شعر قصير يهزأ بالأبد

كنتُ أتمنّى أن أنزل وأحتفل باليوم الوحيد الّذي يستحقّ الاحتفال، لولا يقيني بأن الاحتفالات لن تشهد دقيقة صمت على ضحايا سوريا، كلّ سوريا حتى اللحظة هذه.

"أمشّط شعري

تتساقط فوارغ الرصاصات العالقة به

من كابوس البارحة"

أمس، خطر ببالي فجأة هذا المقطع. كنتُ قد اخترته ليوضع على غلاف كتابي الأوّل، الّذي كتبته ونشرته وأنا في الداخل السوري أعيش الحرب بكلّ مفرداتها وتفاصيلها. كتبت المقطع بعد شهورٍ من النّزوح القسريّ، هربًا من الحصار والقذائف والموت المحدق.

أرى نفسي جالسةً في ممرّ المنزل أغلق أذنيّ بيديّ وأضع رأسي بين قدميّ، منتظرةً سقوط قذيفة الهاون فوقي. يتوقّف الصّوت، أرتجف بينما أتلمّس أطرافي لأتأكّد من أن كلّ قطعةٍ ما زالت في مكانها. 

في اليوم التالي، يخرج أحد جيراننا من باب بيته، فتصيبه قذيفة ثانية أخطأتني. أشاهد تشييعه على "يوتيوب". 

تكرّرت تلك الحوادث مرّاتٍ ومرّات، تخطئني رصاصة لتستقرّ في صدر شخصٍ آخر.

ظننتني نجوت، ومثل كثيرين حملت عبء تلك النّجاة طويلًا، وما زلت أحمله.

لكنّ الحرب أبَت أن تغادر مناماتي، الرّصاص يهطل والجثث تهوي، وصراخي مكتومٌ أبدًا.

حين أعلنت "هيئة تحرير الشّام" معركة "ردع العدوان" في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، لم أعد أحلم، لأنّي فقدت قدرتي على النّوم. لي أحبّاء هناك، سبق لهم أن عانوا حين عاشوا تحت حكم "جبهة النصرة". كان للخوف جانبٌ آخر أكثر رعبًا، وهو توقّعات القصف الرّوسي الّذي لم يأبه يومًا بإسقاط بيوت المدنيين السوريين على رؤوس أصحابها. تسارعت المعارك وأحبّائي لم يغادروا حلب ولم تنفع صلواتي. ثم، وبشكلٍ أدهش كلّ السوريين، امتدّ "ردع العدوان" من مدينةٍ إلى أخرى، وصار واضحًا بأنّ صفقة ــــ لا أدري ما هي ــــ قد أُبرمَت. 

قرّرتُ في تلك الفترة أن أقصّ شعري لأوّل مرة منذ أكثر من عشرين سنة. بعد ذلك هرب بشّار الأسد وسقط الأبد، الأمر الّذي لم أكن أتوقّع حصوله وأنا على قيد الحياة. صار ربط قصّ شعري بسقوط الأسد طرفة أتبادلها مع الأصحاب المقرّبين، ولكن في العمق رحتُ أشعر بالخفّة، بأنّي تخلّصت من ذنوب وآلام وذكريات علقت بتلك الخصل الّتي سقطت مع الأبد في يومٍ واحد.

عاد لي الخوف من السوريّين بوصفهم جماعة بشريّة، وتعمّق عندي حبّ السوريّين بوصفهم أفرادًا

اندفعتُ نحو الاحتفال بانتهاء حقبة الديكتاتورية بنوع من الفرح، باضطراب مشاعر لم أعشه سابقًا وأظنّني لن أعيش مثله يومًا. شعرتُ أنّي استعدت علاقتي بسوريّتي. أردتُ أن أكون محاطةً بالتجمعات السورية بكلّ كليشيّهاتها من شاورما ونكات ممجوجة. استرجعتُ عادة سماع فيروز الّتي يبدو لي صوتها دائمًا وكأنّه يخرج من آخر بيتٍ عشته في اللاذقية. 

لكن ذلك لم يدم طويلًا. كنت أتابع بحزن الحالات التي كانوا يسمّونها فرديّة في مدينتي، وكنت أرى كيف يسهم سوريّون كثر بصناعة ديكتاتور جديد. انكفأتُ شيئًا فشيئًا عن ذلك الانخراط، وعاد لي الخوف من السوريّين بوصفهم جماعة بشريّة، وتعمّق عندي حبّ السوريّين بوصفهم أفرادًا.   

لا أعرف ما الّذي تغيّر في سوريا خلال السنة الماضية، فأنا لم أزرها، لا لأنّ سوريا الحاليّة أشدّ خطرًا من سوريا قبل 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بل لأنّها مجهولة كلّيًا بالنسبة لي. ما يصلني منها يمرّ عبر أشخاص ووسائل تواصل وصحف وبودكاستات. صارت كلّ منّا غريبةً عن الأخرى، أو عدنا كما كنّا دائمًا: كلّ منّا غريبة عن الأخرى. سوريا قبل هذا التاريخ كانت المكان الّذي ولدتُ فيه، ودرستُ في مدارسه وأحببت في شوارعه، واكتسبتُ فيه أصدقاء عمري وعمّرت مخزوني من الحزن والغضب والحبّ. 

جاء آذار/مارس، وراح سوريون يقتلون سوريين من جديد. ضحايا الساحل وبعدهم ضحايا السويداء، وقبلهم وبعدهم ضحايا حمص وخطف النساء والحالات غير الفرديّة والاستبداد الّذي يفرد يديه وقدميه على امتداد الجغرافيا. وأنا خارج تلك البقعة، أحسستُ بالشعور السخيف بالنجاة التي ليست نجاةً بل مجرد تغيير تافه لموقعك من خريطة العالم.

أكتب بُعيد الذكرى السنوية لزوال الأبد. كنت أتمنّى أن أحتفل مع المحتفلين، لو كان هنالك يومٌ واحدٌ يستحقّ الاحتفال فهو هذا اليوم 8 كانون الأول/ديسمبر، يوم فُتحَت أبواب الزنازين وخرج أبرياء نحو الضّوء، يوم استحالت خيمةٌ بيتًا دافئًا، يوم بدأت سوريا خطوتها الأولى نحو الحريّة. 

كنتُ أتمنّى أن أنزل وأحتفل باليوم الوحيد الّذي يستحقّ الاحتفال، لولا يقيني بأن الاحتفالات لن تشهد دقيقة صمت على ضحايا سوريا، كلّ سوريا حتى اللحظة هذه، ولولا شكّي بأنّ هتافات إقصائيّة سوف تصدح حولي.

هذا الشهر، عدتُ وقصصت شعري أقصر ثمّ أقصر، وكأنّي أسعى بيأسٍ إلى التخلص من كلّ ما علق به، في الصّحو وفي النّوم. يدفعني إلى ذلك هربي من الاعتراف بضعف الفرد البشريّ أمام القرارات الدولية وتبادل المصالح وقذارة السياسة، الهرب عن طريق إعطاء قيَم لأفعال بشريّة عاديّة، كالدخول إلى صالون التجميل.

في هذا النصّ كرّرت كتابة اسم سوريا 8 مرّات، الاسم الّذي كنت أتجنّب خطّه في كتاباتي وأتحايل عليه بكلمة البلاد حينًا، وأسماء الإشارة في أحيان أخرى. لا أعرف إن كانت هذه خطوة نحو المصالحة بيننا، أو خطوة جديدة في طريق الخصام.

دائمًا "ثمّة شيء لقوله" عن فلسطين

المفترض أنّي الآن أكتب عن الهجرة، لكن كل كتابة عن واحدنا صارت تذهب به نحو فلسطين.

نسرين أكرم خوري
لقد وصلتُ للتوّ

كنتُ مرّةً شاردةً في المقهى وأجبت النّادلة بـِ "يسلمو" بعد أن قدّمت لي فنجان القهوة. تلك الزلّة أوقعتني ف...

نسرين أكرم خوري
أبيات ضدّ الإبادة

تناوب مئات الشعراء في 35 مدينة على قراءة قصائد لشعراء فلسطينيين، وأخرى لهم تتناول حرب غزة، التي "ليست حر...

نسرين أكرم خوري

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة