سوريا: اقتصاد الشاشات وزيف الواقع

ليست العقوبات ولا تركة الحرب والفساد وحدها ما يخنق الاقتصاد السوري، بل هناك معطيات أخرى باتت تحوّل هذا الاقتصاد إلى مهرجانات إعلامية ومبادرات فردية. الاقتصاد السوري اليوم يزدهر في الفضاءات الافتراضية ويكاد ينعدم تقريبًا على أرض الواقع.

لا اقتصاد اليوم في سوريا. لقد انتقلت البلاد من اقتصاد الحرب القائم على منظومة متشابكة وهائلة من الفساد والمحاصصة والزبائنية إلى اقتصادٍ عشوائي قائم على سدّ الثغرات واستجداء الاستثمارات ومبادرات فردية وأشكال أخرى من المحاصصة وتقاسم النفوذ. كلا النموذجين فاشل، وكلاهما لا يمثلان اقتصادًا بالمعنى المستدام القادر على إقامة شبكات أمان اجتماعي وتحقيق تنمية مجتمعية ومادية ونمو متراكم. 

ليس الانهيار الاقتصادي في سوريا، الذي يحتاج إصلاحه لمعجزات، مثار جدلٍ بالطبع. بعد نحو 14 عامًا من النزاع، تتفق تقارير معظم المنظمات الدولية ومراكز البحث المختصة على كارثية المشهد. تُقدّر الخسائر التراكمية في الناتج الإجمالي المحلي بنحو 800 مليار دولار أميركي، فيما يقبع نحو 90% من السكان تحت خط الفقر ويحتاج 75% منهم إلى نوع من المساعدة الإنسانية. كما تعرضت 50% من البنى التحتية للدمار، وهناك أكثر من 300,000 وحدة سكنية مدمرة بالكامل. 

والبيانات لا تقف هنا، إذ فيها أيضًا ما يعرض دمار المستشفيات والمدارس وتهالك شبكات الطاقة وانفلات التضخم وضعف القوة الشرائية وخلاف ذلك. غير أننا لسنا بحاجة لأرقام البنك الدولي أو غيره من منظمات الأمم المتحدة أو المؤسسات الإنسانية لندرك المأساة. تكفينا نظرة فاحصة للشارع السوري أو حديث عابر مع أي سوري لنرى الفقر مجسدًا، ولنسمع عن المعاناة اليومية لتوفير لقمة العيش في أرض اليباب هذه التي تدعى سوريا. 

ومع تسجيل عام 2025 "إخفاقات" متتالية في المجال السياسي، تمثلّت بمجازر هوياتية، ونكوصٍ للديموقراطية، وسيطرة للميليشيات على المؤسسات العسكرية والأمنية، وحصرٍ للسلطات في يد الرئيس المؤقت ومركزة للقرار ضمن حلقته الشخصية الضيقة، تجد السلطة في سوريا اليوم أن مخرجها يتمثّل في الاقتصاد. وحده تحقيق نجاح ما في المجال الاقتصادي قد يمكّنها من المحافظة على شيء من القبول، حتى داخل مجتمعاتها الموالية. 

لكنّ العامل المشترك الذي يطبع معظم سياسات السلطة وتصرفاتها يتمثّل بالتركيز على الشكل أكثر من المضمون، وعلى الإعلام المخدّر أكثر من العمل المجدي. وكما بدأت حُكمها محمولةً على رافعة حملة علاقات عامة واسعة ومكثفة، تستمر السلطة اليوم في تسيير شؤون الدولة والمجتمع بالذهنية نفسها. 

فوضى التفاؤل

بغطاء إعلامي تؤمنه مؤسسات محلية وإقليمية وجيوش إلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي، يجري إغراق الفضاء العام بالفعاليات والتصريحات والإعلانات التي تجمعها عناصر الإبهار البصري والنفسي، ولكن من دون إنجازات مرافقة على الأرض تساوي ربع هذا الإبهار حتى. وهنا يكمن أحد أبرز وجوه الأزمة الاقتصادية في سوريا. 

بعد فرار بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 واستيلاء "هيئة تحرير الشام" على السلطة في دمشق، تكرر ظهور بعض المسؤولين في الحكومة الجديدة على مختلف وسائل الإعلام خلال الأشهر الثلاثة الأولى للإدلاء بتصريحات ووعود حول الأوضاع الاقتصادية والمالية والخدمية على نحو خاص. 

كان الحديث دومًا يدور حول شؤون تخص حياة السوريين اليومية بالفعل، قبل أن ينتقل مستوى التصريحات مع تولي الحكومة الجديدة الدفة ليتجاوز معيشة السوريين ويتناول الاستثمارات والمشاريع الضخمة. فخلال الفترة الأولى، برزت مثلًا تصريحات حكومية مبكرة حول زيادة قريبة للرواتب في القطاع العام بنسبة 400% تموّلها الخزانة العامة، وزيادة ساعات التغذية الكهربائية خلال فترة قصيرة عبر صيانة محطات التوليد وزيادة ضخ الفيول والغاز إليها، فضلًا عن استقبال سفينتي توليد للكهرباء قادمتين من قطر وتركيا. 

انتظر السوريون زيادة الرواتب بنسبة 400%، فمرت الأشهر ولم تحصل. ومع نهاية حزيران/يونيو 2025، صدر مرسومان رئاسيان أقرا زيادة الرواتب والمعاشات التقاعدية بنسبة 200%. وبحسب وزير المالية، محمد يسر برنية، كانت تلك المرحلة الأولى التي ستليها مراحل زيادة نوعية تستهدف قطاعات بعينها كالقضاء والتعليم، ومرحلة ثالثة تتضمن إصلاح قانون الخدمة المدنية ووضع هيكلية مرنة للرواتب تراعي خصوصية كل وزارة. 

يمكن ببعض المتابعة ملاحظة كيف تسبق التصريحات الإيجابية إجراء أي مسوحات أو دراسات أو مراحل تنفيذ مبدئي وتجريب

وعلى الدرب ذاته تسير قضية الكهرباء. إذ لم تصل أي سفينة توليد كهرباء إلى الشواطئ السورية، علمًا أن واقع محطات التوليد وخطوط النقل وكميات الغاز بلغ حدًا من التدهور لا يمكن تحسينه بالتصريحات الصحفية ومنشورات "السوشال ميديا" فحسب. وبهدف تحسين الإمدادات، أعلنت وزارة الطاقة في شهر تموز/يوليو توقيع مذكرة تفاهم مع أذربيجان تقضي بتزويد سوريا بـ 3.4 مليون متر مكعب من الغاز يوميًا، عبر تركيا، ما سيساهم في رفع التغذية الكهربائية في البلاد بمعدل خمس ساعات إضافية. أيضًا انتظر السوريون تحسن التغذية الكهربائية، لكنّ أضواء منازلهم استمرت بالتذبذب والانطفاء لساعات طويلة من دون أي تغيير ملموس. 

لم يفهم الوزراء – أو من يُطلب منهم الإدلاء بتصريحات مطمئنة – ضرورة تجنّب الخطاب العاطفي والحماسي والحرص عند قطع الوعود، بعد ما شهدته البلاد من تجارب خائبة. برغم المؤشرات الاقتصادية السلبية ونقص السيولة في الأسواق، فضلًا عن انتشار أخبار المبادرة السعودية القطرية الهادفة، بالشراكة مع "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، إلى تمويل جزء من رواتب القطاع العام في سوريا، يُصر وزير المالية، محمد يسر برنية، في جميع تصريحاته ــــ بما فيها خطبة عاطفية ألقاها في جامع الإيمان بعد صلاة الجمعة تعهّد فيها بتقليد الخليفة عمر عبد العزيز الذي قضى على الفقر بسنتين وأربعة أشهر ــــ على أننا قادرون على بناء بلدنا بأنفسنا وبمواردنا، وأننا لا نحتاج لأحد ولا لأي مساعدة. دليل برنية في هذا الأمر، بحسب مقابلة له مع قناة "TRT عربي"، أن الدولة استطاعت تمويل الزيادات الأخيرة على الرواتب "من دون أن نحصل على مساعدات من الخارج، ومن دون أن نستدين من الخارج، (بل) بجهود ذاتية"، من أموال الخزينة العامة التي يتحسّن وضعها المالي باستمرار ــــ بحسب برنية الذي لم يدعم قوله بأي بيانات أو كشوفات مالية.  

ويمكن ببعض المتابعة ملاحظة كيف تسبق التصريحات الإيجابية إجراء أي مسوحات أو دراسات أو مراحل تنفيذ مبدئي وتجريب. فبعدما اضطرت وزارة الطاقة للاعتراف بأن تحسين واقع الكهرباء بشكل مستدام يتطلب الكثير من الوقت والجهد بسبب حالة منظومة التوليد والنقل والتوزيع، إضافةً إلى الضياعات والتجاوزات على الشبكة، ظهرت تسريبات تشير إلى عدم مطابقة الغاز المُستجَر من أذربيجان للمواصفات الفنية للمحطات السورية. ومع غياب الرد الرسمي الحاسم، واللجوء لتطمينات غير مباشرة عن طريق مستشارين حكوميين أو صحفيين، يبقى السوري في الظلام، فعليًا ومعنويًا.  

وربما ما من أحدٍ يمثل تيار الإيجابيات المطلقة بقدر وزير الاتصالات، عبد السلام هيكل. يجسر هيكل في جميع تصريحاته الصحفية الهوّة بين تحسين واقع السوريين التواصلي والتقاني على مستوى الحياة اليومية من جهة، وتطوير البنى التحتية للاتصالات كي تصل إلى درجة انفتاحها على استثمارات ذات عائد وربحية من جهة أخرى. 

عقدة الاتصالات

لا شك أن قطاع الاتصالات يمثّل أحد القطاعات الاقتصادية الأكثر توليدًا للعائدات، خصوصًا في بلد على شاكلة سوريا التي عاشت سني الحرب في شبه انقطاع عن العالم، فضلًا عن توقف الاستثمار والتطوير في البنى التحتية التي تعرضت أصلًا للتخريب والسرقة والاهتلاك. بالتالي، فإن أي استثمار في القطاع قد يعود غالبًا بهوامش ربح لا بأس بها، وذلك مع أخذ ضعف القوة الشرائية للسوريين عمومًا بالاعتبار. 

يدعم هذا التوقع حقيقة أن الاتصالات بأنواعها صارت جزءًا لا يتجزأ من عالم الأعمال والمهن، بالإضافة لبعض خصوصيات الحالة السورية مثل الحاجة لتفعيل تقنيات الدفع الإلكتروني والمعاملات الإلكترونية بسبب أزمات النقد والنقل، وتوسّع قاعدة المحترفين السوريين الذين يعملون عن بعد، وضرورة تأمين قاعدة اتصالات جيدة وموثوقة تدعم تشغيل الاستثمارات المأمولة. 

لكنّ هيكل يذهب أبعد من هذا في تصريحاته الإعلامية، ليقول إن سوريا ستصبح مركز اتصالات متقدم في الإقليم يربط الغرب بالشرق ويستضيف مراكز بيانات لكبرى الشركات العالمية. ولهذا، طرحت الوزارة مشروع "برق نت"، وهو شبكة اتصال ألياف ضوئية إلى المباني (Fibre to the Premises)، لبناء وتشغيل وصيانة شبكة إنترنت عالية السرعة (broadband) لتطوير بنية الاتصالات المحلية. أما هدف الوزير الثاني، فقد خصص له مشروع "وصلة الحرير Silk Link" الذي "يحول سوريا والأردن والسعودية ممرًا للكابلات، بحيث تكون سوريا هي المدخل من أوروبا، والخليج هو المخرج إلى آسيا" بحسب "المجلة"، التي أتى عنوان مقابلتها مع هيكل ليعبر تمامًا عن سياسته: "هل تنتقل سوريا من "ثلاجة العزلة" إلى "عقدة اتصالات" عالمية؟".

يراهن هيكل لتحقيق مشروعه الطموح على أمرين: موقع سوريا الجغرافي وخنقة ممر قناة السويس ــــ البحر الأحمر. لا شك أن موقع سوريا الوسيط يعد مثاليًا في ربطه بين البحر المتوسط ودول الخليج العربي والعمق الآسيوي. لكن قد لا يكون هذا العامل وحده كافيًا، خصوصًا بوجود بدائل تربط أوروبا وأفريقيا وآسيا، من أبرزها ممر قناة السويس والبحر الأحمر. ولكن على هذا البديل بالذات يقوم رهان هيكل.

في 7 أيلول/سبتمبر الماضي، تعرضت كابلات ضوئية عدة في البحر الأحمر قرب جدة، المملكة السعودية، للانقطاع. تسبب انقطاع الكابلات هذا ببطء في حركة البيانات بين أوروبا وآسيا، فيما أعلنت خدمة "مايكروسوفت" السحابية Azure زيادة في زمن الوصول (increased latency) في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة الهندية خصوصًا. كان هذا الحادث الثاني خلال بضعة أشهر (وقع الانقطاع الأول في آذار/مارس 2025). ومع نموّ المخاوف من حوادث مشابهة، عادت خنقة هذا الممر لتتصدر الاهتمام الدولي. 

تزدحم هذه المنطقة بالكابلات الضوئية، ومن أهمها كابل (SEA-ME-WE 4) الذي يربط سنغافورة بفرنسا بطول 18,800 كلم، وكابل (IMEWE) الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وغرب أوروبا، وكابل (AAE-1) الذي يمتد بين فرنسا وهونغ كونغ ويربط نقاطًا محورية عدة في أفريقيا وآسيا وأوروبا، فضلًا عن كابلات أخرى تمتد جميعها على قاع البحر الأحمر وتعبر باتجاه المتوسط بجانب قناة السويس ويمر عبرها بحسب تقديرات بعض المصادر 90% من مجمل حركة البيانات بين أوروبا وآسيا.

اجتماع هذا العدد الكبير من الكابلات الحيوية جعل موقع Wired يسمي المنطقة "المكان الأكثر هشاشة على سطح الإنترنت". فبالإضافة إلى كونها أحد أكثر الممرات المائية نشاطًا في العالم، ما يزيد من مخاطر تضرر الكابلات عن طريق السفن العابرة، فإن التوترات السياسية، خصوصًا تهديدات "الحوثيين" المتكررة عند مضيق باب المندب واحتمالات النشاط الزلزالي، ترفع جميعها من درجة المخاطر في هذا الممر. 

 Image

خريطة كابلات الاتصالات الأرضية والبحرية في الإقليم / Credit: International Telecommunications Union

يدفع هذا الواقع العديد من الدول وكبرى شركات التكنولوجيا والاتصالات إلى البحث عن خيارات أفضل، وهنا يريد هيكل أن يطرح سوريا في سوق البدائل عبر مشروع "سيلك لينك".

تمر البيانات عبر نوعين من كابلات الألياف الضوئية، البحرية (submarine) والأرضية (terrestrial). تشكل الكابلات البحرية العمود الفقري للإنترنت، وتمر عبرها أكثر من 95% من حركة البيانات العالمية ــــ لا المحلية أو الإقليمية فحسب. وبالإضافة إلى ربطها القارات عبر المحيطات، فهي تعد الخيار الأفضل لتفادي إشكالات عبور حدود الدول (ما عدا تلك التي لا تملك منفذًا بحريًا) ولتقصير المسافات عبر تفادي التضاريس البرية. 

تتصل الكابلات الأرضية بالبحرية عبر محطات إنزال شاطئية (cable landing stations)، فتزوّد شبكات الدول المحلية بالإنترنت، وقد تمتد في بعض الحالات إلى الدول المجاورة، وهو ما سيكون عليه "سيلك لينك" بحسب وصف وزارة الاتصالات. إذ يمتد المشروع "على مسافة تقديرية تبلغ 4,500 كيلومتر من الألياف الضوئية تشمل الربط الكامل بين المدن الرئيسية... مع مراكز تحويل في تدمر وفي المنطقتين الجنوبية والشرقية بالإضافة إلى نقطة وصول الكابلات البحرية في طرطوس. ويتضمن المشروع تفعيل نقاط اتصال إقليمية مع الدول المجاورة، العراق والأردن ولبنان وتركيا، بالإضافة إلى توفير مسار بري جديد يربط أوروبا بآسيا".

العالم بالطبع لا ينتظر الحل السوري، بل يطوّر بدوره مسارات أخرى. أحد أكبر هذه المسارات وأكثرها طموحًا هو مشروع "الربط القطبي Polar Connect".  برغم بعض الصعوبات المناخية والاستراتيجية، تطمح هذه المبادرة الإسكندنافية إلى إنشاء خط كابلات ضوئية بحرية عالية الاستطاعة لربط شمال أميركا بشمال أوروبا وشرق آسيا عبر الدائرة القطبية. تستكشف المبادرة، عبر "رؤية 2030" التي تطورها، حلّين: الأول، مسار مباشر يمر عبر جليد القطب الشمالي والثاني، مسار يعبر الممر الواقع بين كندا وغرينلاند.

 Image

خريطة كابلات مشروع "الربط القطبي" / Credit: NORDUnet, Polar Connect

يمثل "طريق الحرير الرقمي Digital Silk Road" خيارًا ثانيًا. يعد هذا المشروع جزءًا من "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، وتشكل الكابلات الضوئية الممتدة عبر الجسر البري الأوراسي أحد أعمدته الأساسية. وعلى العكس من الخيار السابق الذي ما يزال في طور الدراسة والتخطيط، فإن هذا المشروع قائم ويعمل بالفعل، ولو أنه غير منتهٍ بسبب طبيعته المعتمدة على التطور المستمر وعلى إضافة مسارات ومراكز بيانات جديدة كلما سنحت الفرصة. 

ولا يتشكل هذا الخيار من مسار كابلات واحد، بل من مشاريع متكاملة ومتفرعة عدة. تربط كابلات طريق الحرير هذا بين أوروبا وآسيا، من ألمانيا مرورًا بالقوقاز وصولًا إلى الصين ومناطق جنوب شرق آسيا، مع فروع تمتد إلى شبه الجزيرة الهندية. وهناك كابلات أخرى مخططة في أوروبا ستصل اليونان وإيطاليا بتركيا ثم تتابع طريقها لتصل أيضًا هونغ كونغ وشنغهاي. 

مقارنة ممر البحر الأحمر ــــ قناة السويس وطريق الحرير الرقمي مع الممر السوري المفترض من حيث المسافة والكمون (latency) قد تعطي بعض الأفضلية لسوريا. لكنّ الأمر يعتمد على جملة من الافتراضات. فلو افترضنا أن الكابلات ستنطلق مباشرة من الساحل السوري لتعبر البادية باتجاه أقرب نقطة على الحدود العراقية، فإن المسافة ستكون نحو 500 كلم فقط بالمقارنة مع نحو 2,500 كلم لممر السويس ــــ البحر الأحمر، وما بين 4,000 و5,000 كلم للجزء من الجسر البري الأوراسي الذي يربط بين القارتين. في حالة كهذه، سيبدو الممر السوري أفضل بالكمون، حيث تزيد كل 1,000 كيلومتر من زمن الاستجابة ذهابًا وإيابًا (RTT) بمقدار 5 ميلي ثانية. وهو بالتالي أفضل أيضًا بتقصير المسافات وبالتالي بالتكلفة الإجمالية.

ولكن موضوع كابلات الإنترنت ليس بهذه المباشرة والبساطة، خصوصًا في بلد خارج من حرب مدمرة مثل سوريا، ومنطقة معقدة جيوسياسيًا مثل الشرق الأوسط. تعاني سوريا اليوم من تهالك بناها التحتية عمومًا وبنية الاتصالات خصوصًا، وهي بالتالي بحاجة إلى تطوير مكثّف لهذه البنية أولًا قبل إقامة أي وصلات عابرة للحدود. سيستغرق تطويرًا كهذا بضعة أعوام ويكلف ملايين الدولارات في بلدٍ شبه مفلس، فضلًا عن العديد من المسائل الأخرى المتعلقة بوضع العقوبات والعلاقات مع دول الممر والمدة اللازمة لتخطيط المسار ووضع الاتفاقيات الحدودية الخاصة به. كما يلعب غياب الاستقرار والأمن في نقطة معينة الدورَ الأكبر عند تخطيط مراحل المشاريع الاستراتيجية العابرة للقارات والحدود وإقرار تنفيذها. وهذا لا يجعل من سوريا الخيار "الأكثر أمنًا" بحسب الرئيس المؤقت أحمد الشرع، عندما شرح هو الآخر عن المشروع في مقابلته مع الإخبارية السورية، وخصوصًا عند مقارنته مع سائر الخيارات الأكثر أمنًا بالفعل. 

إقليميًا، تمتلك إسرائيل الموقع الاستراتيجي نفسه كما سوريا، وبفضل اتفاقيات السلام والتطبيع، لم تعد ذلك البلد المعزول تمامًا عن محيطها الإقليمي كما كانت في السابق. وبالإضافة لامتلاكها علاقات استراتيجية راسخة بالشركات العالمية، وخبرات وشركات متقدمة في عالم الاتصالات والتكنولوجيا، يتوضع على سواحلها محطتي إنزال رئيستين، في حيفا وتل أبيب، لكابلات MedNautilus Submarine System وLev Submarine System على وجه الخصوص، التي تربط إسرائيل بأوروبا عبر إيطاليا.

 Image

خريطة الكابلات البحرية بين إسرائيل وأوروبا عبر المتوسط / Credit: TeleGeography

لن يكون من الصعب تمديد هذه الكابلات لمسافة قصيرة خارج إسرائيل باتجاه عقدة عمّان. فعلى الطرف المقابل من الحدود، يتصل الأردن بشبكة كابلات أرضية مع العراق والسعودية. وتعمل الأخيرة جاهدة لتتحول إلى عقدة اتصالات إقليمية كجزء من توجهها العام بحسب "رؤية 2030". أما العراق، فيحاول هو الآخر استغلال موقعه والاستقرار السياسي النسبي الذي يشهده كي يطور حضوره الإقليمي أيضًا. 

في أيار/مايو 2024، جرى توقيع اتفاق تعاون بين العراق وتركيا بمشاركة الإمارات العربية المتحدة وقطر، يؤسس لتطوير مشروع "طريق التنمية" بقيمة 17 مليار دولار أميركي. يقوم المشروع على إنشاء ممر تجاري متعدد الوسائط يشمل سككًا حديدية وطرقات سريعة بطول 1,200 كلم تصل الخليج العربي بتركيا. وفي شق الاتصالات، سيشهد المشروع إنشاء ممر مواز لنقل البيانات عن طريق ألياف ضوئية عالية السرعة تنطلق من محطات إنزال في ميناء الفاو الكبير وتنطلق شمالًا باتجاه تركيا ومنها إلى عمق آسيا وأوروبا. سيشكل هذا المشروع عند اكتماله أحد البدائل لممر البحر الأحمر التي تتصف بسرعة استجابة أفضل وتقدم خيارات أوسع لإنشاء تفرعات على طول الطريق البرية بين القارتين.

وبهذا، إذا ما تجاوزنا التصريحات الإعلامية المعدّة لرفع المعنويات وإطالة أمد الصبر الشعبي، فإن سوريا ليست الخيار الوحيد أو الأمثل للربط بين الشرق والغرب. أما في الجانب الاقتصادي، فإن التفاصيل تصبح أقل ويزداد إبهام "سيلك لينك"، إذ من غير الواضح تمامًا كيف "ستستفيد" سوريا مباشرةً من هذا المشروع. 

تُحصّل بعض الدول رسوم حق العبور (Right-of-Way fees) لقاء تمرير الكابلات في أراضيها، وكثيرًا ما يجري التخلي عن تلك الرسوم مقابل تعويضات عينية تتمثل في عقد شراكات مع مزودي الإنترنت المحليين وتطوير الشبكات الوطنية. هناك دولٌ أخرى تفرض رسومًا عالية عندما تحتكر ممرًا استراتيجيًا كما في حال ممر قناة السويس، إذ تفرض "المصرية للاتصالات" رسومًا عالية جدًا، بحسب بعض التقارير، تراها بعض الشركات أقرب للابتزاز، مما يشكّل سببًا أخر للبحث عن مسارات بديلة.

وبحسب مستندات "سيلك لينك"، سيقوم المشروع ضمن إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص وسيبقى خاضعًا للسيادة السورية، تديره وتشغله "السورية للاتصالات" تحت الوصاية التشريعية لوزارة الاتصالات والتكنولوجيا. وبالتالي، فإن المشروع لا يقوم على شركات خارجية تستأجر أراض أو منشآت سوريّة أو تدفع لقاء حق تمرير الكابلات عبرها.

ما وراء الاستعراضات الإعلامية، يبدو مشروع "سيلك لينك" خطة طموحة تقوم معظم أجزائها على افتراضات وتنقصها الكثير من التفاصيل

تشمل فوائد المشروع، بحسب مجمل التصريحات، تحسين خدمات الإنترنت المقدمة للسوريين وتعزيز التنمية الرقمية عمومًا، فضلًا عن خلق فرص العمل عبر جذب الاستثمارات في مجالات التكنولوجيا واستضافة مراكز بيانات (data centres) وخدمات سحابية (cloud services). في بلدٍ يشهد كارثة بيئية وطاقوية، فإن الانعكاسات السلبية لهذا الهدف الأخير تفوق فوائده الاستثمارية، في حال كان قابلًا للتحقق أصلًا.  

يذكر الوزير هيكل في مقابلاته أن المشروع سيفتح الباب أمام استضافة مراكز بيانات خاصة بشركات عملاقة، مثل "غوغل" و"ميتا" و"أمازون". إقليميًا، تتوضع مراكز البيانات في الشرق الأوسط في دول الخليج وإسرائيل. لدى "غوغل" مراكز بيانات في تل أبيب والدوحة والدمام. ويجري في الأخيرة تطوير مركز ذكاء اصطناعي متقدم أيضًا بالشراكة مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي. وتمتلك "خدمات أمازون ويب (AWS)" مراكز بيانات وحوسبة سحابية في إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى مراكز قيد الإنشاء في السعودية. أما "ميتا" فلا تملك أي مراكز بيانات في الشرق الأوسط ولا تخطط لإقامة أي مراكز في الإقليم.

على الصعيد التشغيلي، تحتاج مراكز البيانات الضخمة (hyperscale data centres)، التابعة لشركات التكنولوجيا الكبرى، إلى إمداد مستمر بكميات هائلة من الطاقة قد تصل إلى نحو 850 غيغاوات ساعي سنويًا. يمكن لهذه الكمية من الطاقة أن تنير بلدة صغيرة أو عشرات الآلاف من المنازل والمؤسسات والمستشفيات في أي من مدن سوريا التي تفتقر للكهرباء. 

وبسبب عملها المستمر، تتطلب مراكز البيانات أيضًا تبريدًا مستمرًا. وفي البيئات الحارة، كما هو الحال في سوريا، تزداد الحاجة لتبريد المعالجات والمخدمات مع ارتفاع درجة حرارة المراكز. تتم عمليات التبريد عادةً عن طريق أنظمة تكييف الهواء، مما يرفع من كمية الطاقة اللازمة لتشغيل المركز، أو تبريد بالماء، مما يتطلب استخدام ملايين الليترات سنويًا، أو عبر نظام هجين من الأسلوبين. في بلدٍ يعاني من آثار التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وشحٍ كارثي بالمياه ونقص بالطاقة، يعد مشروعاً كهذا نوعًا من الرفاهية المنطوية على جملة مفارقات سياسية وبيئية وكيانية، ويبدو أشبه بركوب على تريند من كونه استثمارًا نافعًا على المدى الطويل. 

يتبدى إذًا "سيلك لينك" بكونه المشروع الحلم الذي يريد الوزير هيكل عبره ترسيخ إرثه، فيؤدي بهذا دور المثال الذي يعكس واقع معظم المشاريع المليارية التي يُحتفى بها اليوم. فما وراء الاستعراضات الإعلامية، يبدو هذا "المشروع" خطة طموحة تقوم معظم أجزائها على افتراضات وتنقصها الكثير من التفاصيل. ولكن هذه أمور ثانوية أمام شاعريّة أن "ندعو العالم للتواصل من خلالنا"، بحسب الوزير هيكل في مقابلته مع نشرة "سوريا بالأرقام".

على هذا النسق، من الممكن تحليل وتفكيك الغالبية العظمى من المشاريع المطروحة. وعبر التدقيق بالمعلومات والتصريحات ومحاولة الوصول إلى البيانات الحقيقية، يبدو أن قسمًا معتبرًا من تلك المشاريع معدة للاستهلاك الإعلامي ــــ في الداخل والخارج ــــ وهي تأتي لتترجم خططًا ومشاريع رغب بعض الوزراء المختصين بتحقيقها طويلًا، وباتوا يشعرون اليوم بأن لديهم الحرية الكافية كي يضعوها موضع التنفيذ. 

من يقرر؟

"الكل". هذا كان جواب وزير الاقتصاد، نضال الشعار، على سؤال "من يرسم السياسة الاقتصادية في سوريا" في مقابلة أجراها معه برنامج "صالون الجمهورية" على شاشة "سوريا الآن". فبحسب الشعار، العملية تشاركية تمامًا، حيث يقوم هو وباقي الوزراء بدور المرشد والمسير للسياسة الاقتصادية، فهم لا يصدرون الأوامر، بل يستمعون لأصحاب المصالح ويتشاورون معهم، ومن ثم يصدرون الأوامر اللازمة بناء على ما نتج من تلك العملية. 

تبنّي أسلوب الإدارة هذا، بحسب الشعار، مرده الرغبة بالابتعاد عن الأسلوب "الأبوي والوصائي" الذي كان سائدًا من قبل. قد يكون هذا الشكل من الانسحاب والإدارة عن بعد جيد في اقتصاد متطور أو حتى اقتصادٍ نامٍ باستقرار. أما في اقتصاد منهار تظلله تركات ديكتاتورية طويلة ونزاع أهلي وتفكك مجتمعي، فهو غالبًا سيؤدي إلى ما نشهده من غيابٍ لرؤية تنموية مستدامة تضع خطة اقتصادية وطنية مركزية تنطوي على خطوات مدروسة وأهداف ومخرجات واضحة، وليس ردود فعل ومهرجانات وأمنيات ومفرقعات إعلامية. 

تشي كل هذه المظاهر بـ"مستويات عالية من عدم الكفاءة في إدارة العديد من الملفات الاقتصادية والخدمية" بحسب مازن سلهب، كبير استشاريي الاستثمار في BAZ Capital Markets، ولو أن الأخير يرى أن الوزراء الممسكين بالملفات الاقتصادية، فضلًا عن حاكم المصرف المركزي، هم من التكنوقراط، "وهو شيء إيجابي، ولكن العبرة في التنفيذ والتطبيق، والعبرة الأهم تكمن في الهامش السياسي الممنوح لهؤلاء الوزراء، فقد اختبرنا في السابق وزراء تكنوقراط جيدين، ولكن الهوامش كانت ضيقة جدًا لأن الحكومات كانت بطبيعتها آنذاك أمنية". يريد سلهب أن يكون منصفًا، فهو يعترف، في حديثه معي، بالحاجة لمرور ما بين ثلاثة وستة أشهر للحكم على المسار الاقتصادي، ولكنه يرى أن "الأساسات غير جيدة أبدًا". 

ما هي أبرز هذه الأساسات التي يمكن أن تعطينا ملامح المرحلة؟ مركزة القرارات الحيوية والمؤثرة بالفعل في يد الرئيس المؤقت وإخوته في الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية والصندوق السيادي وهيئة الاستثمار السورية، فضلًا عن اللجنة السرية لإعادة هيكلة الاقتصاد التي كشف عنها تحقيق "رويترز" في تموز/يوليو الماضي؛ تضارب في التصريحات حول الهوية الاقتصادية لسوريا تحت عنوان "نظام السوق الحرة" العريض؛ مهرجانات تبرع صاخبة توحي بأن الملايين تتدفق إلى البلد فيما تبقى بمعظمها معلقة على شكل تعهدات؛ وتغطيات إعلامية مكثفة لتوقيع مذكرات تفاهم بمليارات الدولارات لن يتحول منها إلى مشاريع حقيقية سوى نسبة ضئيلة وستقع غالبًا في خانة الاستثمارات العقارية.

ما من اقتصادٍ يُبنى بالبروباغندا، على عكس ما تدّعيه شركات العلاقات العامة، خصوصًا تلك التي باتت تقدم خدماتها بكثافة للسلطة في سوريا

في هذا الشق، يرى مازن سلهب مشكلة حقيقية. فبرأيه، أن تكون الكتلة النقدية الكبيرة التي قد تدخل سوق العقارات "مؤقتة، يعني أنها لا تشغل الاقتصاد ولا تدوّر عجلته. إذ تكمن الحاجة في ضخ الأموال في المشاريع المتوسطة والصغيرة" كي يتحرك الاقتصاد، ولا تبقى الفائدة محصورة بطبقة ضيقة من رجال الأعمال المستفيدين اليوم مما قد يجنونه من الاستثمارات العقارية. ومن الجدير ذكره هنا أن جلّ ما طُرح من استثمارات عقارية ــــ سواء كانت وهمية أو مجرد خطط على الورق أو قابلة للتنفيذ – تَركّز في قطاع المنشآت السياحية والأبراج التجارية ذات الربحية لمالكيها، وليس في قطاع إعادة إعمار المنازل والمرافق العامة.

لكنّ الإعلام الموالي للسلطة لا يدع مجالًا للشك أو للنقاش. فمذكرات التفاهم المبدئية ومشاريع الرفاهية العقارية هذه جميعها "استثمار" سيعود لخير البلاد والمواطنين. ولإقناع الشعب الذي أنهكته أعباء الحرب والفقر، تُقحم عبارة "خلق فرص العمل". من الجيّد بالطبع توفير فرص العمل للسوريين بمختلف مهاراتهم وقدراتهم، ولكن هذا ليس المعيار الاقتصادي الوحيد، إذ إن التركيز عليه يوحي بأن الحل لإعادة الإعمار يكمن في إيدي السوريين وحدهم. تأتي الاستثمارات وتخلق فرص عمل برواتب ــــ نظريًا ــــ جيدة، فيعمل السوريون ويعيدون إعمار منازلهم بأنفسهم اعتمادًا على هذا الدخل. كما أن حركة الاستثمارات قد تنشّط القطاع المصرفي، فيصبح مستعدًا لتقديم قروض إعمار شخصية، فتكتمل الدائرة وتتخلص "الدولة" من هذا العبء. 

في تقريره الأخير، يقدر "البنك الدولي" قيمة إعادة الإعمار في سوريا بمبلغ 216 مليار دولار أميركي، وهو ما يعتبره رقمًا متحفظًا، نظرًا إلى أنّ تقديراته تتراوح بين 140 و345 مليار دولار أميركي. فمن أين ستأتي هذه الأموال؟ من المشاريع الاستثمارية وفرص العمل؟ يؤكد أحمد الشرع في مقابلاته بأن سوريا لن تستدين، ولكنه لا يطرح خطة واضحة ومحكمة تقدّم البديل عن الاستدانة سوى في العودة للكلام بالعموميات حول فرص الاستثمار في سوريا. لكنّ شركات الاستثمار والإنشاءات ليست جمعيات خيرية، بل هي جهات ربحية تمامًا. وما من حجرٍ سيوضع على حجر من دون دفع ثمنه، وسوريا لا تملك ذلك الثمن، برغم التطمينات الإعلامية. 

ظهر خلال هذا العام انفتاح المؤسسات المالية الدولية على التعاون مع سوريا في سلسلة من اللقاءات التي عُقدت بين مسؤولين في "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" ومسؤولين في الحكومة السورية والمصرف المركزي. على عكس المصالح الجيوسياسية المتشابكة التي تدفع أحيانًا نحو المزيد من التوتر، غالبًا ما تُنشد المؤسسات المالية الاستقرار بهدف ضمان المصالح المالية، وسلاسة جريان الأعمال،  مكافحة غسيل الأموال وتجارة المخدرات. وهنا يرى الباحث والخبير الاقتصادي محمد علبي، في منشور له على "فيسبوك" أن هذه المؤسسات الدولية تريد "إقامة إطار تعاون أولي مُلزم يضمن الامتثال للمعايير الدولية، بينما السلطة بتهربها من الإجراءات طيلة الفترة الماضية يُظهر أن لا مصلحة لها بذلك". 

يتضح هذا الأمر مرة أخرى بملاحظة الفجوة بين التضخيم الإعلامي لهذه اللقاءات وأثرها على الأرض. فالواقع، بحسب علبي، يؤكد أن السلطة ما زالت "تضع سقفًا ضيقًا لتعاونها الدولي، متلكئة في تنفيذ الإصلاحات الحقيقية". ترتبط القروض المقدمة من المؤسسات المالية الدولية عادةً بتنفيذ حزم إصلاحات إدارية وتطبيق لمعايير الحوكمة الرشيدة والشفافية المؤسساتية. وهذا ما قد يشكّل عقبة في سوريا، "فقطاع المصارف والنقد لم يشهد إعادة هيكلة جوهرية، والقطاعات الإنتاجية تفتقر للبنية التحتية اللازمة، بينما تظل معظم القطاعات دون خطط واضحة أو استراتيجيات قابلة للقياس" بحسب علبي، الذي يرى أيضًا أن تصريحات المسؤولين السوريين يغلب عليها "الطابع الشعري أو الإعلامي، بدلًا من تقديم معلومات مفيدة وإطلاع السوريين على حقيقة الإجراءات والخطط".

خاتمة

ما من اقتصادٍ يُبنى بالبروباغندا، على عكس ما تدّعيه شركات العلاقات العامة، خصوصًا تلك التي باتت، على ما يبدو، تقدم خدماتها بكثافة للسلطة في سوريا. السوريون لا يأكلون التصريحات الشعبوية، ولا يعيشون على ضوء المهرجانات السياسية، ولا يتطبّبون عبر نشر السعادة والإيجابيات. ليس السوريون صانعي محتوى على "تيك توك" و"يوتيوب" ولا يسكنون صفحات "فيسبوك". 

السوريون اليوم هم أولئك الذين ذُبحوا في منازلهم، وهم الذين ما يزالون يعيشون في الخيام وأراضي النزوح، وهم الذين طردوا من وظائفهم، وهم الذين يصلون النهار بالليل في مختلف الأعمال من أجل تدبير لقمة عيشهم. السوريون يعانون شح المياه وتقنين الكهرباء وانقطاع الدواء. السوريون يعرفون حجم الخراب، ولا يحتاجون إلى وزراء يخرجون عليهم في كل حين بتصريحات تعبّر عن المفاجأة ممّا وصلت إليه البلاد، وتؤكّد على تفاؤلهم وإصرارهم على بذل الجهد. 

انشغلت المعارضة السورية ــــ أو تلك التي انتحلت صفة المعارضة ــــ بالعمل على إسقاط نظام بشار الأسد الديكتاتوري، ولكن لم يلتفت أي من تشكيلاتها لوضع خطة اقتصادية بديلة محكمة. فرّ الأسد وسقط نظامه، فما هي الخطة لمرحلة الما ــــ بعد هذه؟ فلتكن مرحلة "ما بعديّة" بامتياز، إذ يمكن الركون بسهولة لمقارنة البارحة باليوم في سبيل إبراز الإنجازات. لقد وصلت الحالة الاقتصادية والمعيشية حدًا من السوء والانهيار والانعزال عند نهاية نظام الأسد، سيبدو معها أي تغيير أو تحسن طفيف أو قرار طال انتظاره كما لو كان قفزة نوعية. 

بموازاة هذه المقارنات، تستمر محاولات تخدير الرأي العام عبر إغراق المجتمع وإرهاقه بأخبار المشاريع والاستثمارات، وبالمقابلات والحوارات المتلفزة المليئة بالوعود والأحلام، وبحسابات "السوشال ميديا" التي تتابع تضخيم الأخبار وتثبيت المبالغ الوهمية للاستثمارات والتبرعات. فيخلق كل هذا صورة مثالية في عالم ما بعد الحقيقة، ويغرق السوريون بنوع من فرط الواقع (hyperreality)، كما يعرّفه جان بودريار، فتصبح الصورة المزيفة هي الواقع الذي يأكل الناس فيه هامبرغر تعيسًا فيما يحدقون بصورته الإعلانية المثالية والغنية، فيقتنعون بأن هذا تمامًا ما تنهشه أسنانهم. ونحن نعرف، عن تجربة، أن الصور الإعلامية الزائفة لا تصنع اقتصادًا قادرًا على انتشال بلاد منهكة من الدرك الذي تقبع فيه.

بقلم مجهول: صحافة الأسماء المستعارة في سوريا

هذه شهادات لصحفيات وصحفيين من سوريا اضطروا لممارسة مهنتهم خلف أسماء مستعارة. لم يطلق أي منهم رصاصة أو يحم...

يامن صابور
مواطنٌ بــ100 دولار

يؤدّي المنطق الكامن خلف قرارات اعتباطية، مثل قرار فرض تصريف 100 دولار على الحدود، إلى تعميق الشروخ بين ال...

يامن صابور
شمسات سوريا المهدورة

نظرة متفحصة لأسطح المباني السكنية وشرفات المنازل في سوريا ستؤكد كم تنازل السوريون عن أملهم بالاستراتيجيات...

يامن صابور

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة