
".. بايعت المجموعة الملّا محمد عمر بيعة عامة، فطلب إليهم وقف برنامجهم العملي ضد الصين والاكتفاء بتربية من يلحق بهم، نظرًا لحاجة طالبان إلى علاقات جيدة مع الصين تُوازن الضغوط الأميركية، فالتزموا ذلك".
ترِد الفقرة أعلاه في الكتاب المرجعي الضخم "دعوة المقاومة الإسلامية" الذي كتبه واحدٌ من أهم مؤرّخي ومُنظري الجهاد العالمي، هو أبو مصعب السوري (مصطفى ست مريم/نصّار).
يستعرض أبو مصعب في أحد فصول كتابه تجربة "الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية"، الذي وُلد ونشأ في تسعينيات القرن الماضي تحت رعاية حركة "طالبان" في أفغانستان، وهي تجربة لافتة لا يتسع المجال لاستعراضها هنا، لكن الاستشهاد بها باختصار مفيدٌ بالتأكيد ليكون مدخلًا إلى تشريح "المسألة الأويغورية" في سوريا. فبرغم اختلافات عديدة بين التجربتين في السياقات والتفاصيل، ثمة تطابق لافت بين المآل الذي يشير إليه أبو مصعب في الحالة الأفغانية، وبين اللحظة السورية الراهنة، إذ يجد مقاتلو "الحزب الإسلامي التركستاني" أنفسهم مطالَبين بمراعاة حسابات الإدارة الجديدة في دمشق، وحاجتها إلى الانفتاح على الغرب، وربما أخذ الهواجس الصينية في الاعتبار أيضًا.
في النسخة الأفغانيّة، التزم مؤسس "الحزب" توجيهات أميره (الملا عمر)، وانصبّ تركيزه على "التربية الجهادية" لمنتسبي حزبه، برغم طموحاته بأن تحين لحظة تُمكنه من الحصول على "دعمٍ من الولايات المتحدة تقدّمه لحركته في إطار برنامج سري أقرّه الكونغرس العام 1995 لتفكيك الصين باستخدام النزعات العرقيّة والدينيّة فيها"، وفق أبو مصعب.
التجربة السورية ابنة الأفغانيّة
في أواخر تسعينيّات القرن الماضي، أعلن حسن معصوم (أبو محمّد التركستاني) تأسيس "الحزب الإسلامي لتركستان الشرقية"، بهدف "الجهاد من أجل تحرير تركستان الشرقية (الانفصال عن الصين) وإقامة الدولة الإسلامية". وتركستان الشرقية هو إقليم في أقصى شمال غرب الصين، تسكنه غالبية تركية مسلمة، وتطلق عليه بكين اسم "شينغيانغ"، ومعناه الأرض الجديدة.
كان معصوم (المولود في كشغر عام 1964) قد تلقّى علومًا دينيّة في مسقط رأسه، وفي العام 1997 توجّه إلى مكّة، وبالتزامن مع امتداد حركة "طالبان" وسيطرتها على كابل والعديد من مدن أفغانستان، سافر التركستاني إلى أفغانستان مع آخرين من المتأثرين بالأفكار "الجهاديّة".
في تشرين الأول/أكتوبر 2003، أعلن الجيش الباكستاني مقتل حسن معصوم في عملية على الحدود مع أفغانستان، وخلفه عبد الحق التركستاني. كان "الحزب الإسلامي التركستاني" قد أنشأ معسكرات عدّة في مناطق سيطرة "طالبان" وبإشرافها، وتخصّص بعضها في تدريب "الجهاديين الفتيان"، وهم مقاتلون تتراوح أعمارهم بين 14 و16 عامًا. لاحقًا، تحوّل هؤلاء إلى رأس حربة في "المشروع الجهادي التركستاني" في سوريا.
شكلت "أرض الشام" فرصة للجهاديين التركستان في أفغانستان لإعادة شحذ همّتهم وإحياء آمالهم
اتُّخذ قرار استحداث "فرع سوري" لـ"الجهاد التركستاني" في مرحلة مبكرة من عمر الحدث السوري، وبدأ توافد جماعات من مقاتليه إلى سوريا في النصف الثاني من العام 2012، أي بعد بضعة أشهر من إعلان تأسيس "جبهة النصرة لأهل الشام". اختير للتركستاني أول الأمر اسم "الحزب الإسلامي التركستاني لنصرة أهل الشّام"، في تطابق لافت مع تسمية الجبهة التي ستغدو لاحقًا حليفه الأهم، ولاحقًا حُوّر اسم الحزب ليغدو "الحزب الإسلامي التركستاني في بلاد الشام".
المنابع الثلاث
وفد "الجهاديون التركستان" إلى سوريا من ثلاث وجهات أساسيّة: الصين، وأفغانستان، وتركيا. ولعبت أنقرة دورًا محوريًّا في تجنيدهم وتدريبهم وتوجيههم. شكّلت مظلوميّة "تركستان الشرقيّة" أرضيةً خصبة لاستقطاب "الجهادييّن"، لا سيّما مع اعتماد سرديّة مفادها أنّ "نظامَي الحكم (السابق) في دمشق وبكين ركنان أساسيّان من أركان جبهة كفر واحدة". و"إذا كانت الصين لديها الحق بدعم الأسد في سوريا، فنحن لدينا الحق بدعم السوريين المسلمين"، وفقًا لما جاء في عدد آذار/مارس 2013 من "مجلّة تركستان الإسلاميّة".
أتاح العدد الكبير لأفراد الجالية التركستانية في تركيا (نحو 20 ألفًا) بيئة مثاليّة لاستقطاب شبّان الجالية، وكان "الحزب" قد دشّن نشاطه في استقطاب "المجاهدين التركستان" داخل الأراضي التركيّة بإطلاق موقع إلكتروني "جهادي" باللغة التركيّة. وقال بيان إطلاقه إنه "أول موقع جهادي باللغة التركية، علّه يكون سببًا في إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله في نفوس شباب الإسلام في تركيا وغيرها".
كذلك؛ شكلت "أرض الشام" فرصة للجهاديين التركستان في أفغانستان لإعادة شحذ همّتهم، وإحياء آمالهم. أما الوافدون من الصين فكانوا هاربين من الاضطهاد الممارس ضدّهم على أسس عقائدية وعرقيّة، وكثرٌ ممن وفدوا في مرحلة التأسيس (2012 ـــ 2013) هم ممن سبق أن اعتُقلوا في الصين.
من الملاحظات الجديرة بالاهتمام أن الحكومة الصينية قد خفّفت منذ مطلع العام 2014 القيود المفروضة على إصدار جوازات سفر للأويغور، ما يبدو أنّه شكّل عاملًا مساعدًا لسفر الرّاغبين في الانضمام إلى "الجهاد" في سوريا. وكان معظم هؤلاء يفِدون مصطحبين عائلاتهم، برغم المسار الشاق الذي يقطعونه.
أمسك "المهاجرون" الذين قدموا من تركستان (الصين) سريعًا بمعظم المناصب القياديّة في "الحزب الإسلامي التركستاني" في سوريا، برغم وجود عناصر من أصحاب الخبرة الأكبر وفدوا من أفغانستان، وهذا يُردّ على الأرجح إلى أن ولاء القادمين من الصين لخوض تجربتهم "الجهاديّة" يبدو مضمونًا بشكل أكبر بكثير من نظرائهم القادمين من تجربة "جهاديّة" سابقة أخضعتهم لروابط تنظيميّة مع "حركة طالبان"، وللاحتكاك مع أجهزة استخبارات داعمة لـ"طالبان".
"الربيع التركستاني في الشام"
لعبت "التجربة السوريّة" دورًا محوريًّا في تشكيل ملامح "الجهاد التركستاني"، وبصورة تفوق التجربة الأفغانيّة بأشواط، خصوصًا أنّ جاذبية "الجهاد الأفغاني" قد انخفضت بشكل كبير بعد هزائم "الإمارة" عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر. لم يعاصر "التركستان" الحقبة الأفغانيّة الذهبيّة، لا سيّما فترة انسحاب الاتحاد السوفياتي وإعلان "الإمارة الإسلاميّة". كما أنّ قدرات "الماكينة الإعلاميّة الجهاديّة" كانت أقلّ بكثير من قدراتها في "الحقبة الشامية".
منحت سوريا "التركستان" عددًا كبيرًا من "الانتصارات" التي أُجيد استثمارها لاستقطاب مزيد من "الجهاديين"، وجُيّر دعم مالي استثنائي لـ"المهاجرين" وعائلاتهم. أما انفراد "العائلات التركستانيّة" بقرى وبلدات سوريّة بأكملها وتحويلها إلى مجتمعات مغلقة، فقد شكل إغراءً إضافيًّا زاد من عديد المستقطبين.
حرصت "فتوى" على تأكيد وجوب التزام المقاتلين بقرار "أمراء الجماعة" في شأن ساحات القتال وأولويّة "الجهاد الشّامي" على ما عداه
عملت "الماكينة الشرعيّة" على تحديث "السرديّة الجهاديّة التركستانيّة" بصورة تتناسب مع الرغبة في تحويل سوريا إلى أولوية. في الحقبة الأفغانيّة، كان الأويغور يُبشّرون بأنّ "هجرتهم إلى أفغانستان ستضمن لهم العودة إلى بلادهم وتحريرها". أما في الحقبة السوريّة، فقد تطوّرت السرديّة لتصبح "هجرة أفغانستان مشابهة لهجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة، أما الهجرة الثانية إلى سوريا فهي تكرار لسيناريو الهجرة إلى يثرب"، ما يعني أنّ "الفتح" الموعود سيحين بمجرّد انتصار "الجهاد الشّامي"، ويعود التركستان لتحرير بلادهم من "الاحتلال الشيوعي".
بذور "الإدماج"
في أواخر العام 2017، دخلت "المسألة الأويغورية" في سوريا حقبة جديدة، مع تحولات في الخطاب أسست لفرز "مجاهدي تركستان" إلى فئتين: واحدة تطمح إلى تدشين "الجهاد ضد البوذيين" وعدّه أولوية من باب "مجاهدة العدو القريب"، وأخرى ترى "المكوث في الشام أولوية".
في تلك المرحلة، دخلت "الفتوى" على الخط، وحرصت على إمساك العصا من المنتصف. خصّصت مجلّة "تركستان الإسلاميّة" التي يُصدرها "التركستاني" ثلاث صفحات من عددها 23 (رمضان / 2018) لمناقشة هذه المسألة "شرعيًّا" تحت عنوان "في أي ثغر يجاهد التركستان؟".
استُهلّت "الفتوى" التي خطّها "الشيخ أبو عبد الرحمن الشامي" بالتأكيد على أنّ "الواجب أن يقاتل أهل كل دارٍ من يليهم (أي الأقرب إليهم) من العدو الصائل". لكنّ الشامي لم يُغلق الباب نهائيًّا أمام الآراء الأخرى، فأشار إلى وجود "استثناءات" تفرضها المعطيات "الجهاديّة" بشكل عام من دون أن يعدم "الأدلّة الشرعيّة" التي تؤكّد "صواب" كلّ من الموقفين المتناقضين.
شدّدت "الفتوى" على وجوب "إتمام الجهاد في الشام حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا"، مبيحةً في الوقت نفسه لمن لم "يهاجر" بعد أن يبقى في بلاده استعدادًا لـ"مجاهدة العدو القريب".
الخلاصة التي حاولت "الفتوى" الخروج بها تتمحور حول تخيير الأويغور المقيمين في الصين بين "النفير" إلى الشام، أو الاستعداد لـ"الجهاد" في بلادهم متى دقّت ساعته. أما الموجودون في سوريا وقتذاك، فقد حرصت "الفتوى" على تأكيد وجوب التزامهم قرار "أمراء الجماعة" في شأن "الثغور" وأولوياتها، مع التركيز على تحريم "التحوّل من ثغر إلى ثغر من دون إذن الأمير".
وُقّعت تلك الفتوى باسم مستعار/ حركي هو "أبو عبد الرحمن الشامي"، ورجّحت مصادر عديدة وقتذاك أن المفتي لم يكن سوى د.مظهر الويس (وزير العدل في حكومة دمشق حاليًًا) الذي كان ينشط في تلك المرحلة باسم أبو عبد الرحمن الشامي.
"أنصار" ومناوئون
في تلك المرحلة، أفرز التحول في خطاب "الإسلامي التركستاني" انقسامات في صفوفه، لا سيما مع دخول واحد من أبرز دعاة "الجهاد ضد البوذيين" على الخط لانتهاز الفرصة، وهو "جهادي" يُعرف باسم أبو ذر عزام، كما يُعرف بأسماء أخرى منها "أبو ذر الباكستاني"، و"أبو ذر البورمي"، وينتمي إلى العرق الروهينغي. وكان قبل سنوات المتحدث باسم "الحركة الإسلاميّة في أوزبكستان".
وفد أبو ذر إلى سوريا في 2014 وانضم إلى صفوف تنظيم "داعش"، ثم انفصل عنه وغادر مناطق سيطرته سرًّا في النصف الثاني من 2016، ثم شرع في تشكيل "مجلس أعلى لتنسيق الجهاد ضد البوذيين، يتصدى لمهمة التنسيق بين الجهاديين التركستان والأوزبك وسائر جهاديي آسيا، بهدف وضع خطط للجهاد ضد البوذيين في كل مكان".
بمرور الوقت، أدت هذه التطورات إلى حركة انشقاقات في صفوف "الحزب الإسلامي التركستاني"، خصوصًا بعد مشاركته المباشرة إلى جانب "هيئة تحرير الشام/النصرة» في الاقتتالات الداخلية ضد مختلف المجموعات الأخرى. كما دخل في قطيعة مع "كتيبة غرباء التركستان" التي كانت منذ نشأتها تعمل بتنسيق تام مع "الحزب".
واجه "الحزب" تلك التطورات بالحرص على ترميم صفوفه مغيّرًا أدبيّاته بشكل لافت، فشكّل "كتيبة أنصار التركستان" من السوريين المتعاونين معه، كما راح يجيّر جزءًا من "إصداراته الإعلامية" لإبراز عناصر من "الجهاديين الأجانب" قال إنهم انضموا إلى صفوفه، ومن بينهم فرنسيّون.
أفضت كل تلك المجريات إلى تحولَين بارزين، يطبعان مشهد "الجهاد التركستاني" في سوريا حتى اليوم، أولهما نزع "حصرية التمثيل" من "الحزب الإسلامي التركستاني" بعدما احتكرها بشكل شبه تام منذ اضمحلال تنظيم "داعش"، وثانيهما أن "الحزب" الذي قيل إنه حلّ نفسه تمهيدًا لإدماج مقاتليه في "الجيش السوري الجديد"، لم يعد منذ سنوات "جماعة جهاديّة عرقيّة صرفة"، ومن غير الواضح بعد إذا ما كان قرار الإدماج المزعوم مصمّمًا لاستيعاب جميع مقاتليه بمختلف جنسياتهم.