في توصيف ديكتاتورية بالحجم العائلي!
كيف لنا أن نتخلّى فجأة عن اللغة المراوغة؟ فالصفحة البيضاء أكثر جهنمية ورعبًا، في لحظة ضبابية كهذه، لحظة الكائن "المتشائل"، لا الكائن اليقيني بغدٍ مشرق.
كيف لنا أن نتخلّى فجأة عن اللغة المراوغة؟ فالصفحة البيضاء أكثر جهنمية ورعبًا، في لحظة ضبابية كهذه، لحظة الكائن "المتشائل"، لا الكائن اليقيني بغدٍ مشرق.
أحدهم نَشَلَ هاتفي الخليوي أثناء وجودي في طابور الخبز، في الصباح الأول لسقوط الدكتاتور! هكذا فقدتُ أرشيفي من أرقام هواتف الأصدقاء، والصور، والرسائل، والمحادثات المخزّنة في الجهاز دفعةً واحدة.
أحسستُ بأنّي أهيم في العراء، بلا ذاكرة، كمن يطوي زمنًا كاملًا من الرعب والكوابيس والإذلال. كان عليّ أن أقوم بتمرينات أولية على إزاحة حراشف الخوف عن الجلد، الحراشف التي تراكمت طوال خمسة عقود متواصلة، ما جعل الكائن السوري يتعلّم لعبة "عجين الفلاحة" بمهارة وليونة، كما لو أنه خُلق لكي يكون قردًا للفرجة، متجاهلًا الحدبة التي في ظهره لفرط الانحناء.
في جولتي الأولى لاستكشاف المشهد، وقفت أمام تمثال محطّم للأب الخالد، أو الصنم حسب التسمية الشعبية للتمثال. كان بلا رأس، فقط بقايا حديد وحجارة، بعدما سحله أحدهم مربوطًا بحبل خلف دراجة نارية، فيما كان آخرون يلتقطون صور السيلفي مع ما تبقى من حطام التمثال كذكرى لا تتكرّر.
كانت التماثيل الأخرى تتهاوى في الساحات والحدائق في مختلف المدن السورية كنوعٍ من الثأر المؤجل. سينبه آخرون إلى عدم الاقتراب من تمثال يوسف العظمة في الساحة التي تحمل اسمه وسط العاصمة دمشق كي لا تحطمه الغوغاء.
سيتذكّر السوريون يوم الأحد (8 كانون الأول/ ديسمبر) باعتباره يومًا مفصليًا في طي زمن العار والعبودية والاستبداد والاستباحة والانتهاك والشعارات الجوفاء والطغيان.
لقد هرِمنا حقًا وليس مجازًا في ظل" ديكتاتورية إلى الأبد"، ديكتاتورية بالحجم العائلي، لطالما كانت عصية على التفسير أو الشرح المبسّط أو الزوال، إذ فقدنا الأمل تمامًا بمشهد مغاير للبلاد، وكان علينا أن نكتفي بحصتنا الضئيلة من هواء التنفّس، بعد أن صَقلنا الخوف على هيئة كائنات بلا دورة دموية، فلكلّ منّا ملفّه الضخم لدى الأجهزة الأمنية، تغذيه شبكة من المخبرين وكَتَبة التقارير بإنشاء سقيم ينتهي بتهمةٍ ما، أقلّها وطأة: تشابه أسماء!
كنّا مهرّبين من طرازٍ آخر، ففي مهنة الكتابة، كان تهريب جملة مضادة، أو هتك مستور، أو تشريح حالة استبداد، عملًا بطوليًا وطائشًا في آنٍ واحد
نحن الذين ارتعدت فرائصنا لمئة سبب وسبب (ارتعدتْ فرائصه: فزِع، خاف خوفًا شديدًا. شكا فريصَته: تألَّم من عضلته الصَّدريّة). بلى، كنّا بأضلاع مكسورة بعد أن تجاوز الطغيان حدوده القصوى، فحسب ما يقول جوزيف برودسكي "إن الطول المتوسط لطغيان جيّد، هو عقد ونصف، أو عقدان كأقصى حدّ، حين يكون أكثر من هذا، ينزلق بشكل ثابت في الوحشية"، ولكن ماذا يفعل من عاش الطغيان بثلاثة أضعاف المدّة المقترحة؟!
لعل هذا ما جعل محمد الماغوط يقول" الخوف؟ إنه الشيء الوحيد الذي أملكه من المحيط إلى الخليج. ولديّ في أعماقي احتياطي من الخوف أكثر مما عند دول الخليج وفنزويلا من احتياطي النفط"، ويضيف" ولدتُ مذعورًا، وسأموت مذعورًا أنا مسكون بالذعر، وأي شيء يخيفني".
من جهتنا، كنّا مهرّبين من طرازٍ آخر، ففي مهنة الكتابة، كان تهريب جملة مضادة، أو هتك مستور، أو تشريح حالة استبداد، خلع أقفال العفّة، عملًا بطوليًا وطائشًا في آنٍ واحد، وذلك باستدراج لغة مراوغة وتغليفها بحبر مرتبك كي لا تقع في مصيدة الرقيب أو الآلة الجهنمية للعقاب.
هكذا كانت طبقات الخوف تتراكم أفقيًا وشاقوليًا، من الفرد إلى الجماعة، تبعًا لاستراتيجيات السلطة في تصدير حالة الذعر، وذلك بتفعيل آليات الضبط والمراقبة وتضييق الحريات، وفقًا لأطروحات ميشيل فوكو بخصوص اشتغال الأنظمة الاستبدادية على تدبير الخوف والرعب لترسيخ سلطتها والاستحواذ على الجموع تحت بند " نشر ثقافة الخوف"، والسعي لتحقيق "مجتمعات الضبط"، وفي حال فشلها تعمل على تصدير سياسة التخويف من خلال آليات الرقابة والوقاية وإجراءات الطوارئ لرفع مستوى الرّعب، وكيفية إدارة الخوف لا الخروج الآمن منه!
ولكن مهلًا، كيف لنا أن نتخلّى فجأة عن اللغة المراوغة؟ فالصفحة البيضاء أكثر جهنمية ورعبًا، في لحظة ضبابية كهذه، لحظة الكائن "المتشائل"، لا الكائن اليقيني بغدٍ مشرق.
إنها بهجة مؤقتة باحتمالات لا تحصى نحو الضوء أو "العتمة الباهرة"!