
أيقظتني هذا الصباح رعشةُ برد خفيفة، حملَتها النسمات التي انسلّت عبر باب الشرفة. كنتُ قد نسيتُ إغلاقه قبل النوم. كانت تلك النسمات تكفي لتحريك ما تكدّس في الذاكرة.
لستُ أكيدة من مولدي في مثل هذا اليوم. فما هو موثّق في بطاقتي الشخصية، مختلف عمّا قيل لي! بيد أنّ ذاكرتي أصدق من جميع الوثائق وممّا سمعته. الحقيقة هي أنّي وُلدتُ في أواخر أيلول/سبتمبر. أمّا ساعة الولادة، التي لم يخبرني بها أحد، فأتذكّر أنّها كانت في فجر يوم غائم جزئيًّا، يمثّل الخريف باعتداله كله. "هواء خفيف، رائحة المطر". كنتُ متشوّقة لاكتشاف حقيقة الحياة! فبعد تسعة أشهر من السباحة في سائل مالح، كنتُ أتوق لاستنشاق روائح عشّشت في ذاكرتي، من دون أن أتمكن من تمييزها بدقّة. أتشوّق إلى معرفة مصادر أصوات حفظتها عن ظهر قلب. وأكثر ما شاقني للخروج، كان اكتشافُ سِرِّ ذاك الطيف الملوّن الذي طالما داعب جفنيّ المغمضتين.
كانت أمي، في ذاك اليوم، تتلوّى ألمًا كلّما ركلتُ بقدميّ أو ضربتُ برأسي جدار رحمها، أُنذرها أنّ قدومي إلى الحياة لن يكون سهلًا، وأنها ستضطرّ لتربيّة ابنة شديدة العناد!
أما ولادتي، فكانت مثل الولادات الأخرى، خليطًا من العذاب والخوف. أوّل خروجي، تلقّفتني يدٌ غريبة، انزلقتُ عليها بفِعْلِ بقايا غشاء مخاطيّ وبعض الدم. كنتُ سعيدة بثورتي الأولى على سجني الأوّل.
وسنة بعد سنة، أخذ يبهرني اكتشاف أزرق الألوان، والعصفور الدّوُريّ المشاغب، والنرجس ورائحة الطيون والحبق، والغيوم الرماديّة والحصى والرمل، وغاندي وغيفارا، وجميع صفحات كل كتاب قرأته. كلّ هذا رافق نشأتي في هذا العالم. وما زلتُ، حتى اليوم، أشعر أن كلّ شيء يدهشني، كما لو أنّي وُلدت قبل قليل، وأفتح عيني وسعهما لدى رؤية أيّ تفصيل. وما زلتُ أشاغب، وما زلتُ أَعِدُ الحياةَ بمزيد من التعب!
في قرية ساحليّة قرب مدينة اللاذقيّة، وُلدت. وهناك انطبعت أوّل صور الحياة في عينيّ وفي القلب.
في تلك القرية الساحلية كبرتُ وأنا أراقب الخريفَ يمتدّ كلّ عام على سفوح قريتنا، أصفر ذهبيًّا، ثم أصفر بنيًّا في حقول القمح المحصودة توًا، وأحمر قرميديًّا على شجيرات السمّاق. كبرتُ وأنا أراقب انزلاق طيف ألوان الأفق على عرائش الدوالي عند المغيب.
لا أعتقد أنّ أمّي تخيّلت أنّ أيلول، شهر مولدي، سيشكّل أهم المنعطفات في مسار حياتي. في آب/أغسطس 2012، اعتُقلت على خلفية نشاطي السياسي ضد نظام الأسد. وأكثر ما كان يشغلني في سجني الانفرادي أن يمضي أيلول وأنا داخله. خرجتُ من السجن قبل بداية أيلول بأيام قليلة، لأُعتقل من جديد ويُفرَجُ عنّي في الشهر نفسه من العام 2013.
ما آلمني لم يكن وقوع مجازر الساحل فحسب، بل ردود الفعل عليها؛ التبرير والدفاع عن القتلة من أناس ظننت يومًا أنّي وإياهم في الجبهة نفسها
بعد خروجي من السجن، أُجهض حلمي بالحرية، وأصبحَت حياتي مهددة، فاتخذتُ قرار الهرب من دمشق. دمشق التي لطالما ردّدت ــــ وما أزال ــــ أنّها مرآة روحي، مثلما يقول محمود درويش عنها: " ففي الشام شامٌ، إذا شِئتَ، في الشام مرآةُ روحي".
هربتُ عبر الجبال بين سوريا ولبنان. وهناك، على سفوحها علّقتُ دمعتي الأخيرة، وأغلقتُ عينيّ وروحي على كلّ ألوان خريفنا السوري.
بعد عام من رحيلي عن دمشق، في أيلول أيضًا، حطّت الطائرة بي في إحدى مطارات برلين. كانت درجات البرودة والحنين يومها تماثل تلك التي أيقظتني هذا الصباح.
في أيلول 2021، انتبهتُ إلى أنّي فقدت أمل العودة، ذاك الذي حملتُه معي منذ أن غادرت. كان نظام الأسد قد بدأ يستعيد قبضته على المشهد السياسي في سوريا، ويُعيد صلاته العلنية مع حكومات عربية، فيما بعض الدول الأوروبية توحي بقرب استعادة العلاقات معه. حينذاك فقدت الأمل، أيضًا، بالحصول على أي خبر عن أحبّتي وأصدقائي المعتقلين، وصار الغياب جرحًا مضاعفًا. كنتُ أتمشّى على ضفّة قناة لاندفير يوم خطر لي أنّ الإنجاب قد يكون بديلًا عن وطن يبتعد. كنتُ يائسة، وأبحث عن أمل جديد أتعلّق به.
بعد عام بالتمام، في أيلول آخر، وُلِدَت ابنتي. أقبلَت إلى الحياة قبل تاريخ ميلادي بثلاثة أيّام، لتضيف إلى سيرة أيلول ولادةً أخرى. ومثلما انزلقتُ يومًا من رحم أمّي وتلقفتني يدٌ غريبة، انزلقَت ابنتي أيضًا إلى يدٍ غريبة في بلدٍ غريب. بلد سيصبح وطنها وستقول عنه، في المستقبل، إنّه مسقط رأسها.
كانت ابنتي تبلغ سنتين وثلاثة أشهر من العمر حين سقط نظام الأسد. يومها خطر لي أنّه لم يكن عليّ الإنجاب، لأنّ فكرة العودة بدت مستحيلة بوجودها. أخافتني هذه الفكرة. إذ كيف يمكن لي، كأمٍّ، أن أكون بهذه الأنانية؛ أن أُنجبها لأنّي بحاجة إلى أمل فحسب؟
لكنّ أمل العودة، الذي عاد لوهلة، سقط ضحيّة سلطة الأمر الواقع مجددًا. إذ سارت الأخيرة في طريق إقصاء من لا يشبهونها. وغدا مؤيدوها أكثر فجورًا من مؤيّدي الأسد، وصار كثير من المختلفين عنهم يخشون تشبيحهم لمجرد انتقاد سلوكٍ أو قول.
مع ذلك لم أُلغِ تذكرة السفر التي حجزتها إلى دمشق. بل أبقيتُها معلّقة كأنّي أترك فرصة أخيرة لتبدُّل الأقدار فألتحق بطائرة. كنتُ قد حجزت التذاكر لي ولأفراد عائلتي كي نعود في أيلول. لكنّ المجازر وقعت قبل ذلك. وما آلمني بشدّة لم يكن وقوعها فحسب، بل ردود الفعل عليها؛ التبرير والدفاع عن القتلة من أناس ظننت يومًا أنّي وإياهم في الجبهة نفسها.
في البداية قلت لنفسي إنّ الجراح سوف تندمل قبل أيلول، وسأحتفل في دمشق بذكرى ميلادي وميلاد ابنتي، وسنولد هناك من جديد. لكنّ التعامل باستخفاف مع حالات خطف النساء في الساحل، ثم مجازر السويداء، قطعا آخر خيوط الأمل. خفتُ، بل جبِنتُ، وفكرت هذه المرّة بأنانية الأم: كيف أحمل ابنتي الصغيرة إلى مكان كهذا؟ ماذا لو اختُطفَت هي؟ ماذا لو اختُطفتُ أنا وبقيَت هي وحدها؟ حتى لو متُّ، لن أسامح نفسي وأنا تحت التراب. أنا التي فقدتُ أمّي بعمر السنة ولم أشفَ من فقدها حتى اليوم.
ما زالت صورة الأم التي تحضن ابنها على البلاط في حيّ السومرية بدمشق، الذي هجّر سكانه قبل أسابيع، حاضرة في ذاكرتي. أستذكرها فيما أحضن طفلتي كل يوم في فراشنا الآمن.
بيد أنّي ما زلتُ أحلم بالعودة. ولذا أبقيتُ تذكرتي معلّقة، كأنّي أترك نافذة صغيرة لاحتمال الأخير. لم أتخلَّ عن الحلم، لكنّي أحمله الآن بحذر أكبر.
أُدرك أن هذا الاضطراب لا يخصّني وحدي. فكثير من الأمهات خارج سوريا يعشن الحالة نفسها، حيث التعلّق بالوطن والخوف على الأبناء. في الوقت نفسه، أعرف عشرات الأمهات السوريات اللواتي لا همّ لهنّ سوى إيجاد طريق آمنة لإخراج أبنائهن وبناتهن مما يسمّونه الجحيم.
ما زلت أحلم بالعودة لأنّ شيئًا جديدًا يولد فيّ كلّ أيلول: أملٌ هشّ، أو ندمٌ ثقيل، أو شوقٌ لا ينطفئ. وربما يحمل لي أيلولٌ آخر ولادة مختلفة، فتُعيدني نسائمه إلى دمشق التي لا تزال مرآة روحي.