مسألة حياة أو موت: في الربط بين الوطنية والديمقراطية في منطقتنا

لا يتردد الماركسي في تحميل الاحتلال وحلفائه مسؤولية العدوان والإبادة، كما لا يتردد في الدعوة إلى الوقف الفوري للحرب، وهو ما فعله اليسار في العالم كلّه، ما عدا بعض الصنف الذي لدينا.

 ما حدود التحرير التي يمكن أن تبلغها حركة لا تؤمن بالحرية ولا بالديمقراطية مثل "حماس" في غزّة؟ هل يمكن لمثل هذه الحركات أن تقودنا إلى غير الهزيمة؟ ما حدود التحرر والاستقلال التي يمكن أن يبلغها ليبراليون ديدنهم الطلب على الحريات من دون أن يربطوا أي ربط بين الاستعمار والديمقراطية، يتعدّى التغنّي بمنجزات الاستعمار على هذا الصعيد؟ مع من أنت في الصراع بين إيران و"إسرائيل"؟ من سبّب الكارثة في غزة وفلسطين وجنوب لبنان، الاحتلال التوسعي الاستيطاني أم مقاوموه الإسلاميون؟ هذه محاولة للإجابة أبعد من حدود الفكر اليومي والتحاليل السريعة التي باتت تصنع مواقفنا وتسوقها:

I

تتباين معاني "الوطنية/القومية"* أشدّ التباين باختلاف السياق المكاني والزماني والقوى الحاملة. كان معنى "الوطنية" في ألمانيا النازية حقّ ألمانيا في إعادة تقاسم المستعمرات التي سبقتها إليها إنكلترا وفرنسا خاصةً، وحيازة مجال حيوي يلائم مطامح البرجوازية الألمانية التي تأخّر نهوضها وتوسّعها. ومعنى الوطنية في فرنسا اليوم هو التعصّب لفرنسا، وحقّها في مستعمراتها، ونفورها من المهاجرين إليها، إلى درجة سبق أن دفعت جان جينيه إلى القول إنَّ "الوطنية مأوى الأوغاد". وتغيّر معنى الوطنية في سوريا البعثية ومصر الناصرية، بين سوريا ما قبل الأسد وسوريا الأسدية، من جهة، وبين مصر عبد الناصر ومصر السادات، من جهة أخرى، من مشروع لتحرير الأرض والتنمية الاقتصادية الاجتماعية المستقلة إلى مشروع استبدادي فاسد غارق في التبعية والتصالح مع الأعداء، برغم بعض الإصرار على تحرير الأرض. وكان معنى "الوطنية" في تجارب التحرر الوطني، لا سيما تلك التي قادها شيوعيون، تحرير الأرض وتنمية عادلة وقطع جذري لروابط التبعية مع المراكز الاستعمارية مع انفتاح إنساني جوهري.

 II

في منطقتنا، لا سيما في بلدان قادت فيها البرجوازية الصغيرة حركة التحرر الوطني مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر وسواها، منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين وحتى أواسط ثمانينياته، وصف بعض اليسار الشيوعي الأنظمة القائمة آنذاك بأنّها "أنظمة ديمقراطية ثورية" تسير في طريق "التطور اللارأسمالي". وحين تبيّن لكلّ ذي عين تهافت هذا "التنظير"، وأنَّ هذه الأنظمة تسير في طريق تطور رأسمالي متوحش من أردأ الأنواع وتفترس بالفساد وسوء التخطيط والإدارة ما سبق أن بنته هي ذاتها، انتقل التركيز إلى السياسة الخارجية، إذ اعتُبرت سياسات هذه الأنظمة الخارجية سياسات وطنية تعادي الإمبريالية وإسرائيل، وإن كانت سياساتها الداخلية قائمة على الفساد والقمع المستشريين.

بعكس هذه النظرة في الظاهر، وبتطابق تام معها في الجوهر، شاعت بدءًا من تسعينيات القرن العشرين وإلى الآن نظرةٌ  ــــ كان معظم دهاقنتها من اليساريين السابقين الذين تلبرلوا ــــ تركّز على سياسات الأنظمة الداخلية (فسادها وظلمها وقمعها) ولا تقيم كبير وزن لأيّ عداء تبديه هذه الأنظمة حيال الإمبريالية وإسرائيل، بل يمكن أن يصل بها الأمر حدّ الطلب إلى هاتين الأخيرتين التدخّل لإسقاط تلك الأنظمة.

من الواضح في الحالتين الأخيرتين ذلك الفصل الذي يُقام بين المسألة الوطنية (التي تُختَزَل إلى العداء للإمبريالية) والمسألة الاقتصادية الاجتماعية (التنمية والعدل الاجتماعي) والمسألة الديمقراطية (وقف القمع وصون الحريات والحقوق والمساواة أمام القانون). وهو فصلٌ كان غائبًا حتى عن "نظرية" بائسة مثل "التطور اللارأسمالي" بما انطوت عليه من ربطٍ بين معاداة الإمبريالية وبناء الاشتراكية. كما أنّه فصلٌ يتطابق في جوهره مع الفصل الذي تقيمه الأنظمة ذاتها بين هذه المسائل، إذ تُعلي، بالمقلوب، من شأن خصامها المحدود مع الإمبريالية ومعاداتها المتقلصة لإسرائيل فوق التنمية والعدل والديمقراطية وحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية.

III

كان واقعٌ موضوعي وظروفٌ تاريخية حاسمة وكبرى (مثل الاستعمار والتخلف والتجزئة وقيام إسرائيل والنظام العالمي غير المتكافئ والسوق الدولية ومؤسساتهما ...) قد جعلا من المسألة الوطنية والقومية في بلداننا مسألةً مطروحةً على نحو يختلف عنه في بلدان أخرى لم يتغلغل الاستعمار في صلب بناها ولم يحتل أرضها واستطاعت أن تقيم اقتصاداتها المستقلة وأن تدور في علاقاتها الدولية حول محورها. وهذه الظروف التاريخية ذاتها هي التي جعلت الوطنية في بلداننا جُهْدًا يرمي إلى إقامة بنية اقتصادية اجتماعية مستقلة ومتمحورة حول ذاتها وحول مصالح شعبها بعيدًا عن الارتهان أو التبعيّة، ما يجعل محاربة عدوّ محتلّ على أهميتها العظيمة وضرورتها التي لا بدّ منها، مجرد جزء أساس من هذا الكلّ.

الخلاص من الاستبداد الفاسد إمّا أن يكون خلاصًا وطنيًا ديمقراطيًا أو لا يكون

من الواضح أنّ مثل هذا التعريف للوطنية لا يفصل بين ما يُحَقَّق من تنمية وتقدّم اجتماعي وحريات تضمن مشاركة أوسع قطاعات الشعب وبين مقاومة الاحتلال والمشاريع الخارجية. وبذلك تكون الوطنية وجه العملة الآخر للديمقراطية والحريات والحفاظ على الثروة الوطنية وتنميتها. وليست قطباً يواجه كلّ ذلك، أو يمكن فصله عنه في ترتيب زائف لهذه الأولويات. وكما ينبغي أن نشكّ في "ديمقراطية" و"عدل" من يستقوون بالإمبريالية الأميركية، وتلتبس عليهم حروب مقاومة إسرائيل، كذلك ينبغي أن نشكّ في "وطنيّة" من يمارسون النهب والقمع.

IV

بخلاف التصورات "الوطنية" البائتة والفارغة التي تكتفي بهجاء "الغرب" ومؤامراته، لا بدّ من توجيه أصبع الاتهام إلى الأنظمة المحلية وسياساتها المستبدة والفاسدة. وبخلاف التصورات "العولمية" الليبرالية الفارغة التي تكتفي بهجاء الأنظمة المحلية الأقلّ تبعيةً وتخلّفًا أو التي يوجد في ماضي بلدانها محاولات للتنمية المستقلة مهما يكن قصورها وفشلها، لا بد من اتّهام بنية عالمية جاهزةً لأن تصطاد في شبكتها الواسعة والقديرة كلّ محاولة للخروج الحقيقي عن منطقها, وتشكّل إطارًا لـ"ثورة مضادة" عالمية تحاول أن تأخذ كلّ محاولة للتغيير الحقّ في بلد من بلدان ما يُدعى بـ"الجنوب العامي" باتجاهات مرعبة لا تورث سوى الندم والخذلان.

بهذا المعنى، لم يعد من الممكن فهم بلد بمفرده خارج إطار دولي وإقليمي بات له تاريخه وبنيته التي يمتزج فيها الداخل والخارج على نحوٍ يدفع مقاومة هذه البنية بالضرورة إلى أن تكون تلك المقاومة التي تأخذ في الحسبان كلًا من الداخل والخارج: تناهضُ الأنظمةَ من دون أن تقع في شِباك من لا يسمحون بتغيير هذه الأنظمة إلا بأسوأ منها. وبهذا المعنى يغدو التغيير الديمقراطي وجهًا آخر من أوجه المسألة الوطنية كما يغدو وجهًا آخر من أوجه مسألة العدل الاجتماعي، ويغدو كلّ فصل بين هذه الأوجه كاشفًا لمآل فاسد لا يلبث أن يتبدّى ويظهر.

V

ليست معاني "الديمقراطية" بالأقلّ تباينًا باختلاف السياق المكاني والزماني والقوى الحاملة. فثمة ديمقراطية لا تتعدى حق الاقتراع، وديمقراطية تتجاوز ذلك صوب الاقتصاد والمجتمع، كما أنّه ثمة ديمقراطية توافقية للطوائف وممثليها لا للمواطنين... إلخ، وكلّ واحدة من هذه الديمقراطيات هي ديمقراطية في أعين فئة بعينها من دون سواها من الفئات. غير أنّ "الديمقراطية" القائمة في العالم الآن، في جميع الأحوال وبخلاف الرائج، ليست، حتى بمعناها الضيّق المقتصر على حقّ الاقتراع، بنت البرجوازية التي لم تتوقّف يومًا عن محاولات تحجيمها وتقييدها، بل بنت الطبقات الشعبية والشعوب المستعمَرة والنساء والملوَّنين والإثنيات الخاضعة. وبخلاف الرائج أيضًا، فإنَّ هذه الديمقراطية ليست قديمة قِدَم البرجوازية بل نتاج القرن العشرين. وإذا ما كان النظام الرأسمالي يقتضي الليبرالية (دعه يعمل دعه يمرّ)، فإنّه لا يقتضي الديمقراطية التي انتُزعت منه انتزاعًا. وما يعنيه هذا هو أنّ ثمة ضرورة نظرية وتاريخية ونضالية لفكّ الاقتران بين الليبرالية والديمقراطية، هذا الاقتران الذي هو واحدة من أكبر السرديات الأيديولوجية، بالمعنى الرديء لكلمة أيديولوجيا الذي يعني الوهم والخداع والتعمية.

VI

كان اليسار العربي قد أنمى مفهومًا للثورة في المنطقة يأخذ في الحسبان تخلف بناها وطبقاتها البرجوازية، وأطلق على هذه الثورة اسم "الثورة الوطنية الديمقراطية" التي يستكمل فيها ما عجزت البرجوازية العربية عن إنجازه (من تحرير ووحدة ومواطنة متساوية وتنمية مستقلة) كمقدمة للثورة الاشتراكية. ويمكن القول إنَّ مشروعًا يربط بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية والمسألة الاجتماعية ويُدعى مشروع "التغيير الوطني الديمقراطي"، مهما تكن نواقصه وهناته، هو المساهمة النظرية والعملية الكبرى التي قدّمها الوطنيون الديمقراطيون اليساريون السوريون وأَنْمُوهَا على مدى عقود تمتد من أواخر ستينيات القرن الماضي إلى الآن.

يجمع مشروع التغيير الوطني الديمقراطي السوري بين إدراكٍ لضرورة التغيير الجذري الذي ينقل البلد من الاستبداد إلى الحريات السياسية، كشرط لا بدّ منه لإطلاق مسيرة انتقال حصينة ومستدامة من التخلّف الاقتصادي الاجتماعي إلى التنمية والتقدّم والعدل، وبين معرفةٍ ببنية البلد ونظامه وموقعه الجيوسياسي الإقليمي والدوليّ تسبغ على ذلك التغيير الجذري صفات الوعي بالمخاطر المحتملة، وإدراك أهمية المسألة الوطنية والقومية وعدم انفكاكها عن المسألتين الديمقراطية والاجتماعية، وأهمية الاختيار الدقيق والمحسوب للتحالفات المحلية والإقليمية والدولية. هكذا جرى التنبيه إلى أنَّ الخلاص من الاستبداد الفاسد إمّا أن يكون خلاصًا وطنيًا ديمقراطيًا أو لا يكون؛ وأنّ ميزان القوى وطبيعة النظام يقتضيان أن يكون هذا الخلاص سيرورة متصاعدة تتلاقى فيها المقاومة المدنية السلمية والعمل السياسي، والعفوية والوعي، وحماس الشباب وخبرة الشيوخ، في جولات متلاحقة تحتمل الفشل والتراجع، لا بسبب قوة الطرف الآخر فحسب، بل أيضًا لدرء المخاطر الأسوأ التي رأينا بالفعل كيف دُفِعَت سوريا على سكّتها بكلّ توحّش وفقدان للبصيرة. 

VII

حين بدأ الزلزال التونسي وراح يتنقّل من بلد عربيّ إلى آخر وصولًا إلى سوريا، كانت القوى الوطنية الديمقراطية قد أُنْهِكَت بعقودٍ من القمع الشديد والاعتقال المديد والانقسامات العميقة السياسية والفكرية كان آخرها "تَلَبْرُلُ" أقسام واسعة منها أبأس التلبرل على صورة تبرير الاحتلال الأجنبي وسيلةً للتخلّص من الاستبداد. لكنّ ذلك لم يَحُل دون تعبير القوى الوطنية الديمقراطية، منظمات وأفرادًا، عن حضورها العملي والسياسي الذي تميّز، علاوةً على وعيه السياسي والنظري، بمزايا بالغة الأهمية: إدراكٌ عقلاني لتوازن القوى المحلي والإقليمي والدولي وما يفرضه من ضرورة أن يكون التغيير سيرورةً لا ضربة لازب، حيث انقسم المجتمع السوري مع تفجّر الانتفاضة أثلاثًا ثلاثة (معارضة وموالاة وحياد) بما يرشّح لحرب أهلية دائمة، شأنه شأن الانقسام الإقليمي والدولي حول سورية؛ عدم الانبهار ببعض الأساطير التي راجت وتقدّست مع انطلاق الانتفاضات العربية مثل "العفوية" و"الشباب" و"ضرر التنظيم والسياسة"، إلخ؛ الانتباه إلى أنّ أقسامًا من المعارضة ليست معنيّة بالحرية والكرامة بقدر عنايتها بالسلطة وبتغيير تحالفات سورية الإقليمية والدولية؛ وعيٌ شديد لأهمية المقاومة المدنية السلمية المتصاعدة بغية إطلاق عملية سياسية جوهرها "التغيير الوطني الديمقراطي"؛ حرصٌ دائم على وحدة المعارضة على خطّ وطني وديمقراطي، إلخ.

لعلّ الموقف الأسلم، من موقع وطنيين ديمقراطيين لا يقودون معارك هذه القضايا، أن يختاروا الوقوف النقدي في صفّ من يخوضون المعركة الدائرة الآن هنا

عمل القمع الوحشي المعمَّم، والحقد المترعرع في السجون، والغرارة، وحبّ الظهور، وأوهام الانتصار السريع التي اقترنت ببداية الانتفاضات العربية، وعقلية اليساري السابق الخفيف حديث التلبرل، وعقلية القومي السابق المتأسلم، وربما المال، على دفع أفرادٍ وفئات باطّراد من الخطّ الوطني الديمقراطي إلى خطٍّ اقتصرت سياساته على استدعاء التدخلات الخارجية ورفض كلّ حوار أو تفاوض إلى أن أُمِرَ بذلك، خطّ يُقاد فيه أولئك الوطنيون الديمقراطيون السابقون ويُنْطَق باسمهم من طرف أردأ أنواع الإسلام السياسي وإرهابيين وجلاوزة نظام سابقين ودعاة طائفية وعملاء قوى عربية وأجنبية ومجرمين سياسيين من مختلف الأصناف.

كما في مرّةٍ سابقة في ثمانينيات القرن الماضي، سارع الإسلام السياسي وحلفاؤه في 2011 إلى دفع الجمهور أبعد من الأشكال الممكنة وتدرّجها، وأبعد من مطالب التغيير الديمقراطي، باتجاه إسقاط النظام بالسلاح، وباتجاه الطائفية وطلب التدخّل الخارجي، ولم يَعْدَم، كما من قبل، موتورين يساريين وسواهم يساهمون معه في قَبْر براعم الأمل عبر سَوق الاندفاعة الجماهيرية إلى المقتلة، حيث عملوا سنداناً لمطرقة الاستبداد الذي صاغ سياساتهم كردّات فعل على أفعاله، تشبهها وإن عاكستها في الاتجاه.

هكذا تقف سردية "التغيير الوطني الديمقراطي" التي بناها الوطنيون الديمقراطيون اليساريون السوريون بنضالات وعذابات ومعارف عقود طويلة إزاء سرديتين أخريين وعلى النقيض منهما: سردية الاستبداد (وجوهرها أنَّ الأمر مجرد مؤامرة) وسردية الثورة المضادة التي مثّلها ما دُعي "المجلس الوطني" وخليفته "الائتلاف" وما أحاط بهما من أصولية تكفيرية وأتباع ذلك كلّه وكتبته (وجوهرها لنتآمر مع ضواري الأرض لإسقاط النظام والحلول محلّه). وحين سيُكتَب تاريخ ما جرى، سوف يصعب، بل سيستحيل، على هذه السرديات كبت سردية النضال الوطني الديمقراطي التي ستبقى تبذر الاضطراب والصدق في الحكايات الكاذبة و/أو الواهمة الأخرى.

VIII

في سوريا، بل ربما في ما دُعي "العالم الثالث" برمّته، المسألة الديمقراطية هي المسألة الوطنية، والمسألة الوطنية هي المسألة الديمقراطية، سواء بسواء وفي آن معًا. كلّ فصل بين الاثنين مصيره الفشل الزؤام. يكفي "وطنيين" ينهكون الوطن استبدادًا ونهبًا إلى أن يسقط كجيفة متفسخة، ويكفي مصفقين لهؤلاء. يكفي "ديمقراطيين" يبيعون الوطن للمستعمِر ويتكشّفون عن كونهم مجرد طغاة صغار، ويكفي مخدوعين بهؤلاء. "وطنية" مع قمع واستبداد، أو "ديمقراطية" مع بيع للأوطان والقضايا الوطنية، هذه ثنائية فاسدة لا بدّ من وضع حدّ لها. فكما أنّ الوطنية والديمقراطية الحقيقيتين وجهان لعملة بانية واحدة، فإنّ أصحاب طرفي تلك الثنائية الفاسدة وجهان لعملة مدمرة واحدة: كلاهما يضيّعان الأوطان ولا يأتيان بالحرية. وقبل أن يكون الوطني ديمقراطيًا والديمقراطي وطنيًا، سنظل إزاء الفصام الكارثي السابق.

من الواضح أنّ للفصل بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية أساس طبقي أو اجتماعي اقتصادي بيّن. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما موقف الوطنيين الديمقراطيين حين تقود من قوى وفئات مغايرة طبقيًا وسياسيًا وفكريًا معارك وطنية أو ديمقراطية تعاني جوهريًا من هذا الفصل القاتل، كما هو الحال في معركة وطنية يقف على رأسها نظام استبدادي أو في معركة ديمقراطية تقف على رأسها قوى ليبرالية كوسموبوليتية لا تقيم للمسائل الوطنية وزنًا، لا سيما أنَّ هذا الفصل أو الانفصام هو سبب جوهري في الهزائم المتكررة لهذه القضايا جميعًا؟ 

لعلّ الموقف الأسلم والأصحّ، من موقع وطنيين ديمقراطيين لا يقودون معارك هذه القضايا، ألّا يرتّبوها في أولويات، وأن يختاروا الوقوف النقدي في صفّ من يخوضون المعركة الدائرة الآن هنا، فلا يضعون تحرير الوطن عقبة في وجه من يخوضون معركة الحريات والديمقراطية، ولا يضعون المطالبة بالحريات في وجه من يخوضون معركة تحرير الأرض.

IX

المسألة الوطنية سيرورة تراكمية متدرجة باتجاه الاستقلال الوطني الناجز لا سياسيًا فحسب، بل اقتصاديًا ايضًا، بما يجعل تحرير الأرض على أهميته القصوى والأولية جزءًا واحدًا فحسب من هذه السيرورة، وبما يترك مجالًا للمساهمة في المعركة الوطنية لقوى وفئات ليست جذرية تمامًا في موقفها من المسألة الوطنية، وقد تتراجع حتى عن هذه المواقف في اثناء تطورها (تراجع الأنظمة العربية القومية في مصر وسوريا عن مسيرتها الوطنية التنموية وتحطيمها ما بنته في مراحلها الأولى وزيادة تبعيتها بل وتصالحها أو ميلها إلى التصالح حتى مع المحتل، وتراجع السلطة الفلسطينية عن المشروع التحرري لمنظمة التحرير الفلسطينية).

مع عوامل أخرى عديدة، أدت هزيمة حركة التحرر الوطني العربية التي قادتها البرجوازية الصغيرة القومية قبل أن تتحول إلى برجوازية كبيرة فاسدة ومافيوزية إلى عودة هذا الكفاح الوطني التحرري إلى خندق سابق هو خندق الجهاد التحرري على طريقة الشيخ القسّام، بمعنى الكفاح لتحرير الأرض من دون ربط هذا الكفاح بمشروع وطني للتنمية والديمقراطية والعدالة، الأمر الذي يجعله ناقصًا ومحل نقد، وعرضة للهزيمة. وهو ما نرى الآن اوجهًا حاسمة منه.

ليس للوطني الديمقراطي الذي لا يقود حركة التحرر الوطني بوجهيها البرجوازي القومي والجهادي التحرري سوى أن يطمح إلى قيادتها ويعمل على ذلك، وأن يضيء نقديًا على سياقاتها وأوجه قصور قيادتها، من دون أن يتردد في دعمها على الأقلّ، إن لم يشارك في معاركها. وفي لحظات معقدة ومختلّة الموازين مثل لحظة "طوفان الاقصى"، لا يتردد الماركسي في تحميل الاحتلال وحلفائه مسؤولية العدوان والإبادة، كما لا يتردد في الدعوة إلى الوقف الفوري للحرب، وهو ما فعله اليسار في العالم كلّه، ما عدا بعض الصنف الذي لدينا.

في المعركة الديمقراطية أيضًا، يدعم الوطني الديمقراطي كل حركة أو اتجاه يدعو إلى الديمقراطية بصرف النظر عن أيديولوجيته، سواء كانت ليبرالية أو قومية أو حتى دينية، ولا يسعه، بالطبع، أن يدعم في هذه المعركة من يعلن صراحة ان الديمقراطية شرك، إنّما من دون أن يتلكأ قط في مواصلة الوقوف في وجه الدكتاتورية والاستبداد. 


* بخلاف اللغة العربية الحديثة والتجربة القومية العربية الحديثة التي تجزّأت فيها الأمّة إلى أوطان عديدة، وصارت القومية تشير إلى ضرورة توحيد هذه الأوطان أو الأقطار، تشير كلمة nation في التجربة الغربية عموماً إلى "الأمّة" و"الوطن" اللذين يترادفان ويتطابقان في أكثر التجارب القومية. 

قاتلُ زولينغن وديّانوه

استنكرت جريمة زولينغن في ألمانيا وأدانتها بيانات كثيرة أصدرتها حكومات ومنظمات وأفراد. غير أنّ بيانًا أصدر...

ثائر ديب
ميلان كونديرا: عن عنصريٍّ مبتذَل وفرائِسِهِ الفَرِحَة

غادر كونديرا الستالينية بعد إنهاء القوات السوفييتية في عام 1968 "ربيع براغ"، تلك الحركة من داخل الشيوعية...

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة