وصل عامٌ لم يكن عاديًا إلى نهايته؛ عامٌ تلى سقوط رأس النظام الذي حكم سوريا عقودًا طويلة. عامٌ اهتزت فيه سرديات القوة، وتشقّقت فيه جدران اليأس على المستويين العام والشخصي أيضًا.
في زحمة الأحداث المتدافعة، وجدت نفسي أقف أمام المرآة، لا أفكر في الخرائط والطوائف والتحالفات، بل في شيء يبدو صغيرًا وبسيطًا، لكنّي أراه انعكاسًا لما حدث وقد يحدث: كيف، وكم تغيّرنا نحن السوريين؟ وكيف تغيرت أنا تحديدًا؟
تتزاحَم في المرآة أربع عشرة سنة دفعة واحدة: هتافات 2011، الدم المسفوك بلا حساب، المدن التي مُحيت من الوجود، المفاوضات والمعتقلات، الحدود والخيام، جواز السفر والمنافي، الملاذات المؤقتة، والأمل الذي كان ينهض، ثم يسقط، ثمّ ينهض من جديد. وفي قلب كل ذلك، كانت العلاقات الإنسانية تُعاد صياغتها كما يُعاد تشكيل الوطن.
تمرّ الوجوه أمامي كأشرطة متتابعة. وجوه أعرفها منذ زمن لم أعد أتذكر بدايته، وأخرى رافقتني منذ الأيام الأولى للثورة، منذ الهتاف الأوّل والجري الأوّل في الشوارع. وجوه صمدت معنا برغم الحرب والمنفى وتقلبات العمر. أصدقاء حملوا معنا الحلم ثمّ سقطوا برصاص الدكتاتور، وآخرون عبروا معنا أقسى سنوات القمع ثمّ خرجوا أشدّ صلابة، مقابل آخرين انقلبوا علينا حين طال الزمن، وصارت الثورة بالنسبة لهم ذكرى ثقيلة لا يُطيقون حملها، أو موقفًا مكلفًا لا يجرؤون على الاستمرار فيه.
أتذكّر وجوهًا رحلت عن عالمنا، وبقيت في ذاكرتي كالجمر. هؤلاء دفعوا ثمن الحرية التي يتنفسها بعض السوريين اليوم، من دون أن يشعروا بثقل الأرواح خلفها.
أستحضر في هذه اللحظة عبد العزيز الخيّر، الذي أخفاه نظام الأسد، والذي صار حضوره الأخلاقي أقوى في الغياب، وكذلك رامي الهناوي الذي رحل دون أن يرى ما حلم به. لكن حين أراجع ما حدث خلال العام الفائت، لا أعرف على وجه اليقين إن كان ما نعيشه اليوم هو ما دفعا حياتهما ثمنًا لأجله، أم أنّ الثمن ضاع في متاهات أخرى لم نصل إلى نهايتها بعد. برغم ذلك، أنا موقنة أنّهما لو بقيا على قيد الحياة، لكانا أوّل من يبتسم لي اليوم ابتسامة تشبه معنى الثورة حين وُلدت: بسيطة، صادقة، وإنسانية لا تتغير.
أستحضر أيضًا الوجوه التي بقيت برغم كل شيء، تلك التي يمكنني أن أرفع الهاتف لأهنئها بنهاية هذا العام، فنضحك معًا، لا لأنّ الغد مضمون، بل لأننا نجونا من سنوات لم يكن فيها شيء مضمونا.
تعلّقنا في المنفى بأشخاص لا يشبهوننا، وبرّرنا السلوكيات الجارحة، وأقنعنا أنفسنا بأنّ الجميع مرهقون، بهدف الحفاظ على العلاقات حتّى عندما لا تستحق
هؤلاء هم "ثبات العلاقات" الذي يشبه ثبات المواقف الأخلاقية؛ صداقات تتنفس المعنى نفسه الذي تنفسنا به يوم هتفنا "حريّة". وفي مقابلها وجوه خرجت من دائرة صداقاتنا، لا لأنّ أحدنا تغيّر فجأة، بل لأنّ السنوات كشفتهم وكشفتنا، والحرب غربلتنا، والمنفى امتحنهم كما امتحننا... فأعاد صياغتنا جميعًا.
من ذلك كله يراودني هذا السؤال: كيف أعادت الثورة والمنفى تشكيل علاقاتنا الإنسانية؟ كيف أثّرت السياسة على العائلة، والصداقة، والحب، والانتماء؟ وكيف نعيد قراءة خريطة العلاقات التي نجت، وتلك التي ماتت، وتلك التي كان يجب أن تموت منذ زمن بعيد؟
حرارة اللحظة الأولى وهشاشتها
مع بداية الثورة السورية، لم تهتز بنية النظام السياسي فحسب، بل اهتزت بنية العلاقات كلها في الشارع السوري الجديد. فجأة، وجدنا أنفسنا في فضاء اجتماعي مفتوح، فانهارت صداقات قديمة تحت وطأة اختلاف المواقف، في حين نشأت روابط جديدة بسرعة البرق: كان يكفي أن نهتف معًا في شارع واحد، وأن نركض بالاتجاه نفسه، ونتشارك الخوف، كي نشعر أننا عائلة واحدة، نستعيض بها عن عائلاتنا التي فرقتها الثورة. تشكّلت الروابط تلك من حرارة اللحظة، أي من العاطفة المشتعلة والحلم المشترك الذي كان أكبر من الجميع.
لكنّ هذه العلاقات، وبرغم صدقها في تلك اللحظات، كانت هشة، لأنها لم تكن مبنية على معرفة عميقة أو تجربة طويلة، بل كانت امتدادًا للميدان وللإحساس العظيم بأنّ كل شيء ممكن. كان يحكمها الانفعال الجمعي، علاقات تشبه الثورة نفسها، مشرقة ومندفعة، لكنها مكبّلة بغياب اليقين.
في نهاية عام 2014، قادني الهروب من نظام الأسد إلى ألمانيا. والمنفى ليس مكانًا لجأنا إليه هربًا من الموت فحسب، بل حالة نفسية كاملة. إذ وجدنا أنفسنا في مدن باردة، لغاتها لا تشبه أصواتنا، وعالمها لا يعرف تاريخنا ولا يفهم وجعنا. في هذا الفراغ الكبير، نشأت في داخلنا حاجة عميقة للآخر، وللألفة والحوار ووجود شخص يسمعنا من دون أن نشرح الكثير.
تشكّلت في البداية علاقات بسرعة مشابهة لما حدث مطلع الثورة. كل من يتكلم بلغتنا بدا قريبًا، وكل من يشاركنا الخلفية السورية بدا جديرًا بالثقة. لم يكن ممكنًا أن نختار الناس كما نختارهم في الظروف الطبيعية؛ كانت تحكم خياراتنا الحاجة الملحة للانتماء. غضضنا الطرف عن إشارات ووقائع تقول لنا إن هذه العلاقة غير متكافئة، أو هذه العلاقة سامة. كل ذلك لأنّ البديل بدا لنا مرعبًا: أن نكون وحيدين.
هكذا تعلّقنا بأشخاص لا يشبهوننا، وبرّرنا السلوكيات الجارحة، وأقنعنا أنفسنا بأنّ الجميع مرهقون، بهدف الحفاظ على العلاقات حتّى عندما لا تستحق ذلك. لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن أن ننكر أنّ تلك العلاقات، التي نراها اليوم بعين نقدية، قدمت لنا وهمًا بالرضى عن الذات. إذ أردنا أن نقول من خلالها إننا لا نزال قادرين على العطاء، وإننا لسنا مجرّد مهزومين، لا قيمة لنا أو قدرة على الفعل. وهكذا تواطأنا مع الشعور بأننا قد نكون منقذين، لا ناجين فقط.
صرنا نعيد النظر في كل شيء: من كنّا؟ ومن كانوا؟ من خسِرنا، ومن خسرَنا؟ كم كبرنا واختلفنا؟
مع مرور الوقت وهدوء قلقنا وبداية تعوّدنا على برد مدننا الجديدة، بدأ المنفى يكشف حقيقة تلك العلاقات. فالعلاقة التي تقوم على الحاجة تنتهي بانتهاء الحاجة. بدأنا نلاحظ أنّ بعض الأشخاص الذين كانوا معًا في البداية تفّرقوا ما إن وجد كل منهم توازنه بعيدًا عن الآخرين، فيما ظلّ المتشابهون مع بعضهم، أولئك الذين يتقاسمون قيمًل متشابهة.
التنافس واقتناص الفرص بين اللاجئين
أتذكر، بعد وصولي إلى ألمانيا بفترة قصيرة، أنّي دُعيت إلى مؤتمر حول الأدب واللجوء. وبعد إحدى الجلسات قال لي المترجم الفوري: "ما تحصلون عليه الآن كسوريين سيختفي قريبًا. الغرب يوزع الفرص على الجميع.. حتى لمن لا يستحق، كل ذلك لخدمة أجنداته".
أجبته: "لا بأس. من الجيد أن يحصل كل واحد على مساحة وفرصة للتعبير، والزمن كفيل بغربلة الجيد من السيء".
ابتسمتُ يومها، لكنّي رأيت لاحقًا كيف تحوّلت بعض العلاقات حولي إلى سباق صامت:
تكبّر البعض على اللجوء الذي منحهم مكانهم الجديد، وأنكروا صداقات قديمة لأنها لم تعد "تليق بالمقام"، أو لأن المعنيين بها منافسون محتملون. هكذا بنى هؤلاء علاقات تبدو حقيقية، لكنها لم تكن تتجاوز في حقيقة الأمر مقتضيات المصلحة الخاصة.
ولا أعتقد أنّ ذلك كلّه كان بسوء نيّة دائمًا، بل نابع أحيانًا من الشعور بعدم الأمان، والحاجة للظهور الذي يساعد في ترتيب ما هو مرتبك، ولو ظاهريًّا. فمن لا يملك أرضًا تحت قدميه، يبحث عن أيّ شيء يضمن له ثباتًا مؤقتًا.
قراءة الذات بعد سقوط الدكتاتور
مع سقوط النظام السوري، تغيّر معنى المنفى وتغيّر معه معنى العلاقات للمرّة الثالثة. فجأة، وجدنا أنفسنا أمام مرحلة انتقاليّة لا تشبه ما سبقها. وكما كانت الثورة اختبارًا سياسيًا وأخلاقيًا، والمنفى اختبارًا نفسيًا وإنسانيًا، جاءت لحظة السقوط لتشكّل اختبارًا ثالثًا: اختبار الذاكرة ورؤيتنا لأهداف المستقبل.
صرنا نعيد النظر في كل شيء: من كنا؟ ومن كانوا؟ من خسِرنا، ومن خسرَنا؟ كم كبرنا واختلفنا؟
لم تعد العلاقات التي انهارت مخيّبة، بل بدت نتيجة طبيعية لعدم التناسب. ولا عادت العلاقات التي استمر تبدو صدفة، بل اختبارات نجونا منها معًا.
لم نعد نحتمل جلد الذات كما كنا نفعل، ولا عدنا نبرّر سلوكيات مؤذية أو الركون إلى لعب دور الضحية.
أجدني اليوم، بعد مرور هذا العام، ممتنة لكل ما كشفته الثورة والمنفى وما بعد السقوط. صرت شخصًا يعرف كيف يخسر، وأحيانًا أكون ممتنّة للخسارة. يعرف كيف يغادر دون أن يحمل الذنب معه، ويعرف أنّ القيمة الحقيقية للعلاقات ليست بطولها، بل بصدقها، وأنّ ما ينهار لم يكن ثابتًا يومًا.
نحن لسنا الأشخاص أنفسهم الذين كُناهم عام 2011، ولا الذين كُناهم في بداية رحلتنا في المدن الباردة، أو حتّى قبل عام. كل مرحلة أعادت تشكيلنا كما يعاد تشكيل المعدن بالنار: الثورة صنعت قلوبنا، والمنفى كشف هشاشتنا، أمّا السقوط فوضعنا أمان مرآة، نرى فيها أنفسنا التي أصبحت، ونرى فيها الآخرين.