من قناة تلغرام إلى فصيل شبحي: القصة الغامضة لـ"سرايا أنصار السنة"

الأسئلة حول "سرايا أنصار السنة" تتجاوز التحقق من وجودها الفعلي إلى تحليل ما تمثله: هل هي تنظيم ناشئ بالفعل، يتلمّس طريقه في بيئة مضطربة؟ أم أنها ظل رقمي صُمّم لتأدية وظائف أمنية محددة؟

في منتصف شهر آذار/مارس الماضي، ولغايات بحثيّة، خضت محادثة طويلة مع مصدر "جهادي" معروف. من ضمن تفاصيل عابرة سألته عَرَضًا عن تشكيل جديد كان اسمه قد راح ينتشر على نطاقات محدودة هو "سرايا أنصار السنة"، فأجاب المصدر جازمًا: "مجرّد قناة تلغرام". 

وقتذاك؛ رأى المصدر أننا أمام مجرد اسم "جرى اختراعه لرفع الحرج عن الهيئة"، في إشارة إلى "هيئة تحرير الشام" التي باتت عماد السلطة الحالية في دمشق، وأن الأمر قد لا يعدو كونه "مبادرة فرديّة أو لبضعة أشخاص، يريدون أن ينسبوا التصفيات والاستهدافات إلى هذا الاسم المُخترع". ثم انتقلنا سريعًا إلى موضوع آخر، أكثر أهميّة. 

بعد نهاية تلك المحادثة، عاودت تصفح قناة "تلغرام" المذكورة بشيء من التفصيل، وبالفعل لم يكن فيها ما يثير الاهتمام على نحو خاص؛ مجرد استعراض لانتهاكات وجرائم متفرقة، وتبنٍّ مزعوم لها، مع خطابات تعبوية شعبوية لا تُشير إلى "تأًصيلات شرعيّة" كما هي عادة الجماعات السلفيّة، ولا تُقدم خطابًا متّسقًا، وتحفل بالأخطاء اللغوية. لكن الأيام دارت، وتصدرت "أنصار السنة" واجهة الاهتمام على نحو لافت، خصوصًا إثر تبنّيها الاعتداء على كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق. 

تحول دراماتيكي.. Rebranding

ثمة تفاصيل عديدة تستدعي الوقوف عندها في حكاية هذه "السرايا" برغم عمرها القصير، على رأسها أنّها خضعت لما يشبه الـ Rebranding بين أواخر شهر نيسان/أبريل، وأوائل شهر أيار/مايو. شملت العملية إغلاق قنوات "تلغرام" المرتبطة بها، وافتتاح أخرى جديدة، مع "تحديث للهوية البصرية"، فاعتمدت شعارًا جديدًا (Logo)، أضيفت إليه عبارة مُجتزأة من آية قرآنيّة هي: "وقاتلوا المشركين كافّة" (من الآية 36 من سورة التوبة).

أما التفصيل الأهم فمفاده أن "البصمة اللغوية" للمجموعة المزعومة قد تغيّرت بشكل جذري. فصرنا نقرأ عباراتٍ متماسكة، وجملًا فصيحة تكاد تخلو من الأخطاء، حافلة بـ"تأصيلات شرعيّة"، وإحالات، وخوض في قضايا فقهية، ومسائل من قبيل "الولاء والبراء"، و"السياسة الشرعيّة"، ونحو ذلك.

تزامن هذا التغير مع افتتاح قناة خاصة على "تلغرام" باسم "القسم الشرعي – سرايا أنصار السنة"، رُبطت بالقناة الأم من جهة، وبقناة أخرى باسم "د.أبو محمد الشامي" من جهة أخرى، وكلتاهُما أُنشئت في التوقيت ذاته (مطلع شهر أيار/مايو 2025). ويبدو واضحًا أن "الشامي" صبغ "السرايا" بصبغته، فمنشوراته تتكرر في معظم القنوات المرتبطة بها، وأسلوبه بات حاضرًا حتى في البيانات النصيّة التي تصدر عنها.

جماعة بلا بصمة

يُفضي تحليل محتوى جميع القنوات المرتبطة بـ"سرايا أنصار السنة" في نسخها الجديدة إلى جملة ملاحظات مهمة، أبرزها أنها لا تُقدم أي توثيق بصري لأيّ من نشاطاتها وعملياتها، ويقتصر الأمر على إعادة نشر بعض الصور المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاصٍ جرت تصفيتهم، أو مواقع شهدت أحداثًا واعتداءات، مع تبنٍّ مزعوم لتنفيذ تلك العمليات.

وعلى نحو مماثل، لا وجود لصوتيّات، أو مقاطع فيديو، أو إصدارات خاصة، ولا حتى لصيغة بصرية موحّدة للبيانات، وهذا يُخالف ما تنتهجه عادة الجماعات "الجهادية" في نشاطها الإعلامي. ولم يكن الأمر مختلفًا جذريًّا في النسخ السابقة من "القنوات" برغم وجود "ذراع إعلامية" تحمل اسم "مؤسسة العاديات". قد يُردّ الأمر إلى محاذير أمنيّة، لكنه أيضًا قد يعود إلى أن الجماعة في الأصل نشأت بطريقة عشوائية أقرب إلى "نهج الهواة"، وبدون بنية تنظيمية واضحة أو حتى مستترة.

 يبدو تركيز "سرايا أنصار السنة" منصبًّا على إظهار العداء تجاه الجولاني/الشرع وفريقه مع بعض الإشارات الواضحة إلى تمجيد "داعش"

ثمة تفصيل صغير لكنه مثير للاهتمام في دهاليز "تلغرام" الخاصة بالجماعة المذكورة، ففي 8 أيار/مايو الماضي، نشرت قناة تتبع "السرايا" اسمها "قناة النور الدعوية" رابطًا لقناة "تلغرام" جديدة وطلبت من متابعيها دعم هذه القناة لأنها "تابعة لخلايا أنصار السنة في لبنان"، مُعرف القناة الوارد في الرابط يحمل اسم "saraia trabls1"، غير أن الرابط يقود إلى قناة أُعطيت اسم "قناة سوريا الاخبارية"، وتنقل أخبارًا تتبنى أسلوب خطاب "الإدارة الجديدة" في دمشق والوسائل الإعلامية المرتبطة بها، كما تنشر معلومات عن توزيع رواتب وزارة الداخلية، وعمليات الأمن العام، وخلل في تطبيق شام كاش.. إلخ.

"المرجعيّة الشرعيّة"

لا يعدو "أبو محمد الشامي" كونه اسمًا حركيًّا بطبيعة الحال، وهو اسمٌ سبق أن استُخدم في الساحة "الجهادية" مرات عديدة بعضها داخل "النصرة" سابقًا. هذا التشابه في التسمية قد يكون مقصودًا، إما للتمويه، أو لخلق صدى تاريخي في أذهان المتابعين.

ينطبق الأمر على "أنصار السنة"، فعلى سبيل المثال في العام 2013 كانت "جبهة الأصالة والتنميّة" تضم في صفوفها تشكيلًا حمل اسم "كتيبة أنصار السنّة"، فضلًا عن تشكيلين يدور اسماهما في هذا الفلك؛ هما "لواء أسود السنّة"، و"كتيبة صقور السنّة"، بينما تكررت مفردة "السنة" في أسماء عشرات التشكيلات والفصائل. يزعم أبو محمد الشامي في معرض التعريف عن نفسه أنه أستاذ جامعي سابق، وسبق أن كان "عضوًا في هيئات علمية عالمية"، و"باحثًا شرعيًّا في موقع الفتوى العالمي" (إسلام ويب). 

يمكننا العثور على مخطوط للشامي على جميع قنوات "تلغرام" المرتبطة بـ"أنصار السنة"، كما على قناته الشخصيّة، وقد حمل عنوان "السّؤالات الشاميّة". أما مضمونه فأسئلة يقول إنها وُجهت إليه، وردوده عليها، و"فتاواه" بشأنها. تدور معظم الأسئلة حول "فقه الجهاد والعقيدة"، و"السياسة الشرعية والخلافات الفصائلية"، ودور "العلماء والمرجعيات"، فضلًا عن بعض الأسئلة العامة (كتفسير أحاديث نبويّة).

ثمة مفارقة لافتة في المخطوط المذكور، تنبع إمّا من عشوائيّة واعتباطيّة، أو من رغبة في تزوير واختلاق تاريخ لـ"سرايا أنصار السنة"، فالسؤال الأول في المخطوط يخص "السرايا"، وهل "أفرادها مفسدون في الأرض"، كما تتكرر في متنه إشارات إلى كثير من الوقائع والمستجدات الراهنة، بينما يُؤرّخ المخطوط بتاريخ 25 – ذو القعدة – 1445، وهو تاريخ يقابله 2 حزيران/يونيو 2024!

الجولاني هو العدو المُعلن

يقع المخطوط في 160 صفحة تضم أكثر من 26 ألف كلمة، وقد وُضع له غلاف وفهرس بأسلوب بدائي وبإخراج بصري رديء. يتصدر ابن تيمية مرات الاستشهاد داخل الكتاب/المخطوط، فيُحال إليه بوصفه مرجعيّة 41 مرة، فيما يُحال إلى ابن عابدين 9 مرات، وابن القيم 5 مرات وابن حزم 4 مرات، فضلًا عن مرجعيات أخرى متفرقة مثل الشافعي، والطبري وسواهما. 

أبرز التفاصيل التي تستوجب الوقوف عندها في "السؤالات الشاميّة" أنّ أيًّا من مفردات "النصارى"، "النصيريون"، "العلويون"، لم ترِد فيه ولا مرّة واحدة، وفي المقابل وردت مفردة "الجولاني" 32 مرة، علاوة على بضع مرات بصيغة ساخرة "الجهلاني".

اللافت أن الأمر يتكرر في القناة الأساسية لـ"سرايا أنصار السنة" على "تلغرام"، فلا ترِد مفردة "النصارى" منذ إنشاء القناة سوى أربع مرات، وخامسة في صيغة مختلفة "نصارى دمشق"، وهي تلك التي تضمنها بيان تبني الاعتداء على كنيسة مار إلياس. فيما ترِد مفردة "نصيري/ة/يون" ثماني مرات فقط، و"شيعة" مرة واحدة، ولا ترد "روافض" نهائيًا. في المقابل ترد مفردة "الجولاني" 69 مرة، و"الجهلاني" ثلاث مرات.

كيان وظيفي أم نواة تنظيم؟

في المحصلة؛ يبدو تركيز "سرايا أنصار السنة" ومرجعيتها الشرعيّة منصبًّا بشكل أساسي على إظهار العداء تجاه أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) وفريقه، وحكومته، مع بعض الإشارات الواضحة إلى تمجيد تنظيم "داعش". لنجد أنفسنا مرة أخرى أمام ظاهرة تحتمل تفسيرات متناقضة؛ إذ قد يكون هذا جوهر مُعتقدات "سرايا أنصار السنة" ومحور اهتمامها بالفعل، لكنه في الوقت نفسه قد يُقدّم حزمة "خدمات" للسلطات الحالية في دمشق تتجاوز "رفع الحرج" بأشواط بعيدة. ومن زاوية أخرى، يمكن النظر إلى هذا العداء المعلن بوصفه غطاءً وظيفيًّا يوفر الشرعية لعمليات قد تنفذها أطراف أخرى.

الأسئلة حول "سرايا أنصار السنة" تتجاوز التحقق من وجودها الفعلي إلى تحليل ما تمثله: هل هي تنظيم ناشئ بالفعل، يتلمّس طريقه في بيئة مضطربة؟ أم أنها ظل رقمي صُمّم لتأدية وظائف أمنية محددة، سواء لتبرير عمليات، أو لضرب السلطات القائمة في دمشق، أو حتى لبث خطاب موازٍ يُفترض به أن يُفرغ الراديكالية من قوتها بإشغالها داخليًا؟

السوريون وثنائية النفط والغاز: "..والماء فوق ظهورها محمولُ"

قد لا يصحّ تصنيف الحرب السورية في إطار حروب الطاقة، غير أنّ حوامل الطاقة استُخدمت في هذه الحرب، مراتٍ بوص...

صهيب عنجريني
"صعود العاشق": عبد الفتاح قلعه جي غادر "مدن القش" وحيدًا

برغم أن نصيبه من الشهرة "الجماهيرية" لم يكن كبيرًا، فإنّ اسم الراحل عبد الفتاح قلعه جي يُعد علامة فارقة ل...

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا عو...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة