سنوات من التنسيق العميق: اتفاق دمشق – "قسد" لم يولد أمس

تعود جذور اتفاق دمشق – "قسد" إلى أواخر العام 2019، مع انتهاء عملية "نبع السلام". لكنّ الاتفاق اليوم يواجه تحديات وازنة.

بينما كانت الأنظار مشدودة إلى نيويورك وعواصم دول الاتحاد الأوروبي بانتظار قرارات مُحتملة تُترجم التصريحات الرافضة لحمام الدم في الساحل السوري، تكفّلت صورة ملتقطة لأحمد الشرع ومظلوم عبدي بإعادة لفت الأنظار إلى حيث يجب أن تكون: دمشق.

أظهرت الصورة الرجلين يوقّعان اتفاقًا لاندماج "قوات سوريا الديمقراطية" ضمن مؤسسات الجمهورية السورية، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم، ونشَرَتها المُعرفات الرسمية إلى جانب صور لنص الاتفاق، الذي تبدو خطوطه العريضة واضحة، برغم ضبابية بعض البنود. 

جذور قديمة

ثمة حاجة هنا إلى تأريخ صحيح لانطلاق عملية الحوار بين "هيئة تحرير الشام"، و"قوات سوريا الديمقراطية"، ما قد يسهم في توضيح المشهد، واستشراف مآلات الاتفاق. وُضع حجر الأساس لهذا الاتفاق قبل سنوات، خلافًا لما تداولته بعض وسائل الإعلام من أن البداية كانت في 20 شباط/فبراير الماضي فحسب، أو 9 كانون الأول/ديسمبر، وفق وسائل إعلام أخرى.

تعود الجذور إلى أواخر العام 2019، مع انتهاء عملية "نبع السلام" التي أدّت إلى سيطرة تركيا عبر فصائل "الجيش الوطني" على منطقتي رأس العين وتل أبيض (ريف الحسكة) في استكمال لما بدأته تركيا في عمليتي "درع الفرات/ 2016" و"غصن الزيتون/2018" في عفرين. لم تُشارك "هيئة تحرير الشام" في كل تلك العمليات، وبالتالي لم تحدث أي مواجهة بينها وبين "قسد".

في أواخر 2019، أدى اتفاق أميركي - تركي إلى وقف "نبع السلام"، وكان من أهم بنوده غير المعلنة توحيد الشمال السوري من أقصى الشمال الشرقي حيث الولايات المتحدة (متزعمة حلف "الناتو") وحلفاؤها في "قسد"، إلى أقصى الشمال الغربي حيث تركيا (العضو في "الناتو") وحلفاؤها فصائل "الجيش الوطني"، و"هيئة تحرير الشام"، وفرض إدارة واحدة تكون مقبولة أميركيًا وتركيًّا.

كانت مهمة واشنطن في إقناع حليفتها "قسد" بسيطة قياسًا على مهمة أنقرة مع حلفائها، فـ"قسد" قوة عسكرية منظمة لها مرجعية واحدة تعمل بشكل مؤسساتي منضبط، بينما "الجيش الوطني" خليطٌ من فصائل غير منضبطة ولا منسجمة. 

حاولت أنقرة بشتى الوسائل توحيد تلك الفصائل في جسم عسكري واحد، لكنّ محاولاتها باءت بفشل، يبدو أن من أبرز أسبابه هيمنة النزعة الفصائلية المدفوعة بمصالح شخصية لقيادات لا تتمتع بالكفاءة العسكرية والمسلكية. كان من منعكسات ذلك الفشل قيام تركيا باستنزاف بعض الفصائل ماديًّا ومعنويًّا عبر زجها في معارك خارج الحدود السورية (في ليبيا، وأذربيجان)، وهذا أسهم في سوء إضافي لسمعة تلك الفصائل، مع وصمة ارتزاق دامغة. 

هناك من قد يعتبر توقيع الشرع على الاتفاق "طعنة غدر"، ما يعني أن الضغوط عليه لنسف الاتفاق لن تقل عن الضغوط التي ستُمارس على قائد "قسد"

في المقابل، كانت "هيئة تحرير الشام" تُظهر براغماتية ومرونة لافتتين، ما جذب انتباه واشنطن ولندن اللتين سارعتا إلى فتح خطوط تواصل مع الهيئة. أثمر ذلك تنسيقًا استخباراتيًا بين "تحرير الشام" و"قسد"، بإشراف أميركي بريطاني، وأتاح تنفيذ عمليات استهداف دقيقة لقادة وعناصر من تنظيمي "داعش" و"القاعدة" في إدلب وريفها. 

منذ ذلك الوقت استمرّت خطوط التواصل فعالة بين "الهيئة" و"قسد"، وانعكس تأثيرها بوضوح في مواقف عدة، أبرزها: رفض "الهيئة" للانتهاكات التي ارتكبتها فصائل الجيش الوطني بحق الكرد في عفرين، وقوبلت تلك المواقف بمطالبات شعبية كردية بدخول "الهيئة" إلى عفرين. ولا يفوتنا أيضًا التعاون الاقتصادي المهم، والتنسيق بين "قسد" و"الهيئة" في ملفي المحروقات والمحاصيل الزراعية على وجه الخصوص. 

عوامل مستجدّة

قبل سقوط النظام السوري السابق بشهور، كان من المنتظر أن تُظهّر اتفاقات وتوافقات بين "تحرير الشام"، و"قسد"، تتعلق بالشمال السوري. لكن تسارع الأحداث في المنطقة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر في غزة، وصولًا إلى السقوط المدوي للنظام السوري السابق أدى إلى حرق المراحل، وجعل الاتفاق شاملًا لكل سوريا، خصوصًا بعدما تربّعت "الهيئة" على رأس منظومة الإدارة الجديدة في دمشق.

من الواضح أيضًا أننا كنا على موعد مع حرق جديد للمراحل، تحت ضغط، أو بالاستفادة من المستجدات السوريّة والإقليمية في آنٍ واحد: من جهة أحمد الشرع يبدو جليًّا أن توقيت توقيع الاتفاق رسميًّا وإعلانه يرتبط بسعي إلى احتواء مضاعفات مجازر الساحل السوري، التي وضعت الشرع أمام أول اختبار حقيقي، خصوصًا مع ردود الفعل الدولية التي تجاوزت حدود الاستنكار إلى مُطالبات حازمة. ويبدو أن الرجل قد سارع بالفعل – كما نُصح – إلى محاولة تحويل التهديد إلى فرصة لإمرار الاتفاق الذي يُعاكس مصالح جزء غير قليل من الدائرة المحيطة به، لا سيما العسكرية. 

أما من جهة عبدي، فيبدو أن الفرصة قد سنحت عقب رسالة زعيم "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، وحديثه عن مستقبل تركيا وعن حرصه على قوتها وأمنها باعتبارها وطنه، ورفضه نموذج الدولة القوميّة، بل حتى رفضه الفيدرالية أو الإدارة الذاتية.

كل هذا، قوّى موقف عبدي أمام شركائه في الإدارة الذاتية، وتحديدًا "حركة المجتمع الديمقراطي"، إذ استثمر رسالة اوجلان لتكون حجة إضافية يحاجج بها زملاءه الذين عادة هم من يعبرون عن آراء قنديل (قيادة "حزب العمال الكردستاني"). يُضاف إلى ذلك احتمال وجود تأثير كردي آخر عابر للحدود للدفع نحو الاتفاق، الذي يشابه في شكله ومضمونه أفكارًا طرحها رئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود البارزاني، الذي يحظى بتقدير لدى الإدارة السورية الجديدة.

تحديات وازنة

يبقى أن تنفيذ أي اتفاق يفوق في أهميته التوقيع بأشواط، لا سيما أن تحديات عديدة وكبيرة تفرض نفسها، على رأسها التدخلات الخارجية المحتملة، خصوصًا أن هناك دولًا متضررة، ومنها من قد يعتبر توقيع الشرع على الاتفاق "طعنة غدر"، ما يعني أن الضغوط التي ستُمارس عليه لنسف الاتفاق لن تقل عن الضغوط التي ستُمارس على قائد "قسد" مظلوم عبدي. هذا ما يضع على الرجلين مسؤوليات كبيرة لتحصين اتفاقهما، خصوصًا عبر عدم اعتباره مجرد إجراء تكتيكي هدفه شراء الوقت لتخفيف الضغوط الدولية على الإدارة الجديدة، إثر الانتهاكات المروّعة في الساحل السوري.

أما العنصر الأهم في تحصين هذا الاتفاق، فهو حجم الترحيب الشعبي السوري الملحوظ، والاحتفاء الذي كان مؤهلًا ـــ لولا أنه سُبق بمجازر الساحل ـــ ليفوق الفرحة بسقوط النظام السوري. 

 

هامش: بعد الإعلان عن توقيع الاتفاق بساعات وأثناء كتابة المقالة، نفّذ سلاح الجو التركي غارات وُصفت بالأعنف على مواقع "قسد" قرب سد تشرين في ريف حلب الشرقي، وأُمرت فصائل الجيش الوطني (العمشات، والحمزات، والمعتصم، والسلطان مراد) بإرسال تعزيزات إلى الجبهات.

الرياض - طهران - دمشق: مفصل تاريخي أم سكون بين عاصفتين؟

يذهب البعض إلى القول إنّ الأحداث التي تعيشها سوريا منذ آذار/مارس 2011 إنما هي نسخة موسّعة لأحداث الثمانين...

ريزان حدو
لقاء موسكو من زاوية أخرى: طهران في صف "قسد"؟

من المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية. ولعل مصلحة "قسد" تكمن اليوم بالتواصل ال...

ريزان حدو
ثمار اقتتال الشمال السوري: "تحرير الشام" في عفرين

تحظى المعارك التي انطلقت شرارتها من منطقة "درع الفرات" وامتدت تداعياتها إلى عفرين بخصوصية مهمة لأسباب عدّ...

ريزان حدو

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة