سوريا والقرار 2254: حين يتوقّف مصير بلد على قرار

إن كان هنالك ما يجمع الغالبية الساحقة من السوريين الآن وغدًا، فلا شكّ أنّه الفرح  الغامر لسقوط النظام الأسدي الذي سام السوريين، على مدى 54 عامًا، صنوف الاستبداد والقمع الوحشيين. وبلغ من الفساد التاريخي حدّ تركيع البلد والدولة عاريين هزيلين. وبلغ من الحطّة في لحظة هروبه، حدّ الإنهاء التام ــــ المرتّب والمتواطئ، ربما ــــ لطرفٍ كامل هو نظامه الذي كان يُفترض به أن يجلس قبالة المعارضة في عملية التفاوض التي يرسمها القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، المتخذ بالإجماع في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، والمتعلّق بوقف إطلاق النار والتوصّل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا. ذلك أنّه فرّ فرارًا مخزيًا من دون أن يسلّم السلطة لأيّ فرد أو جهة من نظامه، كنائبه أو رئيس وزرائه (الذي بقي على رأس عمله في الحقيقة) أو مجلس عسكري أو ضابط من جيشه، وحلّ الجيش عمليًا، الأمر الذي أكملته قرارات سلطة الأمر الواقع الجديدة والضربات الإسرائيلية الماحقة المتواصلة لكامل بنية هذا الجيش التحتية.

تعود أهمية القرار الدولي 2254 إلى كونه رسم مسارًا سياسيًا مدروسًا كان يمكن أن تتوافق عليه في حينه (أواخر 2015) غالبية قوى الثورة المدنية والمعارضة المنهكة والمتعارضة أشدّ التعارض بعد أن فشل قسمها المؤيّد للسلاح والتدخّل الخارجي في حسم الأمور عسكريًا وقَبِل التفاوض مع النظام. لكنّ هذا الأخير رفض برعونة، لإدراكه أنّ بنيته لا تحتمل أدنى تنازل أو ثقب صغير، وربما بدفعٍ من حلفائه نابع من الإدراك ذاته. كما تعود أهمية هذا القرار إلى رعايته الدولية الإجماعية في إطار الأمم المتحدة ومجلس أمنها. كما تعود، أخيرًا، إلى أنّه كان يمكن أن توافق عليه المعارضة السورية الوطنية الديمقراطية التي لم تجد في السلاح والتدخّل الخارجي سوى مزيد من الخراب وفضّلت أن تخوض نضالًا سلميًا متصاعدًا للخلاص من النظام بأقلّ قدر من التدخّل الخارجي (وما أراه حتى في هذه اللحظة هو أنّ هذه المعارضة كانت الأصوب، لكنّ لعلعة السلاح والتدخّل الخارجي وتهافت كثير من أفرادها وبناها أمام مغريات المتدخّلين، جعلها الأضعف بما لا يُقاس مع أنّها مثّلت في لحظة أهم ما أنتجته النخبة السياسية المعارضة والثورية السورية، ألا وهو مفهوم "التغيير الوطني الديمقراطي" الذي سنكتشف أننا اليوم أحوج إليه من قبل).

يؤكّد القرار 2254 التزامه القوي بسيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية، وعلى أنّه ما من حلّ دائم للأزمة الراهنة في سورية إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة. ويضع القرار في اعتباره الهدف المتمثّل في جمع أوسع نطاق ممكن من أطياف المعارضة، باختيار السوريين، الذين سيقررون من يمثّلهم في المفاوضات ويحددون مواقفهم التفاوضية، وذلك حتى يتسنّى للعملية السياسية أن تنطلق. وهو يشدد على أنَّ الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل سورية. وتيسّر الأمم المتحدة، بحسب القرار، العملية السياسية التي يقودها السوريون لتقيم، في غضون ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعمليةً لصياغة دستور جديد، وانتخابات حرّة ونزيهة تجري، عملاً بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة. ويستثني القرار مجموعات تُعتبر "إرهابية"، مثل "داعش" و"النصرة" وأشباهها.

تظهر اليوم مئات البيانات والمبادرات والتعبيرات الفردية التي جوهرها توسّل سلطة الأمر الواقع القبول بالقرار 2254

بسبب بنية النظام أولًا وأساسًا، وبسبب معارضةٍ سادت طوال السنوات الثلاثة عشر الماضية –كان النظام قد خلقها، بالقمع والوحشية، على شاكلته- فلم تمانع في استخدام أيّ وسيلة لإسقاطه، سواء كانت السلاح أو الطائفية أو التدخّل الخارجي، بات الشعب السوري ومعارضته الوطنية الديمقراطية أمام ثورتين مضادتين بدل الواحدة (ثورتان مضادتان ينبغي ألا تخفيهما فرحة الشعب السوري المحقّة والواجبة بسقوط إحداهما)، ليأتي سقوط النظام في 8/12/2024 محمولًا على زلزال إقليمي أطلقه الردّ الإسرائيلي والأميركي على "طوفان الأقصى"، في عملية عسكرية من الواضح أنّها مخططة ومدروسة ومهيّأة ومموّلة جيدًا نفذّها تحالف بقيادة "هيئة تحرير الشام" بدعم تركي وسواه.

مع قيام سلطة الأمر الواقع (De facto power) بسقوط النظام، وتصاعد خطاب أنصارها المتحمسين بأنّ القرار 2254 صار وراء الأحداث، استيقظت معارضات كثيرة على خطر ضياع ما قاتلت من أجله على اختلافه، من المعارضة الوطنية الديمقراطية إلى "الائتلاف" إلى "يسار" كان قد مزّق وحدة الصفّ الوطني الديمقراطي واليساري ــــ بالسذاجة أو بسواها، في أهم لحظة من تاريخ سوريا ــــ إلى الرماديين الذين لم يسبق أن شاركوا في أي نشاط يُذكر طوال الـ14 عامًا الماضية، على أمل أن يحسم النظام الأمر وتتواصل حياتهم كما كانت. استيقظ هؤلاء جميعًا وتلفتوا حولهم فلم يجدوا في متناولهم شيئًا يُذكَر سوى القرار 2254، فانهمروا عليه يمتشقونه انطلاقًا من الخوف وظنًّا منهم أنّ سلطة الواقع القائم لا تهتمّ لأمره، على نحو شبيه بتعامل الموالين مع السلم الأهلي انطلاقًا من الخوف، وليس من كون الأمران جزءًا من فهمٍ وممارسةٍ سياسيين متّسقين في تصور أو رؤية أو مشروع. هكذا راحت تظهر مئات البيانات والمبادرات والتعبيرات الفردية التي جوهرها توسّل سلطة الأمر الواقع القبول بالقرار 2254 وعدم اعتباره لاغيًا بزوال طرف منه هو النظام وضعف سنديه الروسي والإيراني.

علاوةً على التعبيرات السابقة المتكاثرة كالفطر، على نحو يذكّر بما جرى في عام 2011 وانتهى إلى ما يشبه الصفر لأنّه كان يفتقر الرؤيا والوسائل والاتساق والتنسيق بل والأخلاق في بعض الحالات، هبّت القوى والأحزاب السياسية المختلفة إلى التأكيد على القرار 2254 بصرف النظر عما جرى لأطرافه الأصلية، فدعت منصة موسكو إلى تعديله بما لا يمس روحه، ودّعت هيئة التنسيق إلى شيء شبيه، وذكره حزب العمل الشيوعي في بيان له، وتمسّك به الائتلاف كذلك بعد أن أحسّ بأنّ حسابه قد لا يُحسب في الكعكة السورية. وانقسم ما دعوته يومًا "يسار النصرة" بين عتاةٍ يعتبرون القرار لاغيًا ومتخوّفين أفاقوا أخيرًا على الخطر، يعبّر عنهم البيان المهمّ الموسوم "بيان إلى الرأي العام: زمن سوري جديد" الذي وقعته أعداد لافتة، ويعتبر أنّ وزارة الجلالي (وزارة النظام الآفل) هي وزارة تسيير الأمور، ويدعو إلى "تغيير وطني ديمقراطي".

الكثير من الإجراءات التي تتخذها سلطة الشرع تتنافى مع روحية القرار 2254 وتحاول أن تكرّس واقعًا قائمًا يمكن أن يدفنه أو يفرغه من مضمونه

غير أنّ هذه الهبّة المهمة كلّها، بعجائزها الخائرين وشبابها بالغ الغرارة، لا تخفي ما أشار إليه صديق مصري، هو شريف يونس، على حسابه في فيسبوك قائلًا: "قلبي مع الجماعات الديمقراطية في سوريا على اختلافها. أخشى أنّها لا تملك فعليًا مصيرها، مثلها مثل زميلتها المصرية وقت ثورة يناير. الأفراد والشِلل الديمقراطية العديدة ليست من الأساس في موقع مسؤولية، ولا تشكل قوى سياسية، لأنها ليس لها جمهور منظم عليها أن تأخذه بعين الاعتبار، ولا هي نفسها منظمة، لأنّها أفراد وجماعات متعددة. هي في الواقع أقرب لجماعات الضغط، أو جماعات المصالح، لكنها أقل تنظيمًا. لذلك وسائل الضغط المتاحة لها هي الميديا أو السوشيال ميديا أو في الحد الأقصى الدعوة إلى احتجاجات ترفع مطالب، مقصورة على قسم من الجمهور المديني، ولا صلة لها بالريف. لذلك تظل مجرد جماعات أو تيار ضاغط. وكلامها عن أنها تملك الوصفة الأصلح لإدارة البلاد (لو ركزنا على ما يجمع بين وصفاتها العديدة) لا يعني في الواقع الكثير على صعيد توازنات القوى، التي هي أساس بناء أي نظام سياسي. ولما كانت تصوراتها ذهنية غير مجسدة تنظيميًا، أو تنظيماتها محدودة الانتشار، فإنّ قوتها الوحيدة هي التأثير في الرأي العام، بالتحديد في الدعاية ضد تصورات أخرى: يسقط كذا وكذا... لا يسعى أحد إلى التحالف معها، لأنه لا توجد لها قيادة تُلزم الجميع، وبالتالي الاتفاق مع أي جماعة منها، أو حتى مع شخصياتها البارزة جميعًا، لا يُلزِم أحدا في هذا التيار، وبالتالي غير مُنتِج".

هذا ما يجب أن يُقال بكلّ صراحة وقسوة، لا سيما أنّ الأمر أسوأ من ذلك بكثير، لا على صعيد البنية الذهنية التي لا تزال تكتب بيانات أقرب الى الزجل ولا تُحسن أن تقدم مطالب متسقة ومرتبة منطقيًا، إلى الوسائل التي تكاد أن تكون صفرًا، إلى غياب القدرة على التنسيق وتوحيد الجهود المتناثرة ذلك التناثر الشالّ بدل أن يكون مثمرًا.

من جهة أخرى، دعا مجلس الأمن إلى "عملية سياسية شاملة بقيادة سورية تلبي تطلعات السوريين وتمكنهم من تحديد مستقبلهم بشكل ديمقراطي تستند للمبادئ الأساسية للقرار 2254"، وجاء اجتماع العقبة للجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا ليدعم "عملية انتقالية سلمية سياسية سورية ــــ سورية جامعة، تتمثل فيها كل القوى السياسية والاجتماعية السورية، وبما فيها المرأة والشباب والمجتمع المدني بعدالة، وترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، ووفق مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254 وأهدافه وآلياته، بما في ذلك تشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة بتوافق سوري، والبدء بتنفيذ الخطوات التي حددها القرار للانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد، يلبي طموحات الشعب السوري بكل مكوناته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تشرف عليها الأمم المتحدة، استنادًا إلى دستور جديد يقره السوريون، وضمن تواقيت محددة وفق الآليات التي اعتمدها القرار". كما صدرت تصريحات مماثلة أميركية وأوروبية وسواها، ليخلص المشهد اليوم في ما يتعلّق بالقرار إلى تركّز الرافضين له في سلطة الأمر الواقع ومناصريها (الذين دعوا إلى مسيرات مليونية ضد القرار) والدول الأشد دعمًا لها. وقد طلب أحمد الشرع من بيدرسون تعديل 2254. ومن الواضح أنّ كثيرًا من الإجراءات التي تتخذها سلطته تتنافى تمامًا مع روحية القرار وتحاول أن تكرّس خلال الأشهر الثلاثة القادمة واقعًا قائمًا يمكن أن يدفنه أو يفرغه من مضمونه، على الأقلّ، لوضع ممثلين للشعب السوري على طاولته أشبه ما يكونون بممثلي الشعب السوري أيام النظام، مستغلة في ذلك أداءها الحسن نسبيًا في ما يتعلق بالسلم الأهلي، وتعاملها مع المجتمع السوري على أنّه طوائف ومذاهب، ووعود الاقتصاد الحرّ التي ستدفق الدولارات على الشعب السوري.

لا يريد الخير لسوريا والسوريين من يرفض القرار 2254 أو روحه على الأقلّ، واعيًا أو غير واعٍ

تتعامل سلطة الأمر الواقع مع إسقاط النظام على أنّه العملية التي بدأت بطرده من حلب وانتهت خلال أيام بسقوطه في دمشق. وهذه رؤية تنسى أو تتناسى أنَّ إسقاط النظام سيرورة بدأها الشعب السوري بتعبيراته المختلفة منذ 2011، بل منذ 1970؛ وأنّ وحشية النظام أساسًا ورفضه أيّ حلّ سياسي هي التي دفعت من لديها من أبناء الشعب السوري لأن يكونوا قاعدتها بعد أن كانوا قاعدة سواها من القوى؛ وأنّها لولا الدعم الخارجي التركي والقطري على الأقلّ، والسياق الإقليمي المرتبط بطوفان الأقصى وتداعياته على داعميّ النظام روسيا وإيران، وتهافت رأس النظام وما يشبه خيانته لجيشه، لما تمّ الأمر على هذا النحو بالغ السرعة إن كان له أن يتمّ. كما تنسى هذه الرؤية أنّ إسقاط النظام، مع أنّه ليس الثورة بعد، هو حدث يتعدّى في حجمه وعمقه ودلالته أي فصيل سياسي أو عسكري، ليمثّل إنجازًا للشعب السوري كلّه وقواه الوطنية الديمقراطية على طريق مشروعها لـ"التغيير الوطني الديمقراطي" بعيدًا عن إحلال استبداد محل استبداد.

هكذا تتركّز معركة الشعب السوري، بل ومصيره، في القرار 2254 الذي هو روح أغلب ما يطالب به السوريون ولو لم يذكروا القرار بالاسم. وهو ما يرجوه حتى أولئك الذين يرون أن النضال اليوم مقتصر على منح سلطة الأمر الواقع فرصةً والاستعداد لتقديم العون الإداري لها. غير أنّ القرار، شأنه شأن أي قرار، ليس قوة تفرض نفسها بنفسها، ويمكن إخضاعه لقراءات وتطبيقات لا تخطر ببال، كما يمكن تحييده. فهذا القرار الذي قُصد منه الشعب السوري وتطلعاته المشروعة، لا هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة المهزومة أو المنتصرة، يجب أن يبقى كذلك من خلال الإبقاء على التمثيل الشعبي الشامل، الأمر الذي لا يمكن ضمانه ولا ضمان معناه الوطني الديمقراطي من دون الحضور الحاسم كمًّا ونوعًا وأداءً لكتلة تاريخية من الشعب السوري بوعي وطني عصري وقوة وطنية ديمقراطية متماسكة مسؤولة إزاء هذه الكتلة وجمهورها، وعلى ذلك سوف يتوقف مستقبل سوريا ومصيرها. 

لا يريد الخير لسوريا والسوريين من يرفض القرار 2254 أو روحه على الأقلّ، واعيًا أو غير واعٍ. ولا يريد الخير لسوريا والسوريين كل من يضع العوائق، بوعي أم من دونه، في طريق الانطلاق الفوري لبناء أوسع كتلة شعبية تاريخية داعمة للقرار وروحه وللمشروع الوطني الديمقراطي الذي يمثّل أحسن تمثيل مصالح السوريين جميعًا بمن فيهم قواعد الفصائل التي أقامت سلطة الأمر الواقع ومستقبلهم.

جورج قرم، حُصَفَاء آخرون، و"الثورة" السورية

تناقش هذه المقالة موقف جورج قرم من "الثورة السورية"، مقارنة إياه بموقفَي إعجاز أحمد وسمير أمين، وتقدّم اس...

ثائر ديب
لاجئون وتّجار: منفى الشعب VS "منفى" الشطّار

ليس المنفى امتيازًا بل استحالة، ليس مصلحةً بل ألم. ومن غير الأخلاقي استخدام كلمة كهذه نُقِشَت فيها قرون م...

ثائر ديب
عن "المنفى": أسماؤه ولذائذه وآلامه

من إدوارد سعيد وأمين معلوف، مرورًا براناجيت غُهَا وهومي بابا وسلمان رشدي، وصولًا إلى إعجاز أحمد، تُقدّم ه...

ثائر ديب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة