عن ساحل الملح والدم

لم أشأ أن أخبرها أن الموت على بعد خطوات منها ومن حفيدها، وأنه يتربّص بأي شاب من الطائفة العلوية في الشارع المجاور. ولم أخبرها أن رجال الحيّ ضُربوا وأُهينوا قبل قتلهم، وأن بعضهم نجا صدفة ربطًا بمزاج القاتل.

صمت مطبق وعتمة كالحة سادت خلال الليل. وفي الصباح، أصوات ارتطام أوعية بلاستيكية فارغة تحملها أيادي أطفال ونساء مسنات يجولون في الحي بحثًا عن مياه. كان هذا المشهد خاليًا من الأصوات البشرية. غابت سلامات الجيران وتبادل الأخبار، كأن قطع المياه والكهرباء عن مدينة اللاذقية توازيًا مع المجازر التي كانت تحدث في مناطق عدّة على امتداد الساحل السوري، إنما هو قطع لآخر حبال الودّ بين الناس، وآخر نفس لديهم.

أخذ الأمر بداية شكل نزاع بين طرفين مسلحين يوم الخميس في السادس من آذار/مارس، أشعلت فتيله حملة تفتيش في حي الدعتور ذي الغالبية العلوية في مدينة اللاذقية، تخللتها عبارات طائفية وقتل متعمّد لشبان مدنيين ورصاص عشوائي على البيوت أودى بحياة طفل. وحملة التفتيش هذه جاءت بدورها كردّ فعل على كمائن وهجمات استهدفت نقاطًا عسكرية للأمن العام التابع للإدارة السورية الجديدة من قبل ما يسمى "فلول النظام".

في ليل الخميس، مختبئة مع والدتي في حمام منزلنا الصغير المعتم خوفًا من رصاصة طائشة أو ضربة مدفعية تخترق الجدار، سمعنا "يا علي" تخرج من حنجرة وتبلغ مداها مخاطبة السماء. تردّد صدى الجملة بين أصوات رشقات الرصاص والقنابل، كما لو كان نشوة انتصار على عدو ما. في هذه الحالة، كان العدو هو ابن البلد الذي ينتمي إلى طائفة مختلفة. 

وصلتني في هذه الأثناء رسالة من صديقتي تفيد بأن "الشباب" استولوا على جميع الثكنات العسكرية المحيطة بمكان سكننا. لم أسأل من هم "الشباب". أدركت أن رفع الكلفة يوحي بوجود صلة بيننا وبينهم، وانقبض قلبي لشعور أعرفه تمامًا وعايشته عام 2011، يفصل بين "نحن" و"هم"، أي السنة والعلويين، ويفترض ضمنًا العداء. 

صباح الجمعة، كان الأمن العام قد سيطر مجددًا على الأحياء العلوية، واستعاد نقاط تمركزه فيها، وأعلن عناصره عن ذلك بـ "الله أكبر" جماعية تعكس انتصارًا على العدو أيضًا. ومع وصول أرتال المؤازرة إلى الساحل، تحوّلت حرب الشوارع بين طرفين مسلّحين إلى هجوم مسلّح من قبل  فصائل تابعة لوزارة الدفاع السورية على مدنيين عُزّل، ذنبهم الوحيد هو انتمائهم لطائفة المجرمين.

المجزرة بداخلنا

تحت شجرة كرمنتينا في البستان الملاصق لبيتنا، تربّعت امرأة سبعينية بجلابية سوداء من المخمل، وغطاء رأس أبيض. إلى جانبها وقف شاب في أوائل العشرينيات، يرصد أي حركة في المحيط لطلب المساعدة. راقبتُهم من شباك غرفتي لساعات. إذ لم أكن أملك سوى هذا الخيار لإلهاء دماغي عن شعور الخطر المرافق لأخبار "فيسبوك" عن عائلات تُباد بأكملها حولي. فالشوارع كانت خالية تمامًا، والحركة شبه مستحيلة خوفًا من قنّاص ما أو رصاصة طائشة.

تشجّعتُ أخيرًا مع والدتي على المشي خطوات عدّة خارج المنزل للتحدث مع المرأة، فأخبرتنا أنها هربت مع حفيدها عبر الأحراش لحمايته من الفصائل التي دخلت قريتهم، ووجدا نفسيهما هنا بعد مشي طويل. 

لم أشأ أن أخبرها أن الموت على بعد خطوات منها ومن حفيدها، وأنه يتربّص بأي شاب من الطائفة العلوية في الشارع المجاور. ولم أخبرها أن رجال الحيّ وشبابه ضُربوا وأُهينوا قبل قتلهم، وأن بعضهم نجا صدفة ربطًا بمزاج القاتل. 

لم يكن البحر يومًا مجرد ماء، بل كان دائمًا مرآة لما يحدث على اليابسة

ولأن لغة جسد الشاب بدت متماسكة برغم الخوف، وبسبب عزة النفس المختبئة خلف عينيه، خشيت إخباره أن عليه أن يعوي أيضًا قبل أن يموت في حال تحرّك نحو الشارع الخاطئ، فاكتفيت بتلبية طلبه الوحيد، وإعطائه هاتفي ليكلم والده ويبلغه عن مكانهما.

"عوّي ولاك"، قال المسلّح لجارنا الخمسيني وأبنائه الثلاثة أثناء انبطاحهم على الأرض. وعندما حاول الرجل إنقاذ حياته وحياة أبنائه عبر استعطاف المسلّح، قائلًا "إننا جميعًا سوريون وإخوة"، أجابه: "ما بشرّفني يكون خيّي علوي".

تُعيد جملة "عوّي ولاك" إلى ذاكرتي عبارة سمعتها في سياق مختلف، لكنّه يحمل الصدى نفسه: "طمشو وجيبو"، التي كان يقولها الضباط والمحققون في سجن صيدنايا للسجّانين قبيل جلسة تعذيب المُعتقلين. 

حكى لنا والدي بعد خروجه من صيدنايا قصة طفل وُلد في السجن ولم يكن يرى الضوء سوى من ثقوب الجدار. وبعدما كبر وتعلم الكلام، كانت جملته الأولى مشوّهة بالعنف: "طمثو وذيبو"، وأصبح يستخدمها في لعبه اليومي وحيدًا في أروقة السجن في حال سمح السجانون له بالخروج من الزنزانة لدقائق. 

بين هاتين الجملتين، أجيال تربّت على العنف وكره الآخر. أفكّر بقائل كل منهما، وبذاك الطفل الذي أصبح اليوم ثلاثينيًا، هل ما زالت هذه الكلمات ترنّ في رأسه؟ هل أصبح بدوره جلادًا أو قاتلًا طائفيًا؟ أم أنه يقاوم الصوت الذي زرعه نظام الأسد فيه منذ طفولته؟

البحر أمامنا

"الموت ولا العيش بخوف"، تقول والدتي أثناء نقاشها مع أخي المغترب فكرة سفرنا إلى خارج البلاد. أمي التي قضت كل حياتها في سوريا، وأفنت عمرها بالعمل لتأمين حياتها والمنزل الذي نعيش فيه الآن، لم تمانع السفر وترك كل شيء خلفها، ولو عن طريق البحر، للتحرّر من هذا الخوف الذي أصبح ثقيلًا حد التعب بعد المجزرة. 

بالنسبة لي، أنا التي تركت مدنًا عدّة في الخارج للعودة إلى سوريا مرة أخرى ومحاولة الاستقرار فيها بعدما مزّقتني الغربة، ازداد الشعور بالغربة داخل البلاد، حتى أصبحتُ لا أعرفها ولا أعرف نفسي فيها. 

في هذا الساحل، لم يكن البحر يومًا مجرد ماء. بل كان دائمًا مرآة لما يحدث على اليابسة. عندما تحتدم النزاعات، يستقبل البحر الجثث، ويكون مقبرة وحدًّا فاصلًا بين الذين ماتوا ومن ينتظر دوره.

لم يكن بحر الساحل السوري بعد المجزرة وجهة للهرب فحسب، بل كان فصلًا جديدًا من فصول الحرب، إذ حملت أمواجُه الدم والخوف والخذلان. وربما تحققّ ما قالته إحدى السوريات عن ضرورة رمي جثث السوريين الذي قضوا في مجزرة الساحل في البحر، "حتى لا تجوع الأسماك في عهد بني أمية". 

يقول لنا أمثال تلك المرأة كلما انتقدنا الظلم في سوريا: "اللي ما عاجبو يطلع".

فهل سيكون البحر مرة أخرى فرصة النجاة الوحيدة للسوريين؟ هل يملك البحر ذاكرة؟ هل سيتذكّر وجوه من ماتوا أو غرقوا فيه دون ذنب؟ وهل يغسل الملح الخطايا؟

"كانوا مفكريني ملبوسة من جنّي": الاكتئاب عند اللاجئين السوريين

برغم دور خدمات الصحة النفسية في التخفيف من حدة أعراض الاكتئاب على المدى القصير، فإن المصابين به من اللاجئ...

سارة خازم
لاجئون بلا مسكن

في الفترة الأخيرة، تعالت أصوات حقوقيين في لبنان مطالبة بوقف الإجراءات التعسفية بحق اللاجئين السوريين في م...

سارة خازم
الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في تجمّعات اللاجئين السوريين

تواجه اللاجئات معوقات مادية وقانونية وثقافية تتعلق بالوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإجهاض، بالإضافة لنقص ال...

سارة خازم

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة