فَشَر

"فَشَر" قد تكون ردًا على تهمة قِتالها، هي السيدة السبعينية ذات الجسد المنحني كعلامة سؤال، "أهل السنة" أجمعين. و"فَشَر" قد تكون ردًا على محاولة المسلحين الواقفَين أمامها اختزال "أهل السنة" بفعلتِهما وقولِهما.

رأيتُ في الفيديو بالأمس امرأة، بدَت في سنّ السبعين. وقفَت أمام حاملِ كاميرا لا نراه ورَجُلٍ آخر بصحبته، في مكان ما عند الساحل السوري حيث ارتُكبت مجازر.

من خلف الكاميرا كان الرجلان يتناوبان على الكلام، كل منهما بصوت يطفح بهرموناتِ من أَزهق أكثر من حياة ويقدر على إزهاق المزيد. لقد قتلا ولديها للتو وكانا يتوعّدان. لكنّ أداءهُما، شبه المسرحي، كان يوحي بذنبٍ مستتر.

"
هيدول اولادك؟ الله لا يسامحك.
رح ندعس عليكم ان شالله قريبًا، لأنكم إنتو اللي بديتوا" (بدأتم).

قرب السيدة كانت جُثتا ولديها مرميّتين. وكانت طوال حفلة الوعيد ثابتة في مكانها. يداها على خصرها، كما لو أنهما تشدّان الخصر صعودًا. وجسدها المُنحني يأخذ شكل علامة سؤال دالّة، ويكاد يستحيل نصًا ناطقًا متهكمًا: من أنتما؟

لكنّ السيدة السبعينية، في حقيقة الأمر، لم ترُدّ. بل اكتفت بهز رأسها. "ان شالله"، قالت بين ساخرة ومحيلة الأمر إلى ربٍ يقاتل الرجلان باسمه.

"
إنتو اللي بديتوا".

كرّر المسلّح حامل الكاميرا تهمته ثلاث مرات، كما لو أنه يبرّر فعلته ويغتسل من إثم.

"
إنتو غدارين". كرّرها ثلاث مرات أيضًا، كما لو كان يتابع الاغتسال من دم مسفوك. ثم أردف صوت الرجل المرافق له: "عم يقاتلوا أهل السنّة". وأضاف الأول: "اعطيناكم الأمان، بس غدرتوا فينا".

عندها قرّرت السيدة أن ترُدّ: "فَشَرت".

"
يلا استلمي اولادك. استلميهم، استلميهم".

كرّر دعوتَه ثلاث مرات مجددًا كمن يؤكّد قوّة حجّته أمام الوالدة والجُثتين المرميّتين. لكنّ كلمة "فَشَرت"، برغم الصوت الخافت الذي قيلت به، ظلّت تطنّ في الأذن. كما لو كانت ذات صدى مديد.

وفَشَر ــــ أي كلامُكَ مليءٌ بالزور والبطلان ــــ تصلح لأن تكون ردًا على تهمة قِتالها، هي السيدة السبعينية ذات الجسد المنحني كعلامة سؤال، "أهل السنة" أجمعين. و"فَشَر" قد تكون ردًا على محاولة الرجُلَين الواقفَين أمامها اختزال "أهل السنة" بفعلتِهما وقولِهما.

وفَشَر قد تنطوي على رفض نفي التهمة: نحن مُتنا وأنتم ومن مثلكم قاتِلونا. لن تسلُبوا منا الجُثث. لن تسلُبوا روايتنا. لن تدفنوا معنا مشهديّة المذبحة. ولن تمحوا كل باب منزل فُتح لمُسلحين وأُزهقت خلفه الأرواح.

"فَشَر" تفنيدٌ لمن يقول أو يوحي بأنّ أي جماعة ليست من هذه الأرض أو لا تستحق أن تكون

قيل في البطلان "ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل / وكلّ نعيم لا محالة زائلُ". والبطلان هنا في البيت الشهير للشاعر الجاهلي، الصحابي لاحقًا، لَبيد بن ربيعة، ينطبق على كلّ ما دون الجوهر المطلق.  

نحن في حضرة هذا المشهد، وغيره مئات المشاهد، أمام بطلان روايات الجوهرانية المطلقة المتعلّقة بالطوائف، أي مقولات أن كلّ طائفة أو جماعة من البشر تنطوي على جوهر ثابت، ثمين تستحق معه الرفعة أو رخيص يُنزلها إلى أسفل درك.

فَشَر.

كلمة السيدة العجوز كانت تدحض سردية أُنفقت عليها أموال طائلة، ودُبّجَت في سبيلها آلاف الفتاوى. كانت كمن يقول إن الثورة هي لمن قام في سبيل انتزاع حرية من نظام متجبّر وتثبيت هذه الحرية كقيمة للسوريين دون تمييز. كمن يقول إن الحرب السورية بوصفها فعل انتقام، وما انطوَت عليه هذه الحرب من مآسٍ، لم تكن فعل بطولة قط. 

"فَشَر" تصلح للجم اللسان السليط الردّاح. تصلح للردّ على كلام يلوكه مذيع على قناة تلفزيونية إذ يزعق "ألا يستحق العلويون الإبادة؟"، ثم يرفقه بعبارة "يقول أحدهم"، كمن يُبرّئ نفسه من إثمٍ تمامًا كحامل السلاح.

و"فَشَر" هي لمن ابتلع لسانه في حضرة الموت واحتفل بميلاد بلد جديد. "فَشَر" هي لمن حاول بألف طريقة طمس المعالم، لا بالقول "هم بدأوا" فحسب، ولا بالإحالة إلى عبارة "هم" و"نحن" الخادعة على الدوام فقط، بل بالقول هم لم يكونوا أصلًا. أو هم أصل البلاء. من مخيّمات اللاجئين في إدلب والشتات السوري إلى حوافّ سواحل الشام. "فَشَر" تفنيدٌ لمن يقول أو يوحي بأنّ أي جماعة ليست من هذه الأرض أو لا تستحق أن تكون. 

"فَشَر"، بعدما أُطلقت في الهواء، باتت تحتمل ألف تأويل وتصلُح لأن تُلبَس ألفَ تفسير، كأي نص بليغ ينطوي على دلالات لا حصر لها. تمامًا كـ"معلِش"، حين قالها وائل الدحدوح أمام أفراد أسرته المُكفّنين، في الأيام الأولى لمذبحة المستعمِر الوحيد في منطقتنا، الدخيل الوحيد على هذه الأرض، بحق أهل غزة.

"
فَشَر" باتت متحرّرة من فم السيدة السبعينية نفسها، التي ينحني جسدها كعلامة سؤال. رُميَت في الفضاء الرحب في وجهنا كصفعة كفٍّ مدوّ. رُميَت في وجه صمتنا، كعلامة تعجّب فارقة.

تشييع السيد حسن

مع توسّع الحملة ضدّ "حزب الله" وأمينه العام إلى ما بعد الحرب والاغتيال، يبدو تشييع السيد، بعد كلّ ما سبق...

ربيع بركات
أحمد الشرع: ما بعد الـ rebranding

مصلحة سوريا وقرارها المستقل يستوجبان التخفّف من عبء ماضي الإدارة الجديدة، متمثلًا بـ"جبهة النصرة" وما تبع...

ربيع بركات
مُشعوذون

عن محمد علي الحسيني و"ظاهرة" التنجيم السياسي والأمني، وعن الجيش الإلكتروني والمتلفز ــــ الأكثر جدّية ـــ...

ربيع بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة