
تفتتحُ الطبيبةُ الجلسة بسؤالها المُعتاد:
- كيف حالك؟
- لا أعرف، عندي خمس عشرة إجابة على هذا السؤال.
- تبدين قلقة، كانت حالتك النفسيّة أفضل في الجلسة السابقة، ما الذي حدث؟
أفكّر، أستعيد في ذهني يوميات الشهر الماضي، أهمسُ مُطرِقة:
- لا شيء.
- هل عُدتِ إلى مشاهدة نشرات الأخبار؟
- لا.
- هل تقضين وقتًا طويلًا في تصفّح وسائل التواصل؟
- أحيانًا.
- هل مازلت تحتفظين بصور الضحايا الذين تقرأين قصصهم؟
- لا، مَحوتُ كلّ شيء.
- هل توقّفتِ عن ممارسة الرياضة؟
- لا
- هل تأكلين وتنامين جيّدًا؟
يستفزّني السؤال ويثيرُ أعصابي المُرهَقة:
- ما معنى "جيّدًا"؟ "جيّدٌ" بالنسبة إلى مَن؟ حتى حصص البشر من الحاجات الأساسية كالنوم والغذاء لا يحصلون عليها بشكل عادل أو متساوٍ.
تقودنا إجابتي الفلسفية إلى مساحةٍ جدليّةٍ لا تحبّذها طبيبتي، فتحاول أن تُعيدني إلى المسار المطلوب:
- قولي لي، بماذا تفكّرين الآن؟
أصمتُ قليلًا. أعدّل جلستي وأرخي رأسي على ظهر الأريكة بينما تحدّق عيناي بالسقف الأبيض.
- أفكّر بصديقي العلوي المقيم في الإمارات: الشاب اللطيف، الشغّيل، المهذّب، المشتاق إلى والديه بعد ثلاثة أعوام ونصف من العمل المتواصل، الخائف من زيارة أهله وبلده بسبب مجرم أحمق يقفُ على حاجزٍ عشوائي قد يسأله عن اسم عائلته أو طائفته فلا تعجبه الإجابة. أفكّر بأمّ صديقي التي قهَرَ الفزعُ قلبَها وسحقَ لهفتها واشتياقها، فأقسمتْ لابنها عبر الهاتف بأنها ستغضبُ عليه إلى يوم الدين إذا فكّر في السفر إليهم أو في مفاجأتهم بزيارة.
أفكّر بصديقتي، العلوية أيضًا، الشابّة المكافحة، الصبورة والمرحة والشجاعة، التي تعيش هنا غربةً قاسية وموحشة، وترسلُ سِرًّا إلى أخيها في سوريا ما يعيله وعائلته بعد فصله وزوجته من العمل. هذه الصديقة التي تقول لي بجديّة خالصة كلّما تحدّثنا عن أحوال بلدتها: "إذا صار ونزلت على سوريا وخطفوني، بشنق حالي قبل ما يعملوا فيّ شي".
أفكّر بصديقتي الدرزية، التي تخوض من هنا، على بعد أكثر من ألفين وخمسمئة كيلومترًا، إضرابًا جزئيًا عن الطعام بالتزامن مع حصار قريتها في السويداء. ربما لاعتقادها بأن هذا الفعل قد يساهم في ضغطٍ شعبيّ ما لإحراج السلطات أو استفزاز ما تبقّى من ضمائر، أو ربمّا لأنها تريدُ أن تتقاسم مع أهلها مصيبتهم وتشاركهم طعم الجوع والألم والمرارة. وربما تحاولُ أن تخفّف عن نفسها إحساسها القاتل بذنب النجاة الفردية.
أفكّر بأمّي، المرأة السبعينية، الكلاسيكية في مظهرها ولباسها وتفكيرها، والتي تعيش في حلب منذ خمسة وخمسين عامًا. أسترجعُ صوتَها المقهور وهي تفسّرُ لي سبب اعتكافها في بيتها معظم الوقت: "قرفانة، قرفانة وخايفة، كنت لابسة جينز وبلوزة صيفية عادية، عريضة ونصّ كمّ... نظرات النساء، قبلَ الرجال، جرحتني وأهانتني بنصّ مدينتي".
أتذكّرُ مقطعًا من رسائل ڤيرجينا وولف: "أشعر بأن عقلي متثاقل، كأنني أغرقُ في طينٍ لا أستطيعُ أن أخرجَ منه"
أصمتُ قليلًا بفعل حَشْرَجة في الحلق. فتتدخّلُ الطبيبة:
- يبدو أن اعتزال الأخبار والصيام عن السوشال ميديا ليسَا كافيين. أنتِ تتحدّثين عن محيطك الضيّق ودائرتك الأولى التي لن تستطيعي تجنّبها. ولكن، عليك أن تتعلّمي كيف تفصلين كلّ هذا عن عالمك المباشر، عالمك أنتِ. وإلّا سأضطر إلى مضاعفة جرعة الدواء لكي أضمن أنّك لن تعـ...
- لا.
أُقاطعها برفضٍ حاسم، وفي ذهني إدانة لهذا الدواء واتهامه بالمسؤولية شبه الكاملة عن الصمت الكتابي الذي أعاني منه منذ شهور. تخمّنُ طبيبتي أفكاري المُضمَرة، فتسألني عن أخبار الكتابة والكتاب الثالث.
أغمغم بتسويف سخيف ثم أدّعي التعب وانتهاء الوقت لأُنهي الجلسةَ بسرعة.
أخرجُ من العيادة، أعني نخرجُ كلّنا: أنا وأمّي وأصدقائي، وأصدقاء أصدقائي وأهلهم وعائلاتهم وكلّ من سمعتُ بقصّته أو لم أسمع، مجموعة غفيرة من السوريين المكلومين والخائفين والعاجزين. أقفُ على عتبة البناء. تغيم الشوارع أمامي بضبابٍ رماديٍّ كثيف وحِبالٍ غليظةٍ من الماء الداكن. أسمعُ صوتَ المطرِ الشديد يضربُ الإسفلتَ بشراسة وقوّة. أفتحُ شمسيّةً كبيرة وأطلبُ من مرافقيَّ أن يتجمعّوا تحتَها. أحثّهم على الاقتراب من بعضهم أكثر، حتى يلتصقوا بقلبي وحضني. أخطو نحو الشارع فتنزلقُ قدمي في وحلٍ سميك. أتذكّرُ مقطعًا من رسائل ڤيرجينا وولف: "أشعر بأن عقلي متثاقل، كأنني أغرقُ في طينٍ لا أستطيعُ أن أخرجَ منه. الورقة البيضاء أمامي، لكن لا شيء يأتي. الكتابة التي كانت ملاذي صارتْ عبئًا يفضحُ عجزَ عقلي".
يشتدُّ المطر أكثر، وتصفرُ ريحٌ مُتناوِحة تُنبئ بعاصفةٍ داهمة. يلتصقُ جسدي بأجساد من حولي تحت الشمسية. أشعر بارتعاشات أطرافهم الباردة واصطكاك أسنانهم. تتوقّف أمامي سيّارةُ أجرة ويفتحُ السائق زجاج النافذة ويميل برأسه نحوي:
"سيّدتي، تقفين وحدك منذ أكثر من نصف ساعة، الشمس حارقة والهواء ثقيلٌ شديد الرطوبة، ستصابين بضربة شمس، اصعدي".
أركبُ السيّارة ببطء وريبة، ألاحظُ بأن المقعدَ الخلفيّ عملاقٌ وبأن جسمي ضئيلٌ جدًّا. يحذّرني حَدْسي من اضطراب وشيك، يخفقُ قلبي خِشيةً من سؤالٍ لا يلبثُ السائق أن يطرحه مُبتَسمًا:
"سيدتي، ما العنوان؟ هل لكِ أن تعطيني عنوانك لو سمحتِ؟".