما شتمتُ من منحوه إجازة عندما كنت أغضب في صباي.
أخبرتني سيدة أنها كانت تدرس في كلية الطب حين اندلعت الحرب، فاندفعت مع زملائها لتساعد في العناية بالجرحى، وبينهم جنود من العراق والمغرب
يقول أخي، وهو يكابد دموعه، اكتبي عن حرب تشرين، حتى لا تُمحى هذه الذكرى. ويروي لي ما فعله أبي في حربي حزيران/يونيو وتشرين الأول/أكتوبر.
لم يكن أبي بطلًا، كان جنديًا عاديًا في صفوف الجيش العربي السوري، شأنه شأن سوريين كثر. كان سائق دبابة وقد دُمِّرت دبابته في حرب حزيران/يونيو 1967 وأصيب بحروق. استُشهد وقتها قائد كتيبته الرائد محمد سعيد يونس، وهو من سكان مدينة جبلة. حملت مدرسة البنين في جبلة اسمه، ويبدو أن سلطة الأمر الواقع غيّرت اسم المدرسة من جملة ما غيّرته في أسماء المدارس.
شارك والدي في حرب تشرين، ووصلت كتيبته إلى طبريا، ولم يتراجع قائد كتيبته الرائد حمدان محفوض، من قرية بسنديانة في ريف جبلة، بل ظل يقاتل حتى استُشهد. لم تعرف عائلتي إن كان والدي حيًا أم لا إلا حين جاء عمي من طرطوس وأخبر أمي أنه زارهم مرتين هناك، ولم تتجاوز زيارته الساعة كلّ مرة، عاد بعدها إلى الجبهة في القنيطرة بعدما توجه إلى المرفأ ليركب دبابة بدل تلك التي دُمّرت في الحرب. كانت الدبابات في ذلك الوقت تسير على السلاسل، ولكَ أن تتخيل الوقت الذي يقضيه في السفر من طرطوس إلى القنيطرة.
سيعود والدي بعد الحرب بجسد مثخن بالشظايا التي لن يشفى منها سريعًا، وستظلّ جراحه ظاهرة حتى وفاته عام 1981.
ولدتُ وأبي غائب. أطلقت جدتي لأبي عليّ اسم "جيهان" تيمّنًا بالسيدة جيهان السادات التي كانت محطّ إعجاب النساء في ذلك الوقت. بيد أن الاسم لم يرق لأبي، إذ كان يعتبر السادات خائنًا لأنه وقع اتفاق سلام مع إسرائيل، فقام بتغيير اسمي في السجلات المدنية ودفع نقودًا لقاء ذلك.
في بحثٍ أُعدّه منذ عام تقريبًا، أفردتُ فصلًا كاملًا للحديث عن حرب تشرين وأثرها على السوريين. تروي لي سيدة من السويداء أن بعض أهل المدينة كانوا يصعدون إلى أسطح المباني كي يشاهدوا سقوط الطائرات الإسرائيلية. تقول إن عائلتها أُبلغت باستشهاد خالها الذي دُمّرت كتيبته بالكامل، وكان جلّ مقاتليها من السويداء، بيد أن أحد الجنود عاد من المعركة ونفى خبر استشهاد الخال، فما كان من أمه، أي الجدة، سوى أن بعثت له برسالة تحثّه فيها على القتال وتطلب منه عدم التخاذل.
وهناك طبيبة من حماة كانت تعارض النظام بشدة، أخبرتني أنها كانت تدرس في كلية الطب حين اندلعت الحرب، فاندفعت مع زملائها لتساعد في العناية بالجرحى. وذكرت لي أن بينهم جنودًا من العراق والمغرب ودول عربية أخرى. في حين قالت لي سيدة من مدينة جبلة، كان نظام الأسد (الابن) قد اعتقلها وقتل أخاها، إنها وأمثالها كانت "تنتظر الحرب لردّ الاعتبار للكرامة العربية التي أهدرتها هزيمة حزيران/يونيو".
في 5 تشرين الأول/أكتوبر، حدّدت سلطة الأمر الواقع الأعياد التي تحتفل بها سوريا، وأُسقطت منها حرب تشرين وعيد الشهداء. تابعتُ صفحات التواصل الاجتماعي، حيث أعرب بعض السوريين عن غضبهم، فيما استمر بعضهم الآخر في التصفيق للسلطة. في المقابل، كانت الصفحات المصرية تعج بالاحتفال بذكرى أكتوبر/تشرين، برغم الخلافات السياسية في ما بينهم.
أنا لا أعرف أبي، لكن رجلًا جاء في اليوم التالي لدفنه وانحنى فوق القبر وبدأ يبكيه. وحين سألته العائلة: من أنت؟ أجاب أنه من الجولان وشارك مع والدي في حرب تشرين، وأُصيب في بطنه فحمله أبي حتى وصل به إلى المشفى. "أبوكم أنقذ حياتي، وكان أكثر من أخ"، قال للعائلة.
أشعر بالمرارة فيما أكتب هذا النص. كيف يمكن أن نمحو ما يحصل من ذاكرتنا؟ ماذا سنقول للشهداء الذين آمنوا بوحدة التراب السوري؟ هل سنخبرهم بأنهم كانوا واهمين، وأن التراب تفرّق إلى طوائف؟