تهبط الطائرة في مطار حلب الدولي، قادمةً من مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنيّة. تُسمع شهقاتٌ وتنهدات متفرقة، وسرعان ما تطغى عليها زغرودة أطلقتها إحدى السيدات.
ركّاب الطائرة بالكامل من أبناء حلب، قدموا من وجهات عديدة، قبل أن تجمعهم هذه الطائرة في عمّان وتطير بهم إلى مدينتهم. هي الزيارة الأولى لبعضهم منذ سنوات طويلة، برغم مرور نحو عام على سقوط نظام بشار الأسد.
يُقسم عمر أنه حلُم بهذا المشهد مراتٍ عديدة على امتداد سنوات لجوئه في ألمانيا، وأنه كثيرًا ما استيقظ من الحلم غارقًا في دموعه، وأخيرًا تحقّق الحلم. "والله العظيم حيسس (أشعر) بدو يوقف قلبي" يصرخُ الرجل الأربعيني ملء صوته، ويؤكد أنه لم يعد يقوى على الصبر إلى أن تتوقف الطائرة على المدرج ويُفتح بابها.
منافذ حدودية "مهذبة"
على امتداد زيارات عديدة في العام الأخير عبر منافذ حدودية مختلفة، برية وجوية، لم يتغيّر الانطباعُ الذي حملتُه معي بعد أول دخول إلى سوريا عقب سقوط نظام الأسد. كنتُ قد قلت لصديقة حينها مجيبًا عن سؤال: "كيف شفت الحدود؟"، إنني رأيتُها "مهذبة" للمرة الأولى في حياتي.
يُبدي الموظفون ودًّا ولطفًا لافتين، يعوضان شيئًا من تواضع المطار وبنيته التحتية. ومقارنةً بآخر زيارة لي عبر مطار حلب، كان ملحوظًا تحسُّن الأداء وسرعة إنجاز إجراءات الدخول، وتلفت النظر مجموعة موظفات يبدو واضحًا أنهن يخضعن للتدريب استعدادًا لرفد الكادر بهن.
لا تزال العاطفة حاضرة بقوّة في صالة استقبال الواصلين بعد عام من سقوط نظام الأسد. أسرٌ في انتظار أحبابها، أمهات يتحرقن شوقًا للقاء أول بعد حرمان طويل، عناقات حارّة، وورودٌ، وفرقةُ عراضة تتهيّأ لاستقبالٍ بـ"طنّة ورنةّ".
حلب النقائض
بمجرد مغادرتك المطار، أنت على موعد مع صورة مغايرة. ففي حين تجمع معظم من في المطار مشاعر مشتركة تدور حول الفرح، يمكنك في معظم تفاصيل مدينة حلب تلمّس الشيء ونقيضه في آن واحد. يُهيمن الحماس والابتهاج على معظم العائدين من الشمال ومن تركيا بعدما كادوا يفقدون الأمل، فيما تُفصح الخيبة عن نفسها بوضوح لدى العديد ممن لم يغادروا المدينة، وأصروا على البقاء فيها إبّان خضوعها لسيطرة نظام الأسد. "بيعتبرونا شبيحة خيو، ما بخبوها، بقولوها بوجوهنا"، يقول إحسان، وهو صاحب متجر للمواد الغذائية. يستفيض الرجل في شرح معاناته ومعاناة أمثاله: "فجأة صار في ناس بشوفونا درجة تانية. صار في مين يقلك: إنت ما تهجّرت ولا تغرّبت وما بيطلعلك تحكي، احمد ربك ما حدا قرّب عليك وتاركينك أنت وأمثالك عايشين بيناتنا".
يحضر هذا التذمّر على كثير من الألسن في حلب، ويبدو لافتًا أنه قد يُسمع في الأماكن العامة بلا تردد. في مقهى وسط المدينة، تلتفت الأنظار فجأة نحو إحدى الطاولات بعد أن ارتفع صوتٌ غاضب يصرخ: "وبيجي بقلك حررتك، لأ خيو ما حدا حررني". تُسارع إحدى العاملات في المقهى إلى رفع صوت الموسيقا، فيما تتواصل الأحاديث بعد أن تخفت الأصوات.
يسود اعتقاد لدى شريحة من أبناء حلب بالإقصاء والتهميش، وبأن مواقع القرار محجوزة استنادًا إلى مُحاصصات فئوية
لسنوات طويلة، عرفت حلب نوعًا من الصراع المديني الريفي، منطويًا على أبعاد اجتماعية واقتصاديّة في المقام الأول. وقد أسهمت سياسات نظام الأسد الابن في تعزيز هذا الصراع، قبل أن تنعكس آثاره بوضوح على خريطة الاحتجاجات منذ العام 2011 في سوريا عمومًا، وفي حلب على نحو خاص. ورويدًا رويدًا، خرجت الأحياء الأكثر فقرًا عن سيطرة النظام السابق، ومعها مساحات شاسعة من الريف المهمّش، ودفع أبناء تلك المناطق أثمانًا فادحة، قتلًا وقصفًا وتهجيرًا. ومنذ أن سقط النظام في حلب أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بدا أنّ شريحة من العائدين من التهجير ترى نفسها في صورة "المنتصر العائد لتصفية الحسابات مع الآخرين".
اليوم يُرخي هذا الواقع ظلاله على حلب، ويُراكم احتقانًا متزايدًا، لا سيما أن مظاهره لا تقتصر على تراشق التهم، بل تنسحب على خريطة النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ليشعر كثرٌ من أبناء المدينة أنّهم مهدّدون حتى في لقمة عيشهم. ويُمكن بوضوح تلمّس حالة من الانكماش التضخمي تهيمن على المناخ الاقتصادي العام، مع ما يعنيه هذا من مخاطر على المدى المتوسط، في مدينة يُقاس كل شيء فيها بميزان الاقتصاد.
لا توافق نائلة على هذا المنظور، وترى فيه مبالغة واستعجالًا. تشرح السيدة، وهي مُهندسة ثلاثينية، كيف أُقصيت سابقًا من وظيفتها في إحدى الدوائر العامة "بس لأن عندي إخوة شاركوا بالثورة"، وتضيف بانفعال: "خسرنا كل شي: بيوتنا، وأرزاقنا، واشغالنا، وناس من أهلنا، وما كان عنا حتى أمل نحلم نستعيد شي، طيب لما نكون منعرف مين اللي كتبوا فينا تقارير، ومين اللي شبّحوا علينا، شلون بدنا نقبل نشوفهم مكملين حياتهم عادي؟".
تتكرّر مثل هذه النقاشات والآراء في جلسات عديدة، لتُفضي إلى استنتاج بديهي: ما لم تُضبط كل التحولات وفق مسارٍ لا يقوم على الانتقام، فنحن أمام ترسيخ الاحتقان، وتكريس الانتقام نمطَ حياة. لكن السلطات تبدو ــــ حتى الآن ــــ بعيدة عن السلوك المأمول، فلا ملامح واضحة لسياسات تشميلية عادلة، ولا نهجًا مفهومًا للتعيينات الإدارية في أهم مفاصل القرار. وبدلًا من ذلك، يسود اعتقاد راسخ لدى شريحة من أبناء المدينة بالإقصاء والتهميش، وبأن مواقع القرار محجوزة لا وفق "الولاءات الثورية" فحسب، بل واستنادًا إلى مُحاصصات فئوية، مع تداول كلام عن أن إدارة حلب فُوّضت بالكامل لـ"الجبهة الشاميّة" وفق اتفاق غير مُعلن بين رأس الهرم في دمشق، وقيادة "الشاميّة" التي بات قائدها العام عزام غريب (أبو العز سراقب) محافظًا لحلب منذ أواخر كانون الأول/ديسمبر 2024.
دمشق.. و"الدفع الذاتي"
يختلف ظاهر الصورة في دمشق عمّا هو عليه في حلب. توحي الملاحظة العامّة أول الأمر بأن "كل شيء يتحرك نحو الأمام". فالمزايا التي تحظى بها العاصمة بشكل طبيعي تتيح تدوير كتلة ماليّة كبيرة، وهذه بدورها تخلقُ ما يُسمى في عالم الاقتصاد بـ"الوهم النقديّ" الذي يُخلّف شعورًا إيجابيًّا مؤقتًا. وخلافًا لما هو عليه الحال في حلب، لا يتذمر معظم من حادثتهم في دمشق من قلة الموارد وضعف الحركة الاقتصادية، بل يُركزون على أن "المصاري عم تخلص بسرعة".
خلال حديث قصير، يُعبّر أبو عمر، وهو سائق سيارة أجرة، عن تلك المفارقة بشكل عفوي: "أخي والله ما عم أفهم، الحركة ممتازة الحمد لله، وعم نطلع مصاري منيح، بس عم تتبخر.. تقول ما لها بركة!". وعلى نحو مشابه، تفرض العاصمة إيقاعًا شديد السرعة للحياة اليومية، وهذا بدوره يصرف الشارع عن التفكير بالكُليّات، ويجعل التركيز مقصورًا على "عيش كل يوم بيومه".
لا أحد يهرب من حقيقة أن "الأمل معقودٌ على الخارج"، وإن اختلفت التعبيرات
في المجمل، ثمة تغيرات ملحوظة في الشعور الجمعي العام في دمشق، عمّا كان عليه في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي. يمكنك تلمّس تأقلمٍ أكبر مع المتغيرات المتسارعة، مع شيء من الأريحية قد يكون ناجمًا عن تفاصيل صغيرة، لكنها تُشكل حاجة ملحّة على بساطتها، مثل التحسن الملحوظ للتيار الكهربائي، وانخفاض بعض مظاهر التشدد التي فرضت نفسها على الفضاء العام في مناطق عديدة من دمشق لشهور طويلة. لن يُحدثك أحد اليوم عن "سيارات الدعوة"، أو عن التضييق على اللباس وأماكن السهر، ونحو ذلك من تفاصيل. وفي أحياء عديدة ستلاحظ بيسر أنّ الفضاء العام يحظى بقدر من الحريّة. لكنّ تحفيز الأحاديث العابرة عبر طرح أسئلة تفصيلية قد يكشف صورة مختلفة تحت السطح، فالخوف لا يزال حاضرًا عند الخوض في أي حديث يتعلق بالسويداء على سبيل المثال، وبتجربة إحصائية بسيطة لاحظت أن سبعة أشخاص خضتُ معهم نقاشات متفرقة دون سابق معرفة قد اختصروا النقاش بعبارة "الله يفرّج"، أو "الله يهدّي البال"، فيما أظهر أربعةٌ آخرون انفتاحًا على النقاش، وطرحوا آراء متباينة حول الوضع السياسي العام في البلاد، وكان القلق والحذر حاضرَين في كل تلك الآراء، شأنَ الحيرة والأسئلة المعقّدة حول المستقبل القريب.
مع تحيات نيوتن
حتى اليوم تُستعاد أحاديث "ما قبل السقوط" بكثافة في دمشق. المُقارنات حاضرة بحذر، والاحتفاء بالتغير الكبير كذلك، ولا أحد يهرب من حقيقة أن "الأمل معقودٌ على الخارج"، وإن اختلفت التعبيرات. المتحمسون لأداء السلطات الانتقالية يتحدثون عن رفع العقوبات، ودور الاستثمارات الأجنبية القادمة. وبعض المعترضين على طريقة إدارة البلاد يشيرون إلى "ضرورة التدخل الدولي لوضع حد للأحقاد والانتقامات"، فيما يشير آخرون في جلسات خاصة مغلقة إلى أن "التغيير حتمي"، وأن "مجلس الأمن سيتدخل في لحظة ما". يكاد قانون نيوتن الأول يوجز أحوال سوريا بأكملها: "الجسم الساكن يبقى ساكنًا، والجسم المتحرّك يبقى متحركًا، ما لم تؤثر عليه قوى ما".
* *
"خلصت الإجازة؟"، يسألني سائق سيارة الأجرة الذي أقلّني إلى مطار دمشق الدولي، فأجيبه: "إي والله، بس في رجعة قريبة ان شالله". يصمت لحظات، ثم يقول بنبرة حيادية: "مجنون اللي بيرجع"، وقبل أن أردَ بشيء يضيف: "إلا إذا جاي يسوح كم يوم، وبيقدر يسافر وقت بدو". أكتفي بالصمت، بينما أفكر بأن معظم التفاصيل داخل سوريا تدور منذ عقود طويلة حول انعدام فُرص الاختيار، وأن هذا الواقع لم يتغيّر بعد.