أسديات سياميّة قاتلة

نشأت السلطة الحالية في سوريا بقليل من العمل العسكري وكثير من التوافق الدولي الذي يبدو أنّه لم يتوافق إلّا على عدد محدود من النقلات في لعبة الشطرنج السورية بالغة التعقيد. لكنها ترفض النقلة الواحدة الحاسمة: الانتقال التشاركي المتدرّج والآمن إلى دولة قانون ومواطنة متساوية.

ما هو مشترك في العمق بين جميع ما جرى من عنف وإراقة للدماء ومجازر في مختلف أنحاء سوريا بعد هروب الأسد ـــ في حمص والساحل وريف دمشق والسويداء وكنيسة الدويلعة في دمشق، ضد العلويين والدروز والمسيحيين ـــ ليس أنّ هذا العنف موجّه ضد الأقليات، على أهمية ذلك الهائلة ووجوده الأكيد، إذ إنّه مختلط مع تقريب عددٍ من جلاوزة النظام الساقط من مختلف الأقليات. وهو بذلك شبيه نوعًا ما، وعلى نحوٍ أسوأ، بممارسات ذلك النظام الذي لم يوجّه عنفه ودمويته إلى الأكثرية لأنّها أكثرية، بل لمناهضيه، في حين استقبل في مناطق سيطرته مئات آلاف اللاجئين من الأكثرية من دون أيّ مشاكل تُذكَر.

ما هو مشترك في العمق بين جميع ما جرى من عنف وإراقة للدماء ومجازر في مختلف أنحاء سوريا بعد هروب الأسد ليس أنّ النظام محتاج، في ممارسة شوكته وغلبته، إلى عصبية طائفية ومذهبية تشدّ إليه، بالولاء، قاعدة اجتماعية من طائفة معينة، على أهمية ذلك العظيمة، إذ أبدى، على الصعيد الاقتصادي على الأقل، استعدادًا للتسوية مع مافيوزات النظام السابق الثرية أو ابتزازهم ماليًا ثم الصفح عنهم بصرف النظر عن طوائفهم، شأنه في ذلك شأن النظام البائد الذي كان طابعه الطائفي يخبو أمام السلب والنهب الاقتصاديين، حيث تغدو الطوائف أحبابًا وأخوة.

ما هو مشترك في العمق بين جميع ما جرى من عنف وإراقة للدماء ومجازر في مختلف أنحاء سوريا بعد هروب الأسد هو ما يبديه النظام الجديد، ببنيته الراهنة، من عجز جوهري عن التوقّف عن القتل، شأنه في ذلك شأن النظام البائد في مراحله الأخيرة، خلال نحو عقد ونصف من الثورة: كأنّ شيخوخة ذلك النظام وخاتمته هي شباب النظام الجديد ومبتدؤه، أو كأنّ النظام الجديد وُلد شائخًا بلا شباب ولا بداية، أو كأنّ بدايته هي النهاية، أو كأنّه لم يكن له من معنى أو دور سوى نقل سوريا من محور إلى آخر، ثم العجز المطلق عن حلّ أيّ مشكلة من مشكلات سوريا، من أصغرها إلى أكبرها، من الكهرباء والماء إلى الأمن وتحرير الأرض، كأنّ قضايا السوريين التي خرجوا من أجلها في عام 2011 كانت مقتصرة على تغيير المحور فحسب، لا كرامة ولا حرية ولا ديمقراطية ولا عدل. كأننا أمام أسديتين سياميتين أو توأم حقيقي أو صورة مرآتية لا تبديل فيها سوى انقلاب الأيمن أيسر والأيسر أيمن.

الطبيعة الاجتماعية السياسية الفكرية للفئة التي حلّت محلّ نظام الأسد وأفقها أو برنامجها السياسي ليسا طبيعة قوة ثورية ولا أفقها

ينبع عجز التوقّف عن القتل من أمرين، يتولّد ثانيهما من أولهما. وأوّلهما هو أنّ الطبيعة الاجتماعية السياسية الفكرية للفئة التي حلّت محلّ النظام تجعلها ـــ بخلاف ما قد يخطر في الأذهان للوهلة الأولى، وبرغم شعبية قائدها عند كثيرين ـــ فئةً أقلّويّة سياسيًا، يصعب أن تحظى بشرعية حقّة، وتخاف أن تجرّب الحصول على مثل هذه الشرعية من خلال عملية انتقالية كالتي دأبت القوى الوطنية الديمقراطية السورية على المطالبة بها ووضع خرائطها منذ أول نظام الاستبداد الأسدي، وبلغت ذروتها الأدقّ في بيان جنيف (2012) الذي اشتمل عليه لاحقًا القرار الأممي 2254 (2015)، حيث التأكيد على أنّ الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل سوريا، من خلال عملية سياسية بقيادة سورية تيسّرها الأمم المتحدة وتقيم حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية؛ وعملية لصياغة دستور جديد؛ وانتخابات حرة ونزيهة تُجرى عملًا بالدستور الجديد. لكنَّ الشقيق السيامي، مثل شقيقه النظام الأسدي البائد، يخشى أيّ عملية سياسية تعددية تشتمل على مساهمة المناضلين التاريخيين الوطنيين الديمقراطيين والقوانين والشرعات الدولية والخبرات العلمية القانونية والحقوقية الحديثة المستنيرة التي يمكن أن تسفر عن دستور ديمقراطي ودولة قانون ومواطنة متساوية، ويفضّل على ذلك رأي حشوده وعامّته وجمهوره تحت مسمّى "الشعب"، كما يفضّل "شرعيات ثورية" فصائلية، ومؤتمرات حوار ملفّقة مسبّقة النتائج، و"شرعيات دستورية" وحكومات وبرلمانات قائمة على هذه المؤتمرات الملفقة، وممارسات سياسية عنيفة غالبًا، قائمة على "الفزعات" المستمدة من فكرة "الأبد" الأسديّة الرافضة والمناقضة لأيّ سيرورة تشاركية ديمقراطية تداولية.

أمّا ثاني العوامل التي ينبع منها عجز التوقّف عن القتل فهو أنّ الطبيعة الاجتماعية السياسية الفكرية للفئة التي حلّت محلّ النظام وأفقها أو برنامجها السياسي ليسا طبيعة قوة ثورية ولا أفقها. فإذا  ما كانت طبيعة ثورة، أيّ ثورة ـــ اجتماعية كانت أم سياسية ـــ تتحدد بالنظام الذي تثور عليه (أي بالنقطة التي تنطلق منها) وبالطبقات أو الفئات التي تقود جمهور هذه الثورة وبرنامجها السياسي (أي بالنقطة التي تريد أن تأخذنا إليها)، فإنَّ ثورةً مضادة ـــ من حيث فئاتها القائدة وحلفائها وتوجّهها السياسي الذي يعتبر "الديمقراطية شركًا"، ولا ينطوي على أيّ انتقال من الاستبداد والفساد الأسديين إلى نقيضهما ـــ هي التي سادت مع حلفائها الداخليين (ما دُعي "يسار النصرة") والخارجيين منذ أواخر 2011 على الأقلّ. 

قد يؤلم هذا الكلام كثيرًا من الثوّار الحقيقيين الأحرار الذين خرجوا على النظام الأسدي طلبًا للحرية والكرامة والعدل، وكانوا ينتظرون من سقوطه أن يُفضي بصورة طبيعية إلى كلّ ذلك. لكنّ وحشيّة النظام الأسدي، وحلفاء الثورة السوء، وفساد فئاتها القائدة وتهافتها سياسيًا وماليًا، كان لها أن تضع على رأس الثورة (اقرأ الثورة المضادة) قوى سياسية وعسكرية لا شيء يصلها بالتحول الديمقراطي أو دولة القانون أو أي مفهوم حديث للعدل، وصولًا إلى استيلاء هذه الفئة على سدّة السلطة بقليل من العمل العسكري وكثير من التوافق الدولي الذي يبدو أنّه لم يتوافق إلّا على عدد محدود من النقلات في لعبة الشطرنج السورية بالغة التعقيد التي تحتاج إلى التوافق على عدد من النقلات أكبر بكثير، ما دامت ترفض، بل تناهض، النقلة الواحدة الحاسمة: الانتقال التشاركي المتدرّج والآمن إلى دولة قانون ومواطنة متساوية.

النظام الجديد هو نظام أقليّة سياسية تخشى كلّ عملية تشاركية، وكلّ جيش جامع، وكلّ دستور ديمقراطي، وكلّ قضاء مستقل

ليست سلطة الأمر الواقع، إذًا، بالسلطة النقيضة لسلطة الأسد. بل على العكس، هي مثلها وأكثر: ترفض أي حلّ سياسي، وتعالج مشكلاتها بالحلول الأمنية والعسكرية الطائفية فاشية الطابع. وتستخدم مثله أدوات التضليل والكذب السياسي والإعلامي وخطابًا ينظر إلى السوريين بوصفهم طوائف وأعراق وعشائر في جوهرهم، ما يجعلها طرفًا مفتِّتًا غير جامع على الإطلاق. وهي مثله تستثمر دعم الخارج لفرض سيطرتها على الداخل، غير مكترثة حتى بقاعدتها الاجتماعية أو مقاتليها. وتجد، مثله، أنّ يدها مطلقة في أمور السياسة الخارجية ومحاورها وتحالفاتها واتفاقاتها، حتى مع أعداء تاريخيين محتلّين مثل إسرائيل، برغم كونها "انتقالية" كما تقول هي نفسها. وهي مثله في التعامل مع المجتمع المدني وما فيه من نقابات وأحزاب وجامعات ولجان تحقيق مفبركة، فلا تراها إلّا سلطوية خاضعة، بما يتناقض مع تعريف المجتمع المدني ذاته. وهذا كلّه هو ما كان قد وضع أفول النظام السابق، مع أول طلقة ضد شعبه، على طاولة التوافق الدولي الذي ما إن تحقق بعد "طوفان الأقصى" حتى تبخّر بكلّ خزي وعار. 

كما لم يكن النظام الأسدي نظام الطائفة العلوية، وإن كان له طابع طائفي علوي معيّن، كذلك ليس النظام الجديد نظام الطائفة السنّية، وإن تكن ممارساته طائفية الطابع. بل لعلّ أكثر من سيدفع الثمن الفادح لهذا النظام هم "السنّة"، كما دفع "العلويون" ثمنًا فادحًا لتنكّر النظام الأسدي بإهاب علوي معيّن. النظام الجديد، مرّة أخرى، هو نظام أقليّة سياسية تخشى كلّ عملية تشاركية، وكلّ جيش جامع، وكلّ دستور ديمقراطي، وكلّ قضاء مستقل، وتعجز عن الإيفاء بالصفة الانتقالية التي وصفتْ بها نفسها، ما يجعلها نظامًا أبديًا مثل نظام الأبد الأسدي، وهذا ذاته هو ما سيجعلها، ويا للمفارقة، نظامًا انتقاليًا ومؤقتًا وعابرًا كما جعله.

من الواضح، في ظلّ ممارسات هذا النظام، سواء كان مخططًا لها مع حلفاء، أم ثمرة منطقية لبنية القوة السائدة ولثورةٍ مضادة، أنّ ما جرى ويجري في سوريا يشي بتهيئة المسرح لقيام دولة طائفية على غرار العراق ولبنان، يتقاسم فيها ممثلو الطوائف السلطات والبرلمان والخراب، ما يهيئ المسرح لاحقًا إلى التقسيم وتغيير الخرائط. مع مثل هذه الأنظمة، وفي مثل هذا السياق الإقليمي والعالمي، لا قرارة للهاوية.

يبقى ثمة عامل جوهري غالبًا ما يتناساه المحللون السوريون والعرب الذين يكتفون بظاهر الأشياء، لا سيما المطبّلين من كتبة الأنظمة المأجورين أو المتطوعين، ألا وهو عامل "الانتقال الديمقراطي" الذي إن لم يكن حاضرًا حضورًا إيجابيًا فاعًلا، هو وقواه الحاملة، فإنّه حاضر، بغيابه وغياب قواه، حضورًا سلبيًا كارثيًا، لأنّ المطلوب، بعد نظام استبدادي فاسد، لا يمكن أن يكون سوى الانتقال إلى الديمقراطية، وإلا فالإيغال في الدم والتقسيم والتنازع العنيف العقيم. ويمكن القول بثقة أنّه ما لم ينتقل هذا العامل من حضوره السلبي الوخيم الناجم عن غيابه إلى حضوره الإيجابي الصحّي والسليم، بوحدة المجتمع المدني السوري (أحزابًا وقوى ونقابات وتجمعات ونوادي وحتى منظمات غير حكومية NGOs...) ونشاطه الوطني الديمقراطي البعيد عن السلاح والطائفية وطلب التدخّل الخارجي (محاذير الوطنيين والديمقراطيين واليساريين السوريين التي استخفّ بها يساريو النصرة وقوميوها وإسلاميوها)، فإنّ الهاوية بلا قعر بالفعل.

مسألة حياة أو موت: في الربط بين الوطنية والديمقراطية في منطقتنا

لا يتردد الماركسي في تحميل الاحتلال وحلفائه مسؤولية العدوان والإبادة، كما لا يتردد في الدعوة إلى الوقف ال...

ثائر ديب
قاتلُ زولينغن وديّانوه

استنكرت جريمة زولينغن في ألمانيا وأدانتها بيانات كثيرة أصدرتها حكومات ومنظمات وأفراد. غير أنّ بيانًا أصدر...

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة