يبدو أنه ليس لدينا الكثير من الوقت، هذا إن توفر بعضه، كي لا يكون يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 صحوة بين غفوتين، لا عبورًا من ليل دام أكثر من نصف قرن إلى فجر جديد.
في لحظة تاريخية رهيبة، انهارت دفاعات النظام السوري أمام القوات الزاحفة من إدلب، لتصل إلى دمشق في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024 وتعلن نهاية حقبة نظام عائلة الأسد المظلمة.
انطلقت من هذه اللحظة حقبة جديدة بدأت أولى معالمها بتكليف قائد إدارة العمليات العسكرية، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) لمحمد البشير، رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، ليترأس الحكومة السورية الانتقالية. معالم تقول إن ما حدث ليس إلا استيلاء على السلطة، لا إسقاطًا لنظام استبدادي للوصول إلى نظام ديموقراطي، ودولة حريات وعدالة اجتماعية.
إن تكليف البشير ليكون رئيسًا للحكومة الانتقالية، من دون أن تكون هناك أي محاولة لضم قوى سياسية خارج إطار "هيئة تحرير الشام"، يعني أن "الهيئة" قررت الاستفراد بالحكم، وبالتالي بدأت ملامح هذه المرحلة بالتشكل. فما هي هذه الملامح؟
أولًا، غابت عن بيانات "الهيئة" أي إشارة للقرار الأممي 2254، بما يشبه الإعلان عن عدم اكتراثها بهذا القرار، وبحجة واضحة: لم نكن يومًا جزءًا منه فلا تطلبوا أن نكون جزءًا منه اليوم! وبالتالي، وبرغم محاولات "محور آستانة"، وحديث المبعوث الأممي، ومحاولات العديد من الأطراف السورية توجيه رسائل قوية بضرورة الالتزام بالقرار 2254، فإن الهيئة تجاهلتها كلها، فعن أي انتقال نتحدث؟
ثانيًا، بدت حكومة البشير خالية من أي تمثيل لأي طرف آخر، حتى من الإسلاميين الآخرين أنفسهم. فما هي الرسالة؟ ليست هناك أي مساحة لأي طرف آخر للمشاركة في السلطة في المرحلة الانتقالية. وبالتالي، كيف يتوقع الناس أن تكون هناك حكومة منتخبة، تمثل السوريين، رجالًا ونساء، وتضمن حقوق الجماعات، وتضع أسس انتخابها حكومة من لون واحد! فعن أي انتقال نتحدث؟
ثالثًا، كان لافتًا تغيير زعيم "الهيئة" شكل ظهوره ليبدو أكثر اعتدالًا. لكن بدا مختلفًا عندما كلف حكومة الإنقاذ بتسيير الأعمال، لتبدو العملية استمرارًا لشكل محدد من آلية وشكل الحكم! فعن أي انتقال نتحدث؟
ما لم تحرر أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي، وما لم يقم نظام حكم عادل وديمقراطي، لن تقوم قائمة لأحد أو لبلد
رابعًا، بينما كانت "الهيئة" تشكل حكومتها، كانت إسرائيل تقصف كل قطعة عسكرية في شتى أنحاء البلاد، بما يشبه الإعلان عن عملية إعدام للجيش السوري، من دون أن تنبس "الهيئة" بشفة، ولا حكومتها، بل ــــ للأسف ــــ لم تُصدر غالبية التيارات السياسية أي بيان أو مطالبة لمجلس الأمن باتخاذ موقف حتى. فإذا لم يكن يعنينا اليوم أن إسرائيل تقتطع أجزاء من بلدنا بعين وقحة، وتعلن تخليها عن اتفاقية فصل القوات، وتقصف قطعاتنا العسكرية، وأسلحتنا، فكيف سيعنينا غدًا تحرير الجولان؟ وعن أي انتقال نتحدث؟
حسنًا، سيأتي من يقول إن هذه مرحلة خطيرة، وعلينا التروي في السلوك، وإن ضبط الأمن هي المسألة الجوهرية الآن، وهذا صحيح. لكنها أيضًا مرحلة خطيرة، لأنها ستعطي البلاد شكلها المستقبلي، فكيف يمكن لنا الصمت عن تشكيل حكومة من قبل طرف واحد؟
بالتأكيد لن يصمت السوريون، رجالًا ونساء، عن أي إقصاء بحقهم، فبعدما انتفضوا على الطغيان، وتحملوا آلام التشريد والاعتقال والترهيب والقصف والتعذيب، كي يتخلصوا منه، كيف لهم أن يسكتوا اليوم؟
ثم كيف يمكن للعرب أن يتعاملوا مع مثل هذه الحكومة، وهم الذين لم يتمكنوا حتى من التعامل مع حكومة مرسي في مصر، ولا حكومة "النهضة" في تونس؟ هل تتوقع "الهيئة" أن يستقبلها العرب بالأحضان، إذا حاولت أن ترسخ نظام حكم يحمل في طياته تهديدًا لها، وللإقليم برمته؟ هل سيقبل العرب بحكومة لا تضمن استقرار البلاد، وتستثني غالبية الأطراف والجماعات في بناها الحكومية؟
ثم كيف للعالم أن يقبل التعامل مع "الهيئة"، حتى في "هيئتها" المقبلة، إذا لم تغير من سلوكها مع المجتمع السوري ومع الأطراف السياسية الأخرى؟
هل تتوقع "الهيئة" أن تستقبلها الدول كما استقبلت طالبان؟ بالتأكيد لا!
فسوريا ليست في جغرافيا تسمح بقيام كيان ذي طابع متشدد، مهما غيّر قائده من مظهره! وسوريا نسيج اجتماعي معقد وجوار ملتهب، وآخر يمثل قوة ضاربة في "الناتو"، ولن يقبل الأخير نشوء كيان طالباني في سوريا.
لن تستقر البلاد ما لم تتشكل فيها حكومة انتقالية من جميع الأطراف، وبموجب القرار 2254 (وفق أي تفسير ممكن له في ظل كل ما جرى)، وبمظلة أممية. لن تستقر البلاد بنظام يغفل تنوعها الإثني والطائفي والاجتماعي والسياسي... لن يقبل السوريون بمنظومة حكم لا تحترم تنوع ثقافة فئاتها المتدينة بحد ذاتها، ناهيك عن تنوع ثقافاتها الأوسع. لا أحد يتحدث عن حكومة منتخبة اليوم، لكننا نتحدث عن حكومة تعكس، نوعًا ما، المستقبل الذي ينتظرنا.
لا يكفي تحرير سوريا من آل الأسد، ولا يكفي أن يسقط النظام! فما لم تحرر أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي، وما لم يقم نظام حكم عادل وديمقراطي، لن تقوم قائمة لأحد أو لبلد.
ولا يكفي أن يتغير الاسم، ولا معنى أن يصبح الجولاني شرعًا، ما لم تصبح سوريا وطنًا لكل مواطنيها، حرة من كل احتلال واستبداد!