
"قالوا طلعت حرّية وما عاد الفلاح يشكي
قلنا وين الحريّة والفلاح عمّا يبكي
يا حيف اعتادوا عالقول يللي ما بينفع الناس
والكذّاب أصبح باشا والصادق من غير لباس
وين العمل يا جدعان يللي فيه وعدتونا
هاتو إصلاح الدستور والحرّية تنفرح
يكفينا قول الفارغ والوعد الكاذب والزّور
ورجونا بعض الأعمال يللي جا فيها الدستور"
وردتْ هذه القرّادية في جريدة "حطّ بالخرج"[1] في عددها الثاني والسبعين الصادر بتاريخ 24/7/1911، في معرض انتقاد سياسة "الاتحاديين" وكشف وعودهم الكاذبة، بعد وصولهم إلى الحكم إثر عزل السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909.[2]
سقط نظام الأسد في سوريا، وسقط معه جدار الخوف، وانطلق السوريون يكتبون عن مشاعرهم وأفكارهم بحريّة وجرأة لأول مرّة منذ عقود، فَرحين بقدرتهم المطلقة على التعبير وانتفاء الحاجة إلى التلميح أو التواري أو التخفّي أو الصمت توخّيًا للسلامة.
انقلبَ ولاء الإعلام الرسمي السوري (وما يرادفه) من دون أن يرافق هذا الانقلاب أيّ تحوّل يُذكَر على صعيد الأداء المعروف منذ العهد البائد بالتسطيح والتزلّف وتمييع الأولويات. وسارتْ وسائل الإعلام الأخرى (المُعارِضة سابقًا) مسارًا شديد التذبذب مهنيًّا وفنيًّا باستثناءات قليلة، لتتركّز حريّة التعبير الوليدة في جلسات السوريين وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث عَلت الأصوات بمطالب ومفردات كانت حتى الأمس القريب تُنطَقُ همسًا أو تختنقُ بها الحلوق والصدور. واستطاع الناس من مختلف الأجيال، ولأوّل مرّة في زمنهم الحاليّ، أن يعبّروا عن أفكارهم المكبوتة وميولهم المُتباينة والمُتَضاربة أحيانًا.
لا حاجة لتفسير فرحة السوريين بحريّة التعبير التي يعيشونها الآن، خصوصًا بعد أن تكشّفت السجون عن المصير المأساوي لمَن كانوا يطالبون بتلك الحرية أو يومِئون إليها أو يحلمون بها. ولا حاجة أيضًا لتبرير الفوضى والعشوائية التي تتسم بها هذه الحرية استكمالًا لحالة الفوضى العامّة التي أصابت معظم مفاصل الحياة في البلاد إثر انفراط العديد من الأجهزة التنظيمية والمؤسسات الإدارية وبُطلان العمل بالقوانين والدستور كنتيجة طبيعية للسقوط المفاجئ للنظام.
ولعلّ ما يُفاقم من فوضى حريّة التعبير أمران أساسيّان: الأول هو التغييرات التي طرأت على مهنة الصحافة وتلاشي حدودها بعد انفجار وسائل التواصل الاجتماعي التي حوّلت كل شخص إلى "صحفي" قادر على بثّ خبر أو تحليل أو إشاعة يصل بكبسة زرّ إلى ملايين الناس ويساهم، بنسبة أو بأخرى، في تشكيل رأي عام أو إزاحته أو التلاعب به، الأمر الذي يؤثر على سُلطة الصحافة المسؤولة ويضعفها.
ومن نافل القول إن هذا "الانفلات الصحفي" لا يقتصر على سوريا أو العالم العربي، إنّما يمكن اعتباره من سمات هذا العصر في كل مكان، وقد يحتاج الحديث عن محاصرة مخاطره إلى مقام آخر أكثر تخصّصًا ورحابة.
أمّا الأمر الثاني فهو قِلّة دراية معظم السوريين بتاريخ صحافتهم ومسيرتها النضالية الطويلة، مُضافًا إليها تقييمهم الضعيف لدور الصحافة وقدراتها.
إذا استهدينا بالمؤشّرات لنتخيّل ما يمكن أن يكون عليه شكل الإعلام في قادم الأيام، فإن الصورة ليست واعدة ولا مُبَشّرة
ولعلّه من المفيد هنا أن نستذكر الأثر المهم الذي تركته الصحافة على امتداد تاريخ سوريا، سواء كان ذلك تحت الحكم العثماني (مع أهميّة الإشارة إلى تفاوت سقف الحريّة الصحفية تبعًا لشكل وسياسة الحاكم، حيث ازدهرت الصحافة خلال ولاية مدحت باشا لسوريا 1878- 1880 على سبيل المثال، وبعد أن قدّم هذا الرجل الإصلاحي استقالته وعاد إلى إزمير فرض السلطان عبد الحميد قيودًا على الطباعة والنشر) مرورًا بالحكم العربي القصير (1918ــــ 1920) وصولًا إلى دور الصحافة المحوري في المقاومة الوطنية إبان الانتداب الفرنسي حتى بدايات عهد الاستقلال.
فكانت الصحافة تنتقد الوالي وسياسات المفوّضين السامين ورؤساء الحكومات والوزراء السوريين، وتتحدّث عن الحريات الفردية والاجتماعية والدستور وتطالب بإصلاحات اقتصادية وتفسح المجال للنقاش حول المعاهدات والأحزاب. ولم تكن تلك القضايا الجدّية حكرًا على الصحافة السياسية والفكرية والأدبية والدينية، بل التزمت الصحف الهزليّة، التي نشطت في تلك الفترة، بهموم الواقع أيضًا وابتكرت أساليب طريفة لطرح قضايا أساسية تهمّ الناس.
وبرغم تركّز الحراك الصحفي آنذاك في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب واللاذقية وحمص، إلا أن غالبية المناطق السورية شهدت نشاطًا صحفيًّا في وقتٍ ما، منه مثلًا: جريدة "أنطاكية" في أنطاكية، جريدتا "اللواء" و"صدى الإسكندرونة" في الإسكندرونة، جريدة "الأدهمية" في جبلة، جريدتا "الجهاد" و"الجبل" في السويداء، مجلّة "المرأة" في حماه، مجلة "المواكب" في القامشلي، مجلّة "التجدّد" في صافيتا، ومجلّة "الغدير" في السلميّة.[3]
بعض هذه الإصدارات لم يُكتَب له العمر الطويل، وبعضها استمرّ لسنوات. لكنها تعرّضت بالمجمل للتضييق والاضطهاد والمحاكمة والتعطيل المؤقت والتعطيل الدائم وسحب الامتياز (خصوصًا في مرحلة الوحدة مع مصر1958 ـــ 1961)، ويُحكى أن عددًا من الصحفيين السوريين كانوا ينشرون مقالاتهم، وفي صباح اليوم التالي يتوجّهون من تلقاء أنفسهم إلى النظارة للتوقيف!
من البَدَهي أن الطريق أمام الصحافة لم تكن يومًا آمنة لأنها في صراع مستمر مع السلطة، إذ لطالما كانت مهمّتها الأولى والأساسية هي المراقبة والبحث عن الأخطاء والتجاوزات، والاعتراض عليها أو رفضها بغضب، والتمرّد ما لم يُصار إلى تصحيحها. وإذا كان الانتقاد حقّ لكل مواطن فهو واجب على كل صحفي وكلّ مثقف بشكل عام، وإلا تحوّل الصحفي إلى بوق للنظام أو "هتّيف" في حاشيته في أردأ وأخطر نسخة عن شعراء البلاط المُدَجَّنين!
قد نجهل اليوم موقف الإدارة السورية الجديدة من الصحافة والإعلام بشكل عام، خصوصًا أنها تأخّرت في الإعلان عن سياسة إعلامية واضحة لانشغالها، ربّما، بما تعتقد أنه أجدر وأهمّ! وإذا استهدينا بالمؤشّرات والتحليلات لنتخيّل ما يمكن أن يكون عليه شكل الإعلام في قادم الأيام، فإن الصورة ليست واعدة ولا مُبَشّرة، أقلّه حتى الآن!
وبرغم ذلك، فإن الصحافة السورية، بعد سقوط النظام وخلال هذه المرحلة الانتقالية، تعيش فترة مزدهرة وبرّاقة. لا بل يمكننا القول إن الصحافة السورية فازت بالـ Buzz الذهبي، لا بسبب استثنائية أدائها بالطبع، بل لجهة خلوّ الطريق أمامها من التوقيف والاستبعاد والمنافسة، وها هي اليوم مؤهّلة بمفردها لتقدّم عرضها الأكثر تميّزًا في المراحل القادمة علّها تستعيد مكانتها كسلطة رابعة.
يبقى أن نحسن الظنّ بالصحافة المسؤولة، ونكفّ عن اتهامها بالتشاؤم والتفشيل والتخوين كلّما أشارت إلى زلّة أو خطأ. ولندع صحافتنا تأخذ دورها في التاريخ حتى إشعار ديكتاتوري آخر.
"موقف الصحافي من التاريخ ليس موقفًا محايدًا. فالصحافي الحقيقي الجاد والمؤثر والفعال ليس صحافيًّا حياديًّا. فالصحافي الذي لا يشعر بالغضب وبالثورة وبالقرف ـــ وكذلك بالفرح، والصحافي الذي لا يشعر بحاجته إلى الصراخ والتساؤل والشك ـــ والتشكيك أيضًا، ليس صحافيّاً مستوعبًا ولا هاضمًا للتاريخ. وبالتالي لن يكون شريكًا أو مساهمًا في صنعه. ربما يكون شاهد زور عليه، وإن كان محلّفًا."[4]
[1] "حطّ بالخرج" جريدة هزليّة عاميّة انتقادية أصدرها في دمشق محمد عارف الهبل عام 1909.
[2] من كتاب "تطور الصحافة السورية في مائة عام 1865 -1965 الجزء الأول" لـ د.جوزيف الياس ص 237، دار النضال - بيروت ط1 1982
[3] من كتاب "تطور الصحافة السورية في مائة عام 1865 -1965 الجزء الثاني" لـ د.جوزيف الياس، دار النضال - بيروت ط1 1983
[4]الريّس للكتب والنشر، ط1 1991 من كتاب "قبل أن تبهت الألوان – صحافة ثلث قرن" لـ رياض نجيب الريّس، رياض