سوريا ومختبر "الجيل الخامس" من الجهادية

يتمّ التعامل مع ملف الجهاديين في سوريا كسلعة قابلة للتداول، الأمر الذي يرشّح سوريا للتّحوّل إلى الحاضنة الأولى لما يمكن تسميته بـ"الجيل الخامس" من الجهادية العالمية. كيف يختلف "الجيل الخامس" عمّا سبقه؟

لا يصح قراءة الظاهرة الجهادية من زاوية التاريخ وحده، أو من خلال المقارنات التقليدية بين "القاعدة" و"داعش"، بل باتت الحاجة ملحّة إلى فهم كيفية إعادة إنتاجها في بيئات انتقالية مضطربة. وفي هذا السياق، تبرز سوريا اليوم كحالة سياسية هشّة ومعقّدة، تعيش مخاض بناء سلطة انتقالية ذات خلفية سلفية وماضٍ جهادي متعدد الأدوار والتحوّلات. سلطة لم تتبلور بعد في مشروع وطني جامع، وتتحرك ضمن موازين قوى إقليمية ودولية متضاربة.

في قلب هذه المعادلة، لا تظهر الجهادية كحركة عقائدية مستقلة تسعى إلى إقامة خلافة، بل كأداة تُدار وتُوظَّف ضمن لعبة المصالح. وهنا تتأسس فرضيتنا المركزية بأن سوريا يمكن أن تكون المرشّح الأول لولادة ما يمكن تسميته بـ"الجيل الخامس" من الجهادية، جيل لا يقوم على التمدّد الأممي أو الاستقلال التنظيمي، لكنه يقوم على الوظيفة السياسية التي تجعل من الجماعات الجهادية سلعة تفاوضية في سوق أمني ــــ سياسي مفتوح.

تقوم هذه الفرضية على ملاحظة مركزية تتعلق بكيفية توظيف أحمد الشرع رئيس السلطة الانتقالية لورقة الجهاديين على أكثر من مستوى. فمن جهة، تُسوّق السلطة نفسها في الداخل كحاجز وحيد يمنع انفلات "داعش" ويضبط حركتها، في محاولة لإقناع الأطراف الإقليمية إلى جانب الولايات المتحدة بأن بقاءها هو الضمانة لعدم عودة الفوضى. ومن جهة ثانية، يجري استخدام الجهاديين كـ"عملة تفاوضية" في علاقاتها مع القوى الكبرى. 

وقد برزت هذه المقاربة بوضوح في أعقاب حادثة مقتل أحد القياديين الأويغور في حلب (أبو فاروق الأويغوري) خلال غارة جوية نفذها "التحالف الدولي" (5 أيلول/سبتمبر)، وهو ما سارعت السلطة الانتقالية إلى استثماره، على اعتبار أنها زوّدت القنوات الإقليمية بالمعلومات التي سمحت بإنجاز العملية. وأعقب ذلك مباشرة لقاء وزير الخارجية الانتقالي أسعد الشيباني مع السفير الصيني في دمشق (6 أيلول/سبتمبر)، حيث حرصت السلطة على البعث برسالة مفادها أنها الطرف القادر على ضبط ملف المقاتلين الأويغور، مقابل مكاسب سياسية في الأمم المتحدة تتعلق بملف العقوبات وإعادة النظر في إدراج أحمد الشرع على لوائح الإرهاب الأممية.

وما يزيد من خطورة هذا المسار أن الشرع نفسه أعلن في الآونة الأخيرة أنه ليس امتدادًا لـ"الربيع العربي"، ولا لـ"الإخوان المسلمين"، ولا للتنظيمات الجهادية الكلاسيكية، ما يضعه في موقع "السلطة الثالثة" التي لا تستند إلى ثورة ولا إلى حركة دينية مسلّحة بالمعنى الكلاسيكي، بل تبني ذاتها عبر موقع وظيفي جديد. هذا الموقع قد يشكّل المدخل لتأسيس صيغة مختلفة من الجهادية، لا باعتبارها مشروعًا ثوريًا مستقلًا، وإنما كأداة تُستثمر في لعبة المصالح الدولية لتأمين الاعتراف وتثبيت البقاء. 

من الأجيال السابقة إلى التحول السوري

تُميّز أدبيات الجهادية العالمية عادةً بين أربعة أجيال: الجهاد الأفغاني ضد السوفييت (الجيل الأول)، "القاعدة" وحربها ضد "العدو البعيد" (الجيل الثاني)، "القاعدة" اللامركزية بعد غزو العراق (الجيل الثالث)، وأخيرًا "داعش" ومشروع "الخلافة" (الجيل الرابع).

اليوم، مع تفكك نموذج "داعش" وغياب مشروع أممي جامع، يتحدث باحثون عن ملامح جيل خامس، لا يتخذ شكل تنظيم هرمي أو خلافة، بل يتموضع في صيغ محلية مرنة، تُستثمر سياسيًا وتُدار عبر سلطات أمر واقع.

التمييز بين "الجيل الرابع" الذي مثّلته "داعش" وبين ما يمكن تسميته بـ"الجيل الخامس" أمر جوهري لفهم عمق التحول. فـ"الجيل الرابع" ارتكز على مشروع الخلافة وسعى إلى إقامة كيان سياسي عابر للحدود، قائم على مركزية صارمة وهرمية تنظيمية واضحة، واعتبر العدو البعيد جزءًا أصيلًا من استراتيجيته.

في المقابل، لا يسعى "الجيل الخامس" إلى أي بناء أممي أو تنظيمي بالمعنى التقليدي، بل يتموضع في سياقات محلية مرنة، ويُعاد تعريفه بوصفه موردًا سياسيًا أو "عملة تفاوضية" في أيدي سلطات الأمر الواقع.

لا تعود الجهادية مشروعًا عقائديًا بل تتحوّل إلى عنصر داخل بنية تبادل أمني ــــ سياسي، يشبه السوق الذي تتداول فيه الأطراف "التهديد" كما تتداول أي سلعة أخرى

الفرق الجوهري هنا أن "الجيل الرابع" قدّم نفسه كفاعل سياسي يسعى إلى السيطرة المباشرة، بينما "الجيل الخامس" يُقدَّم من قبل سلطات انتقالية كأداة ضبط ومقايضة. هذا التحول من العقيدة إلى الوظيفة هو ما يمنح "الجهادية الوظيفية" ملامح نقلة نوعية، تجعلها مختلفة عن مجرد إعادة تدوير للجيل السابق.

الحالة السورية تقدم مثالًا نادرًا لهذه التحولات. فالسلطة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، التي ترفض وصْف نفسها بـ"الامتداد" للثورة أو لـ"الإخوان" أو حتى للحركات الجهادية السابقة، لا تسعى لتدمير الجهادية ولا لاحتضانها، بل لإعادة تعريفها كـ"ورقة سياسية" يمكن التلاعب بها داخليًا وخارجيًا. وهذا ما يجعل سوريا ساحة اختبار لمفهوم "الجهادية الوظيفية".

لا تقتصر ظاهرة "الجهادية الوظيفية" على التجربة السورية وحدها، بل يمكن مقارنتها بحالات دولية أظهرت ملامح مشابهة. ففي باكستان بعد عام 2008، تعاملت حركة "طالبان" باكستان مع الجهادية كأداة متعددة الوظائف: في لحظة كقوة عقائدية ضد الدولة، وفي لحظة أخرى كأداة مساومة مع أجهزة الأمن أو القوى الإقليمية، وهو ما أعطى لهذه الجماعات وظيفة مزدوجة تتجاوز بعدها العقائدي. وفي منطقة الساحل الأفريقي، خصوصًا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تحوّلت الجماعات الجهادية إلى طرف في معادلات التفاوض السياسي والأمني، حيث استُخدم وجودها كورقة ضغط في التفاهمات مع القوى الدولية، وأحيانًا كوسيلة لتبرير تدخلات عسكرية أجنبية أو صفقات مالية.

إن ما يمكن تسميته بـ "سوق الإرهاب" يمكن أن يشكّل الإطار الأكثر تعبيرًا عن التحولات الجارية في سوريا اليوم، حيث تعمل السلطة الانتقالية داخل هذا السوق بوصفها مزوّدًا لخدمة الضبط. فهي لا تسعى إلى القضاء على الجهاديين بصورة نهائية، بل إلى إبقائهم ضمن نطاق يمكن التحكم به، بحيث تظلّ قادرة على تقديم نفسها للعالم باعتبارها الحاجز الوحيد أمام انفلات الفوضى.

من خلال هذه المعادلة، يصبح وجود الجماعات الجهادية ضروريًا لإبراز الدور الوظيفي للسلطة، ويغدو ضبطها أو تمرير المعلومات عنها أو التلويح بخطرها جزءًا من عملية تفاوض مستمرة مع القوى الكبرى. 

وبهذا المعنى، لا تعود الجهادية مشروعًا عقائديًا مستقلًا بقدر ما تتحول إلى عنصر داخل بنية تبادل أمني ــــ سياسي، يشبه السوق الذي تتداول فيه الأطراف "التهديد" كما تتداول أي سلعة أخرى. فالسلطة الانتقالية تدرك أن بقاءها لا يقوم على بناء قاعدة داخلية صلبة، بقدر ما يقوم على إقناع الخارج بأن قدرتها على إدارة هذا الخطر تجعلها طرفًا لا يمكن الاستغناء عنه. 

الجهادية كأداة وظيفية

يمكن، من الناحية النظرية، أن يُفهم ما يُسمى بـ"سوق الإرهاب" على أنه بنية مركّبة تتداخل فيها ثلاثة أبعاد مترابطة تعكس طبيعة العلاقة بين السلطة والجماعات الجهادية.

البعد الأول هو ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الحماية"، حيث تتصرف السلطة بوصفها مزوّدًا للأمن، فتبيع خدمات الحماية من تهديد قد تكون هي نفسها جزءًا من شروط إنتاجه أو على الأقل من ظروف استمراره، وهو ما يجعل من الإرهاب موردًا دائمًا يبرّر الحاجة إلى السلطة ذاتها.

البعد الثاني هو السوق السياسي، حيث تتحوّل العلاقة مع الجماعات الجهادية إلى جزء من تبادل سياسي أوسع، تُباع فيه الولاءات والتهدئة وفتح طرق المرور، مقابل حوافز مالية أو دعم سياسي أو اعتراف خارجي. وفي هذا السياق يصبح "الإرهاب" مكوّنًا داخل لعبة سياسية أوسع تتجاوز البعد الأمني المباشر، إذ يمكن أن يدخل في  في صفقات تبادل النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. 

أما البعد الثالث فيتمثل في تسليع التهديد، حيث تتحدّد "قيمة" الجماعات الجهادية وفق قدرتها على التأثير في البيئة الأمنية والسياسية؛ كقدرتها على تعطيل خطوط الإمداد، أو الضغط على الخصوم، أو تقديم نفسها كتهديد يمكن "احتواؤه" لإرضاء أطراف خارجية. 

ويمكن ربط هذه الحالة بأدبيات العلاقة بين الإرهاب والجريمة المنظمة، حيث تتحوّل الجماعات الجهادية في كثير من الحالات إلى فاعلين يتكيّفون مع اقتصاديات ظلّية مثل التهريب والابتزاز والجباية غير الرسمية. هذا التكيّف يزيد من قابلية إدماجها داخل "سوق الإرهاب" بوصفها جهات يمكن التفاوض معها وتسعير أدوارها. وبهذا يصبح الإرهاب ذاته موردًا قابلًا للتداول، يملك قيمة سياسية وأمنية واقتصادية، أكثر من كونه مجرد تهديد يُراد القضاء عليه.

وعند إسقاط هذا الإطار على الحالة السورية الراهنة، يتضح أن إدارة ملف الجهاديين يتم التعامل معه كسلعة قابلة للتداول داخل سوق الإرهاب، الأمر الذي يجعل سوريا مرشحة لأن تتحول إلى الحاضنة الأولى لنمط جديد من الجهادية الوظيفية، أو ما يمكن تسميته بـ"الجيل الخامس" من الجهادية العالمية.

إسرائيل في خطاب السلطة السورية الانتقالية

لا يمكن قراءة خطاب السلطة الانتقالية في سوريا إلا بوصفه تعبيرًا مكثفًا عن هشاشتها البنيوية. فهو لا يُنتج...

مالك الحافظ
السلطة الانتقالية السورية: من خطاب الدولة إلى وظيفة التسوية

تتحرك السلطة السورية الانتقالية ضمن مجال مفروض وظيفيًا لإعادة هندسة موقع سوريا في النظام الشرق ــــ أوسطي...

مالك الحافظ
التعاطي مع تفجير كنيسة مار إلياس: الطاعة بديلًا عن الدولة

السؤال الأهم اليوم يتمحور حول جدوى مؤسسات تُحاكي الشكل الحداثي للدولة، لكنها تُدار بمنطق الجماعة المغلقة...

مالك الحافظ

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة