هذه ليست بلادًا

علينا تنظيف المعجم من اللغو والعبودية المختارة والشوارعية المنفلتة، لكي نعيد تعريف سوريا على نحوٍ آخر، بعيدًا من ثقافة الاستحواذ والطائفية والجهل.    

هذه ليست بلادًا، أو أنها لم تكن بلادًا إلا في مواضيع الإنشاء المدرسية. هذه مساحة انتداب، وانقلابات عسكرية، وديكتاتوريات، وتوحّش.

دعك من العبارات الجاهزة من طراز: خمسة آلاف عام من الحضارة، وأول أبجدية في التاريخ، وأقدم عاصمة مأهولة في العالم، وجنّة الله على الأرض، ولكل إنسان وطنان: وطنه الأم وسوريا"، وأيهما أصح "سورية/ أم سوريا"، و"أيهما أشهى البرغل بحمص أم المنسف؟".  

على الأرجح أننا نحتاج إلى دروس خصوصية في معنى المواطنة، وحرية المعتقدات، والديمقراطية، والاستحمام ثلاث مرات في اليوم من الخوف المتراكم فوق الجلد. أقله حتى نجيب على سؤال: هل نحن مواطنون أم ذبائح في مسلخ الطوائف والملل والنحل؟ 

ثمّ ما الفائدة من تغيير الاسم: من جسر الرئيس إلى جسر الحرية، طالما أننا مازلنا نعبُره بمشية عرجاء وأذهان مشغولة بكيفية تدبير العيش، وكشَّ الذباب الإلكتروني الأزرق عن وجوهنا، ذاك الذباب الذي لا يتوقّف عن الطنين في تمجيد اللحظة، وإطاحة كل ما لا يشبهها؟ وما المغزى من إعادة الاعتبار لكتب ابن تيمية وقبره، فيما عشرات المقابر الجماعية لا تزال مجهولة؟

لقد خسرنا التاريخ والجغرافيا معًا في حلبة الملاكمة الوطنية، ثمّ خرجنا من المباراة بالضربة القاضية بعد توطين الشعر العمودي في دار الأوبرا، ودروس الفقه في صالات السينما، وأدعية المتسولين على أرصفة المولات والأبراج والمستشفيات. 

كان علينا أن نفكّك جرثومة الطغيان بما يوازي حضورها طوال نصف قرن. غير أنّ جرثومة من الفصيلة ذاتها أخذت تنمو في أمعاء البلاد كنوع من عسر الهضم الناجم عن تخمة نشوة النصر. 

ما نفعله، وما نتجادل به، بل ما نحاوله، هو ردم حفرة الاستبداد والخروج نحو الضوء، وسقاية زهرة البهجة بماء الحلم، إلا أننا نفشل بشكلٍ مريع عند كل محاولة. فنشرة أخبار واحدة تعيدنا إلى نقطة الصفر، بمجزرة، أو اثنتين، أو ثلاث، وبحوادث خطف، ومظلوميات طوائف، وقصف ليلي، وحرائق غابات، ومشاريع تقسيم خريطة ممزّقة في الأصل، واقتراح نشيد وطني جديد، وملصقات تدعو للفضيلة، وأوركسترا الطبل دون بقية الآلات الموسيقية الأخرى. ذلك أن المطبّلين وحدهم يحتلون الساحات والشاشات والمنصّات بخطاب أجوف وشعارات ورايات مستلّة من أكفان الأجداد الملطّخة بدمٍ قديم، وثارات لم تفقد صلاحية استعمالها إلى اليوم. 

هناك من يدعو إلى التفاؤل، فها هي سوريا الجديدة تنهض من حفرة للاستبداد وتعمل على تحطيم أسوار القفص بجرعة حريّة لم تكن متاحة قبلًا

البلاد تمحو أرشيفها بدمغة مضادة، لكنّ فحصًا عاجلًا للمحتوى سيقودنا إلى نسخة فوتوكوبي عن الأصل، بالأمراض نفسها لجهة الاستحواذ والإلغاء والإقصاء. وإذ بالغنيمة هي المشتهى والمرتجى بألف دهليز ودهليز. نمشي في شوارع البلاد بهوية بصرية لا تشبهنا. فما حدث فعلًا هو تغيير لون قضبان القفص، لا نوع المعدن. والقفص هذا يتسع ويضيق وفقًا لمنسوب الأمل أو منسوب الاحتضار.

ما جرى، حقًا، هو تحطيم تماثيل الطاغية الأب، وصور الابن، في فجر اليوم الأول للسقوط (8 كانون الأول/ ديسمبر 2024)، وقد كان يومًا تاريخيًا أقرب إلى المعجزة الإلهية في تقشير طبقات الخوف. فها نحن نتنفّس هواءً آخر لم نألفه قبلًا في مجرى الرئتين، كمن يغتسل بماء مقدّس من آثام الأمس. لكننا، في المقابل، لم نتحرّر من آثار الحبل على العنق.

هناك كدمة زرقاء مثل وشم أبدي يصعب محو آثاره بالتوازي مع حجم دمّلة الطغيان وإفرازاتها اللاحقة من القيح والبثور والجراثيم. سيتكشّف المشهد باكرًا عن مستنقعٍ آخر، ولقالق تقف على ساقٍ واحدة، عاجزة عن الطيران، وممارسات همجية، وخطاب شعبوي ينطوي على نصّ ماضوي مغلق، غارق في الحفرة نفسها، من دون حبل نجاة.

هذا منام وردي انتهى باكرًا إلى فصل في الجحيم. وهذه ليست البلاد التي كنّا ننتظرها بعناق مؤجل منذ نصف قرن!

أحاول تحسين دقّة الصورة الجماعية للبلاد، لكنّي أفشل في كلّ مرة، حتى عن طريق الفوتوشوب. فهناك ما يتسرّب من الإطار، ويزعزع الطمأنينة المؤقتة. ذلك أن روح الغنيمة تهيمن على المشهد، وتزيح ما لا يشبهها، وكأن ما حدث هو غنيمة حرب لا أكثر ولا أقلّ. يستوي في هذا التوصيف تفكير النخبة والعوام لجهة الهتاف، وتكسير الركب، ونشوة النصر.

لقد اندحرت الوطنية السورية بلبطة في الخاصرة لمصلحة الطائفة وميثاق الفزعة وتعميم ثقافة اللحى. اليوم، لا صوت يعلو على صوت الطوائف، إلى درجة رفع اسم سوريا كبلد من التداول، بدفع من المصلحة الشخصية في الانزلاق نحو الكراسي الوثيرة.

هناك من يدعو، على المقلب الآخر، إلى التفاؤل عبر تحديقة مختلفة نحو الخريطة. فها هي سوريا الجديدة تنهض من الحفرة العميقة للاستبداد وتعمل على تحطيم أسوار القفص بجرعة حريّة لم تكن متاحة قبلًا. فأينما اتجهت ستشتبك بورشة هنا وأخرى هناك، وبنقاشات وسجالات واحتجاجات بلا سقف!

لكنّ الأكيد أنّ علينا تنظيف المعجم من اللغو والعبودية المختارة والشوارعية المنفلتة من كل عقال، كي نتمكّن من إعادة تعريف البلاد على نحوٍ آخر، بعيدًا من ثقافة الاستحواذ والقبلية والطائفية والجهل.    

فما يمكن معاينته في شوارع دمشق اليوم هو ماكيت ورقي مهلهل، من ساحة المرجة إلى ساحة الأمويين. 

الخوف كغريزة جماعية.. بنسخة مكرّرة!

هناك من يختبر في سوريا الآليات المستعملة نفسها للنجاة المبكّرة من طوفان محتمل. أين ما التفتنا نجد ورشة من...

خليل صويلح
الإنزال المظلّي على المؤسسات الثقافية السورية

لم تكن الثقافة السورية امتدادًا للنظام السابق، باستثناء الجزر الرسمية فيها. وهناك عشرات الأفلام والعروض ا...

خليل صويلح
سائق التاكسي السوري إذ يَفقد مهنته الإضافية

العلاقة بين بعض سائقي التاكسي في سوريا وأجهزة الأمن؛ كيف تبدّلت بعد سقوط النظام؟

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة