
"إذا غصن المحبة مال فيكي
تدفع دم قلبي مال فيكي
وحاج تعذبيني مالي فيكي
سوى نظرة يتيم على البواب ويلاه
يا ويلي يا ويلي يا ويلي"
لم تكن كلمات تلك الأغنية الشعبية لتثير بي ما أثارته من حزن وبكاء هستيري قبل 6 آذار/مارس 2025. يظهر لي مقطع "ريلز" على "فيسبوك" يصوّر قريتي وترافقه هذه الأغنية، فأنتبه إلى ذلك الحبل السري الذي يربطني بتلك الجبال وأهلها. تظهر قمة مرتفعة تشرف على القرية لطالما كنت وأصدقائي نشرب القهوة وندخّن فوقها، وأحدثهم عن حلمي في امتلاك بيت صغير فوقها، أنا التي لا أملك ذرة تراب في هذه القرية.
10-9-8-7-6 آذار/مارس هل أنت علوي أو سني؟
وجوابك سيكون قاتلك أو جواز عبورك للحياة. ملثمون يختصرون حياتك وإنجازاتك ومواقفك السياسية بهوية ضيقة، ويقتلونك لانتمائك الطائفي. هل هذا ما ثُرنا من أجله؟
تخبرني صديقتي، إحدى الناجيات من مجازر بانياس: "إن أسوأ ما مررتُ به في حياتي كان أن أُضطر لإحضار بطاقتي الشخصية لأثبت للقتلة انتمائي للطائفة السنية، في حين أن جارنا مقتولًا على العتبة لانتمائه للطائفة العلوية".
اعتدنا في الساحل السوري أن نطلق اسم "أهل البلد" على السّنّة في اللاذقية وجبلة وبانياس. وبرغم أن الاسم بحدّ ذاته يبدو غير طائفي، إلا أنه إقصائي ويحمل اعترافًا ضمنيًا لدى العلويين بأنهم طارئون على المدينة وأهلها، حتى لو كان كثير منهم ولد وعاش في المدن منذ عقود. حتى لو كان لهم شوارعهم وذكرياتهم.
والأمر لا يتعلق بعبارة "أهل البلد" واستخدامها اللغوي فحسب، بل بتوزع الطوائف الديمغرافي في مدن مثل اللاذقية وجبلة وبانياس، وحتى دمشق. إذ ثمة أحياء برمّتها تسكنها طائفة واحدة، وأحياء قليلة ذات تنوع طائفي. وثمة سؤال يطرح نفسه: ما الذي يجعل هؤلاء يعيشون ضمن بيئات مغلقة في ظل نظام ادعى حزبه الحاكم لمدة ستين عامًا أنه علماني؟
يفرّق عزمي بشارة في كتابه "الطائفية، الطائفة، الطوائف المتخيلة" بين الطائفة بوصفها جماعة دينية أو مذهبية لها عقيدة معينة وبين الطائفية، وهي استخدام الانتماء الطائفي في المجال السياسي وتوظيفه كأداة للصراع أو الهيمنة أو الولاء. بهذا المعنى، فإن النظام السوري كان أول من استخدم الطائفية في صراعه مع المنتفضين عام 2011، فعمد إلى بث الخوف بين الطوائف، وأخذ يرعى لصق لافتات على وسائل النقل العامة واللوحات الطرقية مكتوب عليها "طائفتي سوريا"، برغم خلوّ معظم الاحتجاجات في بدايتها من المظاهر الطائفية، ثمّ ما لبث أن انفجر سيل الدماء من جميع الطوائف في اللحظة التي أعلن فيها النظام حربه على شعبه.
هكذا استخدم النظام فقراء الجبال حطبًا لمحرقته، ولم يستطع كثر من شباب الجبال السفر أو الهرب. بل إن النظام أقام حواجز في القرى البعيدة وأخذ يلتقط الفارين من الخدمة الإلزامية ويزجهم في معاركه. وحين هرب مع ثلّته من المستفيدين، لم يلق بالًا إلى هؤلاء الذين دفع أبناؤهم دمهم، بل تركهم خائفين من المجهول.
قال لصديقتي إن أباه قُتل في مجزرة البيضا، وأضاف: "كنت حامل بارودة وجايي أقتل العلويين بحي القصور، ومنعوني"
حين صرّح رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع: "انتصار لا ثأر فيه"، تنفس الناس الصعداء. لكن الانتصار الذي لا ثأر فيه لم يدم طويلًا. بدأت الانتهاكات الفردية، وفي كل مرة لم يُحاسب القتلة، كان مؤشر الخوف يتصاعد عند أهل الساحل، حتى وقع ما سُمي بـ "عملية الفلول" وأُعلن النفير العام في المساجد لنصرة الجيش، وجاءت فصائل مسلحة إلى الساحل وارتكبت مجازر طائفية.
كان صعبًا عليّ، أنا ابنة الجبال، التي كتبتُ مقالات ضد نظام الأسد، أن أستوعب ما يحدث من مجازر في الساحل السوري، ومن استهداف لمعارضين وحرق لمنازلهم، لمجرّد أنهم علويون. كنت أقرأ عن سقوط ضحايا من معارفي وأصدقائي وجيراني على صفحات التواصل الاجتماعي، ممّن لم يكونوا يومًا مؤيدين لنظام الأسد، وأنتظر بقلب واجف أخبارًا سيئة عن أهلي وقريتي.
هل اختلفت مشاعري؟ هل ثمة جرح أعمق من جرح؟ وهل ثمة مجازر أقل وطأة من أخرى؟ لا أعتقد ذلك، لكن هذا السكين انغرز في قلبي، شأنه شأن جميع السكاكين التي غُرزت في أجساد ضحايا البيضا والحولة والبلاطة وعدرا العمالية.
تسألني ابنة أخي: والآن ماذا سنفعل؟ هل سيشفع لنا أننا لم نكن مؤيدين للأسد يومًا؟ أم سُنقتل شأننا شأن أبرياء آخرين؟
أما قريبتي الأخرى، فتكتب لي: لقد فرحتِ بالتحرير وها نحن نقضي بإبادة طائفية. أُغلق الهاتف وأعتذر لهم، للحياة، لسوريا، وأدخل في نوبة بكاء هستيري.
قضى اثنان من أصدقائي في مجازر بانياس، رجل وزوجته. أرسلا ولديهما إلى الخارج كي لا يخدما في الجيش. وعُرفت عائلتهما بمناهضة الأسد الأب والابن، ونالا ما نالاه من إقصاء وتهميش.
كان مازن وزوجته يقومان برعاية أم مازن، السيدة العجوز الضريرة، حين دخل القاتل وأطلق النار عليهما، وترك العجوز تصرخ من دون أن يردّ عليها أحد حتى المساء.
تخبرني صديقتي، أخت مازن، أنهم بعد مقتل أخيها، أرادوا إعادة ترتيب المنزل. فكانت بحاجة إلى نجّار كي يفكّ الأثاث. ولأنها اعتادت أن تستعين بنجار من "أهل البلد"، فقد اتصلت بأبي حسن.
جاء أبو حسن وابنه، وما إن دخل البيت، حتى اغرورقت عيناه بالدموع وترحّم على مازن وزوجته، وأعلن براءته من أفعال العناصر المسلحة التي أقدمت على القتل. ولم تمض سوى دقائق حتى فوجئَت صديقتي بدخول شابين لا يتجاوز عمر كل منهما السبعة عشر عامًا.
كان الشرر يتطاير من عينيّ أحدهما، وسأل أبا حسن: بدك شي أبو حسن، كل شي تمام؟
هل سنغادر هذه الجبال؟ هل تعرفين ما هو أصعب شيء نمر فيه الآن؟ فكرة أنه لا وطن يجمعنا!
دعتهما صديقتي لشرب القهوة، فجلسا. قدّمت لهما السجائر وأخذت تتبادل معهما الحديث، مع أنها كانت خائفة من الشاب الذي يبدو عليه الغضب. سألت صديقتي الشاب الصغير عن عائلته، ففوجئ بأن عمه زميل لها في المدرسة المهنية حيث تدرّس، ثم التفتت إلى الشاب الغاضب وسألته عن أبيه، فأجابها بأنه استشهد في مجزرة البيضا عام 2013 التي ارتبكها مسلحون موالون للنظام السابق، وكان آنذاك طفلًا.
سألته: كيف قُتل؟ فأجابها: كان يزور أخته فقُتل معها ومع أطفالها. ثم أكمل: "كنت حامل بارودة وجايي أقتل العلويين بحي القصور ومنعوني".
قالت له: أبوك بريء، وكذلك أخي وزوجته. وها أنت يتيم وأولاد أخي أيضًا. كان يمكن أن تقتلني. وها نحن نشرب القهوة وندخّن سويةً، ما ذنبكم جميعًا؟
ذكّرتني صديقتي بأن عائلته كانت تتلقى المساعدة من الجمعية التي كنا نعمل بها، وكانت تحمل المساعدات بنفسها إلى أمه بعد مجزرة البيضا. لكن الفتى كان صغيرًا. عرفت صديقتي أنه لم يكمل تعليمه، ونصحته بإتمام دراسته: "احمل دفتر وقلم أحسن ما تحمل بارودة"، قالت له.
حين انتهى الحوار بينهما، انفرجت أسارير الشاب، وأخذ يساعدها في نقل الأثاث، وانصرف بعد ذلك برفقة الشاب الآخر.
قد تبدو الحكاية ضربًا من الخيال. يجلس الضحايا مع بعضهم، ويبكون، ويحاولون أن يضمدوا جراحهم، ويكملون حياتهم. لكن السؤال الذي يُطرح اليوم: هل ينتهي الأمر بشرب فنجان قهوة وتبويس شوارب؟ كيف يمكن إعادة الثقة بالسلطة الجديدة؟ ولم لا تطلق هذه السلطة مسار عدالة انتقالية؟ لو أنها وضعت خططًا لمحاسبة مرتكبي الجرائم منذ عهد الأسد، ولمعرفة مصير المغيبين قسرًا، هل كنّا سنشهد أحداثًا مروّعة كما حصل وما زال يحصل في الساحل وحمص وحماه؟ هل سيُعاقب المسؤولون عن مجازر الساحل بالفعل، أم أن الأمر لن يتعدى تشكيل لجنة تحقيق شكلية لإرضاء الخارج، كما كان يفعل الأسد؟
أقرأ بعض منشورات الأصدقاء المحسوبين على اليسار يشكرون فيها "أهل البلد" في بانياس الذين حموا جيرانهم وآووهم. وفي معرض حديثهم يقولون لقد أثبتوا أن "السنّة أمة". وأقرأ منشورات أخرى تطالب بالتقسيم والحماية الدولية بعد مجازر الساحل، ومنشورات أخرى تهاجم أهل السويداء وتخوّنهم وأخرى تهاجم الأكراد. يضيق الوطن وتضيق فكرة الانتماء إلى جغرافيا موحدة. وتنهار فكرة الدولة الوطنية يومًا إثر يوم، وتعود الانتماءات الضيقة للطوائف لتظهر نتيجة هذا الانهيار.
تتّصل بي إحدى قريباتي صباحًا وتُخبرني بأنها تشرب القهوة وهي تنظر إلى الجبال، وتبكي وتقول لي في معرض حديثها: هل سنغادر هذه الجبال؟ هل تعرفين ما هو أصعب شيء نمر فيه الآن؟ فكرة أنه لا وطن يجمعنا!
أغلق الهاتف، وأشعر بالاختناق. كيف تتفتت الجغرافيا ويتفتّت معها التاريخ والعلاقات، في غياب الدولة والقوانين العادلة. يا لها من تَركة. تركة الديكتاتوريات المرعبة.
لكنّ أملًا يصر على التسلل إلى قلبي. أقول لنفسي: لا، لا يُعقل. ليست هذه النهاية!