المجموعة الخالية: حكاية الانتماء المعلّق

أبحثُ عن مكانٍ في سوريا أقفُ فيه. لا أجدُ حولي سوى تقسيمات مُعلًّبة، وفئات موتورة تجهدُ في تسويق نفسها، واحتفاء شكليّ بالتنوّع، يخفي تحت فجاجته وتملّقه جَمْرَ اقتتالٍ وشيك.

فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 وقفنا كمجموعةٍ واحدة أمام بوّابة التاريخ. انهارت الاصطفافات والتقسيمات التي أرهقت سوريا طوال أربعة عشر عامًا. تخلّصنا من الأبد وإلى الأبد من المجموعات المتنافرة والتابعة والمتقاطعة. هذا ما تمنّيتُه أو حلمتُ به واعتقدتُ جازمة أنه على وشك التحقق. فمن كان يفرّق لكي يسود هرب، والفرصة أمامنا لنعود كلّنا واحد، بلا شبّيحة ومستفيدين ومندسين وإرهابيين ومعارضة وطنية ومعارضة عميلة... وغيرها من المجموعات المُختَلَقة التي أزكت كلّ أنواع الشرور على مدى عقدٍ ونصف.

بلا شك، سيكون لدينا، مثل كل الأوطان الطبيعية، مجموعات جديدة، بتعريفات سليمة ومنطقية، كأن تنقسم مجموعتنا الشاملة إلى موالاة ومعارضة وفق المفهوم السياسي النظيف. فتؤيد مجموعة من الشعب حكومة البلاد، لقناعتها بجدوى خططها وصوابية رؤيتها، وستعارضها مجموعة أخرى تعتقد أن لديها ما هو أنفع وأصلح. ستتواجه المجموعتان في صناديق الاقتراع وستتغيّر الحكومات والمواقف وسنتبادل المواقع، مدفوعين بتوقٍ محموم إلى الحرية التي ادّعينا أمام العالم كلّه أننا نحبّها ونستحقها.

هذا ما تمنّيتُه أو حلمتُ به واعتقدتُ جازمة أنه على وشك التحقق.

منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، تغافلتُ وغيري عن إنذارات الخطر، تجاهلنا علامات الاستفهام وطمسناها بنقطة نهاية عملاقة وقلنا: "فلنبدأ من أول السطر". أسكتْنا الأصوات الخائفة والمُشَكِّكة والتي كانت خافتة أصلًا خوفًا من التخوين وتُهَم معاداة الثورة.

مضى عامٌ على ذلك الصباح، ثلاثةُ أشهر من الحماس والفرح والاندفاع والأمل والمسامحة، تلتها تسعةُ أشهرٍ من الخذلان والفقد والانكسار. أجبر نفسي في الشهور الأخيرة على التوقف التامّ عن متابعة أخبار سوريا، بأوامر طبّية صارمة هذه المرّة. أتعمّد الصمت وأتجنّبُ الانخراط في أيّ نقاشٍ ذي صلة واقعيًّا كان أم افتراضيًّا. أحاولُ بمشقّة إعادة ترتيب أولوياتي واهتماماتي. أهجر القراءات المفخّخة وأقلّص عالمي إلى حدود الرياضة الاستشفائية وبعض الهوايات الجديدة التي تعينني على التأمل وتصفية الذهن. أحاول تقليد السوريين المقنّعين الذين لا تعنيهم من أحوال بلادهم سوى بضعة عناوين تصلح  كحديث للسهرة مع قليل من الأسى المفتعل أوالإنكار الوضيع.

بحسب الحجوزات المعمول بها، لستُ أكثرية ولا أقلية.. لن أرضى بالجلوس على طاولة سوريي الخارج، ولا يمكنني الجلوس على طاولة سوريي الداخل

أشعرُ بخواء كبير، وبفراغٍ مؤلم يمتدّ في صدري ورأسي مُلتهمًا ما بقي من توازني. أفتّشُ عن طريقة أخرى أنتهجها لأحافظَ على سلامتي وأعتصمَ في الوقت نفسه بهوّيتي وحقيقتي.

أبحثُ عن مكانٍ أقفُ فيه دون أن أضطر إلى التخلّي عن قيمةٍ تهمّني أو تبنّي فكرةٍ لا تعجبني. لا أجدُ حولي سوى تقسيمات مُعلًّبة جاهزة، وفئات موتورة تجهدُ في تسويق نفسها، واحتفاء شكليّ بالتنوّع، سخيف ومقرف يخفي تحت فجاجته وتملّقه جَمْرَ اقتتالٍ وشيك.

أرسم في رأسي صورةً لسوريا الجديدة بعد التحرير مُستعينةً بأخبارِ مَن هم هناك وبأقوالِ مَن زارها مِن الأصدقاء. تبدو لي البلاد وكأنها قاعة أفراحٍ شعبية ارتُكِبتْ في إحدى صالاتها جريمةُ قتل! راقصون ومحتفلون ومطبّلون، مُغَنّون يتناوبون على المسرح بمواويلهم المتنافرة،  قتيلٌ حوله حزانى ومكلومون، رجالٌ مسلّحون يروحون ويجيئون بسرعة وعشوائية، لا أحد يعلم إن كانوا جيشًا أو شرطةً أو عناصر أمنية أو مقاتلين مُعادين. تصفيقٌ هادر وأصوات رصاصٍ وزغاريد ونحيبٌ هستيري. فوضى خانقة وازدحام شديد وروّاد يدخلون إلى المطبخ لخدمة أنفسهم في ظلّ نقص فادح في الموظفين. إدارة القاعة تراقبُ المشهد ببرود من نافذة زجاجية في الطابق العلوي وتُجري اتصالاتٍ خارجية مع جهات غامضة.

لا أجدُ في هذا المشهد العبثيّ الكبير دورًا يمكنني تأديته أو شيئًا أنتمي إليه. أتعبُ من الشرح المستمرّ وأيأس من الظفر بما يمثّلني أو يعبّر عني: هل أفرحُ مع الفرحين وأرقصُ مع المبتهجين؟ هل أعتلي المسرح لأغنّي أنا أيضًا على ليلاي؟ ماذا عن المحزونين هناك في جانب الصالة؟ هل استطيعُ أن أتعامى عن مُصابهم ومأساتهم؟

كيف أشرحُ نفسي ضمن هذا الصخب الأصمّ؟ ولِمَن؟ هل كلّ هؤلاء يشعرون حقًّا أنهم في "المركز" وأنا وحدي لا أجد لنفسي موطئًا حتى في الهامش؟!

أجولُ بناظريّ على الطاولات، المدعومة والمُبعَدة والاحتياطية وحتى المقلوبة منها، لا مكان لي!

فأنا، بحسب الحجوزات المعمول بها، لستُ أكثرية ولا أقلية. لستُ مسلمة ولا مسيحية. لن أرضى بالجلوس على طاولة سوريي الخارج، ولا يمكنني الجلوس على طاولة سوريي الداخل بطبيعة الحال.

لا أجيدُ العزفَ ولا التطبيل. وفي الوقت نفسه، تَلِفتْ روحي من النواح والألم. لستُ متفائلة ولا متشائمة. لستُ مُتَعنّتة ولا نادمة. لستُ طامحة ولا يائسة. أقفُ وحيدةً غير مرئية ولا مسموعة كظلٍّ في الظلام.

أجدُ ألواحًا خشبية مكسورة ووسادةً ممزّقة وأرجّح أنها من مخلّفات إحدى الشجارات المتكرّرة في المكان. أجمعها وأصنعُ منها على عجل طاولةً صغيرة أسمّيها الطاولة الخالية، نسبةً إلى المجموعة الخالية في علم الرياضيات، تلك المجموعة التي لا ينتمي إليها أحد. أقرّر أنه، حتى إشعار آخر، ستكون هذه الطاولة طاولتي وهذه المجموعة مجموعتي، أنا العنصرُ الخارجُ من نظريّة المجموعات.

زيارة جماعيّة للعيادة النفسيّة

أدخل إلى العيادة مع أمّي وأصدقائي، وأصدقاء أصدقائي وأهلهم وعائلاتهم وكلّ من سمعتُ بقصّته أو لم أسمع، مجمو...

زينة حموي
الصحافة السورية تفوز بالـ Buzz الذهبي

يمكننا القول إن الصحافة السورية فازت بالـ Buzz الذهبي، لا بسبب استثنائية أدائها بالطبع، بل لجهة خلوّ الطر...

زينة حموي
في سوريا: إجازة أم جَيّة؟

في اليوم الأخير في سوريا، أتعمّد أن أترك في إحدى خزائن بيت أهلي پيجاما نظيفة وبعض الأشياء الشخصية. وأهمس...

زينة حموي

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة