التعاطي مع تفجير كنيسة مار إلياس: الطاعة بديلًا عن الدولة

السؤال الأهم اليوم يتمحور حول جدوى مؤسسات تُحاكي الشكل الحداثي للدولة، لكنها تُدار بمنطق الجماعة المغلقة وتُؤسّس شرعيتها على الطاعة لا على الإرادة العامة.

منذ اللحظة التي ارتقت فيها السلفية الجهادية من هامش القتال إلى مركز السلطة، ومن موقع المواجهة العقائدية مع الدولة إلى موقع التحكم بمفاصلها، بدا المشهد السوري كما لو أنه دخل مرحلة الارتطام البنيوي بين منطق الطاعة ومنطق الدولة. إذ لم تُجرِ هذه السلطة (ونواتها الأساسية "هيئة تحرير الشام") مراجعة فكرية تتيح الانتقال من منطق الهدم إلى منطق التأسيس، بل عمدت إلى إعادة توطين شعاراتها القتالية داخل مؤسسات الحكم.

إن القفزة من التنظيم إلى الدولة، ومن "البيعة" إلى "الوزارة"، لم تكن سوى كشفٍ لعجز بنيوي عميق في قدرة المنظومة الجهادية على الانتقال من سلطة الطاعة إلى منطق التمثيل السيادي في سوريا. فالطاعة، في هذا السياق، هي بنية انضباطية تُعيد تشكيل الدولة كجهاز إخضاع، وتُفرغها من شروط السيادة التداولية التي تقوم على المساءلة والاعتراف المتبادل.

ما وراء تفجير كنيسة مار إلياس

مساء الثاني والعشرين من حزيران/يونيو الجاري، دوّى انفجار في كنيسة مار إلياس بحيّ الدويلعة في دمشق، مخلفًا ضحايا ودمارًا في أحد أقدم الأحياء المسيحية في العاصمة. الحدث الذي هزّ وجدان شريحة واسعة من السوريين، قوبل من السلطة الانتقالية ببيان صادر عن وزارة الخارجية، خالٍ من الترحم على أرواح الضحايا أو التعهّد بالملاحقة. فيما لم يزر الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، ولا وزير داخليته، ولا أي مسؤول محسوب على "هيئة تحرير الشام"، موقع التفجير الإرهابي. وقد أظهر هذا الغياب الرسمي انفصال السلطة عن المجتمع، وكشف كونها جهاز طاعة وليس دولة رعاية.

كما أظهر التفجير هشاشة النموذج السلفي الجهادي في الحكم، حيث يُبنى الأمن على "التمكين" لا على العقد، وتُوزّع الحماية بوصفها امتيازًا، دون أن تكون حقًا مواطنيًا. فحين تصبح الاستجابة للجرائم رهنًا بهوية الضحايا، تُعاد صياغة المجال العمومي بوصفه خريطة امتيازات عقائدية لا أكثر.

والفقه السياسي السلفي لا يكتفي بنفي المواطنة عن غير "أهل السنة والجماعة" كما يُعرّفها منظّرو الجهادية، بل يطوّع آليات الحماية الشرعية، مثل "العهد" و"الذمة"، لتصبح خاضعة لإرادة الحاكم وليس لحق قانوني متساوٍ. وهنا يُعاد تعريف الآخر ككيان مشروط البقاء، خاضع لتقلبات الولاء ومواقع البيعة، وهو ما يُنتج نمطًا تعسفيًا من الحماية ينتمي إلى منطق الغلبة لا إلى نظام حقوق.

والأخطر أن هذا النمط من التمييز يجد جذوره في البنية الفقهية التي تُدير السلطة الانتقالية. فمستشار الشؤون الدينية الحالي للرئاسة الانتقالية، عبد الرحيم عطون (المعروف سابقًا بأبي عبد الله الشامي)، والذي كان يشغل منصب الشرعي العام لـ "هيئة تحرير الشام"، سبق أن أورد في كتابه خلال المرحلة "الجهادية"، المعنون بـ "سلسلة اللطائف في مفهوم وأحكام الطوائف"، أن "النصارى كاليهود والباطنية يُقتلون إن امتنعوا بشوكة"، وأضاف أن الحماية لا تُمنح لهم إن لم يخضعوا.

لا تبدو سلطة البيعة في سوريا في وارد مراجعة أدواتها، بل تُمعن في إعادة إنتاج منطق الاصطفاء 

ويمكن القول إنه حتى لو وُجّهت التهمة إلى أحد عناصر "داعش"، فإن المشكلة لا تكمن في هوية المنفّذ بقدر ما تتمثل في التربة الفكرية التي أنتجت فعله، وهي ذاتها التي أنتجت "هيئة تحرير الشام". ويمكن أن نضيف أن التفجير كشف الحدود الأخلاقية والسياسية للسلطة، إذ بدت الجريمة "حدثًا تأويليًا" يُقاس بمقاييس الطاعة والبراء.

من البيعة إلى الدولة

كانت "البيعة" في التجربة السلفية الجهادية شكلًا بديلًا عن التعاقد السياسي الحديث، يُعيد تعريف السلطة بوصفها تفويضًا فوقيًا غير قابل للنقض، لا اتفاقًا أفقيًا بين فاعلين متساوين. وبهذا كانت تُكرّس علاقة رأسية بين "أمير" يُستمد سلطانه من النص، و"رعية" مُلزَمة بالطاعة دون أي اختيار.

"البيعة"، كما تُمارَس في النسق السلفي، هي فعل إذعان لا يتأسّس على الإرادة المشتركة، بل على مفهوم "السمع والطاعة" المغلق. وهذا ما يجعلها على الضد من كل تعاقد سياسي حديث، حيث يصبح الحكم محكومًا بمرجعية فوق ــــ سياسية تمنع المحاسبة والتداول، وتُعيد السلطة إلى نمط ما قبل ــــ حداثي.

ثمة فجوة مفاهيمية تجعل الجهادية غير قادرة على بناء دولة، حتى لو لبست لبوس المؤسسات ورفعت شعارات "الحكم الراشد"، لأن ما يُدير الدولة هنا الولاء العقائدي والبيعة والتمكين، بدلًا من القانون والتعاقد والمصلحة العامة.

وفي قلب هذا التصور العقدي، لا تجد الفئات غير المنتمية إلى المنهج ــــ من المسيحيين وغيرهم من المكونات الدينية أو المذهبية ــــ موضعًا في خريطة التمثيل أو الحماية. فالبنية الفقهية التي تقوم عليها "البيعة" السلفية لا تُنتج مواطنة شاملة، بل تُعيد تصنيف المجتمع إلى طبقات عقدية متفاوتة الشرعية.

وبهذا، تتحول الفئات التي تُوصَف بـ"الذمية" أو "الكافرة" إلى كيانات مؤجلة السيادة، لا تُخاطَب بوصفها تضم شركاء في الوطن، بل رعايا يُحتمل تأديبهم، أو التغاضي عن وجودهم ما لم يُظهروا الولاء. وهو ما يُفسر في المنطق الرمزي غياب أركان الدولة الوليدة عن حدث كتفجير كنيسة مار إلياس، إذ لا يُعدّ اعتداءً على المجتمع الأصيل، بل فعلًا يقع خارج مجال الحماية أصلًا، لأن ضحاياه خارج خريطة البيعة، وهو نهج إجرائي شبيه بما حصل ما بعد انتهاكات وجرائم الساحل السوري مطلع آذار/مارس الماضي.

الطاعة، مهما كانت منضبطة أو مخلصة، لا تُنتج شرعية، والغلبة، مهما كانت واسعة، لا تُنتج سيادة

من الغلبة إلى السيادة

لا يجد المقاتل الجهادي في الدولة إطارًا سياديًا مستقلًا عن الذات القتالية التي تشكّلت فيها هويته. فهو يتعامل معها بوصفها غنيمة مشروطة بالتمكين، وليست مسؤولية قائمة على التفويض العام. وعندما يُستدعى إلى موقع الحكم، لا يُقدَّم باعتباره موظفًا داخل جهاز الدولة، فهو سيظهر كحامل لشرعية مستمدة من خارج مفهوم الشعب. 

ووفقًا لقراءة وائل حلاق، فإنّ الدولة الحديثة، حتى حين تتبنّى خطابًا إسلاميًا، تبقى نتاجًا لحداثة سلطوية لا تقبل التديّن إلا بوصفه أداة للضبط. أما في الحالة الجهادية السلفية، فالمفارقة تتعمّق، إذ تُعاد صياغة الدولة الحديثة بأدوات الفقه السلطاني، فتُنتَج بنية هجينة؛ لا هي دينية تقليدية، ولا هي مدنية عقلانية، بل هي نظام طاعة بلا مساءلة، يُمسك بالمقدّس بوصفه شرعية، وليس بوصفه سؤالًا أخلاقيًا أو مجتمعيًا.

يمكن القول إن السؤال الأهم اليوم يتمحور حول جدوى مؤسسات تُحاكي الشكل الحداثي للدولة، لكنها تُدار بمنطق الجماعة المغلقة وتُؤسّس شرعيتها على الطاعة لا على الإرادة العامة.

إن هذا التناقض البنيوي لا يُنتج دولة سورية حديثة، بقدر ما يُعيد إنتاج سلطة مقنّعة تتزيّن بلباس الدولة الحديثة. فالطاعة، مهما كانت منضبطة أو مخلصة، لا تُنتج شرعية. والدولة، مهما كانت مغطاة بالشعارات، لا تقوم إلا حين يكون المجتمع حاضرًا فيها بوصفه شريكًا وليس تابعًا.

إنّ ما تعيشه سوريا اليوم هو أزمة شرعية واختبارًا وجوديًا لفكرة الدولة نفسها. والسؤال الحقيقي يتمثل في مدى إمكانية أن تُحكم الدولة بلا تعاقد، وبلا تمثيل، وبلا إرادة عامة.

ما بعد السلفية الجهادية في سوريا: من الدولة المستحيلة إلى مأزق السيادة

تتبدّى التجربة السورية ما بعد الأسد، بوصفها خروجًٍا من الاستبداد إلى التمكين، ومن طغيان الدولة الأمنية إل...

مالك الحافظ
السلطة الانتقالية السورية: من خطاب الدولة إلى وظيفة التسوية

تتحرك السلطة السورية الانتقالية ضمن مجال مفروض وظيفيًا لإعادة هندسة موقع سوريا في النظام الشرق ــــ أوسطي...

مالك الحافظ

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة