نعم.. "مَن حرّرَ قرّر"

لا نسقطُ دفعةً واحدةً، يسقطُ قبلنا ضحايا، يُنكر بعضُنا دماءهم، يتجادل بعضُنا حول هوياتهم، وقتلتهم، وأسباب قتلهم، وتوصيفهم. حصل هذا في سوريا قبلًا، ويحصل الآن.

ها نحن إذًا نخوض في سيل الدماء مرّةً أخرى. سيسمّي بعضُنا ما حصلَ في الساحل السوري "محاولة انقلاب" فحسب، ويتفوّق قسمٌ من أصحاب هذه التسمية على نفسه فيتحدّث عن "انتهاكات" تخلّلت التصدّي للمحاولة. سيتوارى بعضُنا خلف تسمية فضفاضة لتكون "أحداثًا"، ويصرّ بعضنا على تسمية الأمور بمسمّياتها، فهي "مجازر"، على أنّ الأخيرين سيختلفون أيضًا حول هويّة الجزّار. 

هل تبدو ردود الفعل هذه مكرّرةً؟ فماذا عن الأفعال والمُجريات؛ أمُكرّرة بدورها؟

ليس الغرض من هذه السطور الحديث عن المجازر، فدماء ضحاياها لم تجفّ بعد، ولا كُرّمت جثامين كثير منهم بدفن لائق أو حتى غير لائق. وليست الغاية المقصودة عقد أي نوع من أنواع المقارنات، برغم أنّني خلال اليومين الأخيرين ردّدت بيني وبين نفسي مرارًا ذلك القول الشهير لهرقليطس: "لا يخطو رجل في النهر نفسه مرتين أبدًا"، ثم أتبعتُه بتعليق ساخر: "غلطان يا معلم، ليكنا عم نغطس"، غير أنّني تنبّهت فجأة إلى أنّ سوريا لا تشبه النهر في شيء. 

لقد حوّل الرئيس الفار البلادَ مستنقعًا بكلّ ما في هذا التشبيه المُستهلك من معنى، لا شيء "يجري" فيها سوى البشر اللاهثين وراء كلّ شيء وبـ"أمر القيادة الحكيمة"، قبل أن يفاجئنا بهروبه الكاريكاتوري في 8 كانون الأول/ديسمبر. وكما يليق بحدث عظيم كهذا ابتهجت الجموع، وغنّت، ورقصت، لكنّ الرقصة راحت شيئًا فشيئًا تتحوّل إلى دبكة، وتسابقت نُخبٌ كثيرة للإمساك برأس الدبكة، قصدًا أو من دون قصد.

ها هم يسارعون إلى التصرّف كأن كل شيء قد انتهى والحياة باتت ورديّة، يبالغ بعضهم في الانتشاء، ويُشير بعضٌ إلى "شمس الحريّة والانتصار وقد أشرقت فوق قاسيون"، بينما يتوافد بعضهم مهنّئًا، وينشغلُ كثرٌ بِحثّنا على دعم الدولة.

يتنبّه بعضُنا إلى هول الفاجعة، يصرخُ أو يصطنع الصراخ: "قتلوكم؟! نحن آسفون.. حقكم علينا.. سامحونا"

في وسع المرء – بل قد ينبغي عليه – أن يقول: هذا ما يجب فعله حتمًا: "دعم الدولة". لكن لحظة يا شباب، ألا يتوّجب قبل ذلك أن نبني الدولة؟! أنتم نُخب، هل هناك حاجةٌ لتذكيركم أن السّلطة – أي سلطة كانت – ليست الدولة؟ ألا يتوجّب تحريك هذا المستنقع قليلًا بعقولكم لا بأذرعكم وعقل السلطة؟ أم هل تكفي الخطابات الواعدة لنُسلّم بأنّ القباطنة موجودون ولا حاجة إلا للتجذيف، فهيا نُجذّف (أرجوك عزيزي المحرّر أن تنتبه جيّدًا إلى النقطة فوق حرف الذال في الكلمة المكتوبة بالبنط العريض). 

على امتداد الشهور الثلاثة الماضية كنت – لسوء الحظ – شاهدًا على سجالات كثيرة، بين مجموعات من المشتغلين في الشأن العام، وعلى وجه الخصوص من نشطاء مجتمع مدني، وصحفيين وصحفيات، وكانت "من يُحرّر يقرّر" سيدة الموقف، لا باللفظ الحرفي دائمًا، لكن في صلب المعنى ذاته. المصيبة الأكبر، أنّ كثرًا ممن رفضوا العبارة لفظًا ومعنى، واحتجّوا عليها، وسخروا منها، حوّلوها في الوقت عينه إلى نهج يلتزمونه!

لا تستعيد أنهارٌ جريانها بسهولة، ولا تتحرّك مياهٌ بـ"مشيئة القيادة وحدها"، وبالطبع لا يُفيد التجذيف في المستنقعات، وحتى إن فعلنا فلن نتحرّك. قد نوهم أنفسنا بأننا نتحرّك، بيدَ أنّنا ندور في الدائرة ذاتها: أخطاء، ومتربصون، ومؤامرات، ونظريّات مؤامرة، و"خُطة بندر" بنسخٍ مُكررة تروّجها "نخب"، بينما نسير نحو فخاخٍ واضحةٍ لكل ذي بصيرة، لا نسقطُ دفعةً واحدةً، يسقطُ قبلنا ضحايا، يُنكر بعضُنا دماءهم، يرقص بعضُنا فوقها، يتجادل بعضُنا حول هوياتهم، وقتلتهم، وأسباب قتلهم، وتوصيفهم. يُفاجأ بعضُنا، يصطنعُ بعضُنا المفاجأة، يتنبّه بعضُنا إلى هول الفاجعة، يصرخُ أو يصطنع الصراخ: "قتلوكم؟! نحن آسفون.. حقكم علينا.. سامحونا".

لا.. لا تفعلوا أرجوكم، لا تُسامحونا، لا تُسامحوا أحدًا منّا، نحن لا نستحق، فقد كنّا نعرف ما سيفعلون.

حلب.. بين قبرين

ما قصّة مقام الخصيبي الذي أشعل إحراقُه فتيل التوتر في سوريا؟ وما هي رمزيته السابقة على الحرب السورية ومن...

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا عو...

صهيب عنجريني
ما لم تقله "الروايات الكاملة" حول سقوط نظام الرئيس الفار

ثمة معلومات تؤشر إلى أن استسلام النظام السابق في حلب لم يكن قرارًا اتُّخذ خلال ساعات، ولا علاقة له بموازي...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة