نزع المقاومة من الذاكرة
كيف تتضافر الخوارزميات وشركات الداتا العملاقة والسوشال ميديا مع الضغوط في ميادين العلوم والأكاديميا لقمع الخطاب المقاوم للإبادة في غزة ولإسرائيل بشكل عام؟ تقدّم هذه المقالة أمثلة على ذلك.
كيف تتضافر الخوارزميات وشركات الداتا العملاقة والسوشال ميديا مع الضغوط في ميادين العلوم والأكاديميا لقمع الخطاب المقاوم للإبادة في غزة ولإسرائيل بشكل عام؟ تقدّم هذه المقالة أمثلة على ذلك.
قبل فترة، أجريتُ مع زملاء لي تجربة صغيرة على الصفحات الخاصة بمنصة "أوان" على مواقع التواصل الاجتماعي. في الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الأمين العام لـ"حزب الله"، السيد حسن نصرالله، أنتجنا فيديو قصير يستعرض مقتطفات من ستة خطابات له، وتقصّدنا أن نقصر اختياراتنا على ما يتّصل منها بصراع "حزب الله" مع إسرائيل. أي أننا استثنينا خطاباته المتعلّقة بقضايا لبنانية أو بالحرب في سوريا، وأوضحنا نطاقنا المقصود في عنوان الفيديو ومقدّمته.
أظهرت الخطابات المذكورة محطات بارزة في مسيرة كل من نصرالله و"حزب الله"؛ إذ تناول نصرالله في أحدها سلفه السيد عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل عام 1992، ونعى في آخر ابنه هادي الذي قضى في عملية عسكرية ضد الاحتلال عام 1997، واحتفى في ثالث مع جموع غفيرة بتحرير جنوب لبنان في مدينة بنت جبيل عام 2000، وأعلن في رابع قصف بارجة "ساعر" في حرب تموز/يوليو 2006، ووجّه في خامس رسالة إلى المقاتلين أثناء حرب تموز أيضًا، وقال في سادسٍ آخرَ كلماته بعد عملية "البيجر" الشهيرة في أيلول/سبتمبر 2024.
لم يُسمح بنشر الفيديو على "تيك توك" لـ"عدم مراعاته المعايير"، برغم أنه توثيقي وذو "قيمة خبرية" نوعًا ما، وفُرضت قيود على صفحة المنصة. لكنه حصد، خلال ساعات قليلة، أكثر من مئة ألف مشاهدة وعشرة آلاف تفاعل على منصة "إنستغرام"، ونصف هذا العدد تقريبًا على "فيسبوك"، وكان من بين المتفاعلين "مؤثرون" عرب في مجالات شتى لا صلة لها بالسياسة، بينها الطبخ والأزياء وخلافها. وفيما كان الفيديو ينتشر على نطاق واسع، حذفه كل من "إنستغرام" و"فيسبوك" برغم توثيق الصفحة كمنصة إعلامية واستيفائها الشروط التي وضعتها شركة "ميتا" المالكة للتطبيقين.
كان مثيرًا للاهتمام أننا، قبل إنتاج الفيديو، لم نعثر على اثنين من الخطابات المذكورة بصيغتها الخام في أي مكان على الإنترنت، ما اضطرّنا إلى معالجة الصوت وحذف الموسيقى أو الأناشيد المرافقة للخطابين قبل إدراجهما في المحتوى المعدّ للنشر. المشكلة، إذًا، لم تكُن في القيود الخوارزمية التي تتيح حذف المحتوى الإعلامي التوثيقي عن مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل في ندرة المواد الأرشيفية الخام المتاحة عبر الإنترنت أصلًا. أي أن أرشيفًا مصورًا كهذا، برغم أهميته الشارحة لمسارٍ تاريخيٍ طويلٍ ومعقّد من عمل المقاومة ضد إسرائيل، موجود في العتم. صعبٌ الاستحصال عليه، وصعبٌ تداوله عبر الوسائط التي يستخدمها جيل زيد (Gen Z) أكثر من غيرها. وكلا الأمرين ـــ غياب الأرشفة والقيود على التداول ـــ عاملان يسهّلان نزع شرعيّة هذا الشكل من المقاومة، حتّى من الذاكرة.
في الذكرى السنوية الثانية لعملية "طوفان الأقصى" وبدء الحرب على غزة، نشر مركز الأبحاث Cybersecurity for Democracy تقريرًا يفيد بأن المحتوى المؤيد للفلسطينيين على "تيك توك" يزيد عن ذاك المؤيد لإسرائيل بـ 17 ضعفًا. وقد جاء ذلك برغم التشدّد النسبي الذي بدأت "تيك توك" تظهره حيال المحتوى "العنيف" أو "المؤلم"، وهو ما يقيّد، عمليًا، نشر بعض ما يتّصل بتبعات الحرب على غزة.
يستخدم مشروع "فكّ شيفرة معاداة السامية" في "الجامعة التقنية ببرلين" خوارزميات الذكاء الاصطناعي للتعرّف على التصريحات "المعادية للسامية"
تفسّر هذه الفجوة حماسة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للصفقة التي فُرضت عمليًا على شركة "بايت دانس" الصينية، مالكة "تيك توك"، والتي ستباع بموجبها عمليات التطبيق في الولايات المتحدة لمستثمرين أميركيين بالدرجة الأساس، بما يجعل إعادة تشكيل خوارزميات "تيك توك" ممكنة، علمًا أن واحدة من أبرز الذين ساهموا بإبرام الصفقة (سافرا كاتز، نائبة الرئيس التنفيذي لشركة Oracle)، أظهرت في السابق تأييدًا حماسيًا لإسرائيل وقلقًا بيّنًا من نمو حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)في الجامعات الأميركية. وقد وصف نتنياهو الاستحواذ على "تيك توك" بـ"عملية الشراء الأكثر أهمية حاليًا"، واعتبر أن التركيز يجب أيضًا أن ينصب على منصة X، قائلًا إن مالك المنصة، إيلان ماسك، "ليس عدوًا، بل صديق".
تتكامل الجهود الإسرائيلية الهادفة إلى السيطرة على الخطاب المتفلّت على "تيك توك" وX مع "الخدمات" التي تقدمها شركة "ميتا" ـــ مالكة "فيسبوك" و"إنستغرام" ـــ لناحية تقييدها الحسابات المؤيدة للفلسطينيين والمنتقدة لإسرائيل، وفق ما بيّنته وثيقة نشرها موقع "دروب سايت". إذ أظهرت الوثيقة أن الشركة وافقت على نحو 94% من طلبات إزالة المحتوى منذ 7 أكتوبر 2023، وأن إسرائيل كانت الأكثر طلبًا لإزالة المنشورات والحسابات على منصّات "ميتا" في العالم.
وسبق لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن أفادت بأن "فيسبوك" قام بتقييد المحتوى المؤيد لفلسطين، بشكل منهجي، في الأعوام 2021 و2023 و2024، كما أظهر تحقيق أجرته "بي بي سي" تقييد "فيسبوك" قدرة وسائل إعلام فلسطينية على الوصول إلى جمهورها، خلال حرب الإبادة على غزة على وجه التحديد.
في المقابل، حذفت منصة "يوتيوب"، في تشرين الأول/أكتوبر 2025، أكثر من 700 فيديو تتضمن ساعات من اللقطات التي توثّق انتهاكات وجرائم حرب إسرائيلية في غزة والضفة الغربية، وأغلقت حسابات المنظمات الحقوقية الفلسطينية التي نشرت هذه الفيديوهات ("الحق" و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" و"مركز الميزان لحقوق الإنسان")، تماشيًا مع العقوبات الأميركية عليها بسبب عملها مع المحكمة الجنائية الدولية لتوثيق جرائم الحرب.
وفيما أفادت تقارير بأن الإدارة الأميركية تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتتبّع المتعاطفين مع فلسطين على السوشال ميديا، وأن العقوبات المفروضة عليهم قد تشمل إلغاء تأشيرات الطلاب والترحيل، أظهرت تقارير أخرى استخدام الحكومة الألمانية أدوات مشابهة لحجب منشورات مؤيدة للفلسطينيين أو لوصمها بـ"معاداة السامية". إذ تستعين وسائل إعلام ألمانية عامة، في كثير من الأحيان، بـ"خبراء" معاداة السامية وتقدّمهم على شكل أكاديميين أو مفوضين حكوميين متخصّصين، لـ"شرعنة" عملية الحجب على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن بين المشاريع التي يعمل فيها هؤلاء الخبراء، مثلًا، مشروع "فكّ شيفرة معاداة السامية" (Decoding Antisemitism( في "الجامعة التقنية ببرلين"، والذي يستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي للتعرّف على التصريحات "المعادية للسامية" في التعليقات على الإنترنت حتى يصبح ممكنًا إزالتها بـ"كفاءة ودقّة أكبر"، علمًا أن بعض ما يُدرج في خانة "معاداة السامية" التي تُدرَّب عليها الخوارزميات يتعلّق بتشبيه إسرائيل بـ"النازية" أو ربطها بـ"الفاشية" أو وصفها بـ"الدولة العنصرية" أو "الإرهابية" أو إنكار حقّها في الوجود أو دعم حركة مقاطعة إسرائيل (BDS).
على النحو الذي تُوظَّف فيه الخوارزميات وشركات الداتا العملاقة والسوشال ميديا لقمع الخطاب المقاوم للإبادة في غزة، تُخصّص جهود كبيرة في الصروح الأكاديمية للقيام بالمثل. ففي شباط/فبراير الماضي (2025)، مثلًا، كان يُفترض أن تُلقي المقررة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيزي، محاضرة في جامعة برلين الحرة. إلا أن الجامعة ألغت المحاضرة بعد تعرّضها لضغوط من السفير الإسرائيلي في برلين وعمدة المدينة المحافظ، اللذين طالبا "بإلغاء الفعالية فورًا وتوجيه رسالة واضحة ضد معاداة السامية".
وفي أواخر عام 2023، أي في الفترة التي بدأت فيها الحرب على غزة تتحوّل إلى إبادة، قرّر مجلس إدارة مجلة Columbia Law Review إغلاق الموقع الإلكتروني الخاص بالمجلة الأكاديمية المحكّمة، إثر رفض محرّريها الامتناع عن نشر ورقة ربيع إغبارية (وهو محامٍ فلسطيني كان ينهي دراسة الدكتوراه في جامعة "هارفرد") التي يعتبر فيها أن مصطلح "النكبة" يشكّل إطارًا قانونيًا شارحًا للأشكال المختلفة من الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين على مدى عقود، شأنها شأن مصطلحات أخرى لها تعريفاتها الخاصة، كـ"الأبارتهايد" أو "الإبادة الجماعية". يومها، أطلق إغبارية وصف "إنكار النكبة" ـــ Nakba Denial ـــ على مساعي تعطيل الإنتاج البحثي الخاصة بـ"النكبة" الفلسطينية.
ليس العلم "أكبر قوّة للمساواة في العالم"، ولا الأكاديميا، فالاثنان، كما الإنجازات المتصلة بهما، يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالموارد والفرص المتاحة
وفي السياق نفسه، ألغت "جامعة مينيسوتا" عرض عمل كانت قد قدّمته للباحث الأميركي ـــ الإسرائيلي راز سيغال بسبب وصفه الحرب الإسرائيلية على غزة بـ"حالة إبادة جماعية نموذجية"، علمًا أن سيغال كان سيتولّى منصبًا مرموقًا (وحسّاسًا في الوقت عينه) في الجامعة، هو رئاسة مركز "دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية".
بالإمكان أن نقارن حالات كهذه بأخرى يكون فيها المعنيون ورثة ضحايا، لكن متصالحين مع جلّاديهم ـــ أو جلّادي آبائهم. البروفيسور عمر ياغي الذي مَنَحته "الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم" بالشراكة مع عالمَين آخرَين جائزة "نوبل للكيمياء"، مثال مُفيد في هذا السياق. فهو أميركي من أصول فلسطينية، عاش طفولته في مخيّم للاجئين في الأردن، ودرس في الولايات المتحدة حيث تفوّق لاحقًا في مجاله البحثي، وكافأته مؤسسة إسرائيلية عبر منحه "جائزة وولف" (Wolf Prize) عن الكيمياء التي تبلغ قيمتها 100 ألف دولار تقديرًا لإنجازه العلمي.
تصف "مؤسسة وولف" جائزتها الدولية بأنها "تُمنح في إسرائيل للعلماء والفنّانين لإنجازاتهم في مصلحة البشرية والعلاقات الوديّة بين الناس". أما "حركة مقاطعة إسرائيل" (BDS)، فتضع الجائزة في إطار رغبة إسرائيل في "ترسيخ مكانتها في الساحة الأكاديمية والثقافية العالمية". وتضيف (في بيان نشرته عام 2013) أن "آلة الترويج الإسرائيلية تنطلق بكامل طاقتها في مثل هذه المناسبات، لمنح علماء وفنانين وكتابًا دوليين شرفًا مُريبًا، يتمثل في نيل جوائز من رئيس الدولة، ودرجات دكتوراه فخرية من جامعات إسرائيلية، أو إلقاء كلمات رئيسية في مؤتمرات مهنية". وفي سياق نفي صفة "الاستقلال" عنها، تلفت الحركة إلى أن "مُراقب الدولة" في إسرائيل يُشرف على جميع أنشطة المؤسّسة، فيما يُعتبر وزير التربية والتعليم الإسرائيلي تلقائيًا رئيسًا لمجلس إدارة "صندوق وولف".
ليس صعبًا التحقّق، على أي حال، من علاقة "جائزة وولف" بالمؤسسات الرسمية الإسرائيلية. كما أن رفض الجائزة ليس فعلًا مستحيلًا. فقرار كهذا يتّصل، ببساطة، بإرادة متلقّيها. إذ سبق للمهندسة المعمارية الباكستانية ياسمين لاري، مثلًا، أن امتنعت عن قبول الجائزة في آذار/مارس الماضي بسبب استمرار الإبادة الجماعية في غزة، وأعربت عن موقفها ذاك بعبارة صريحة: "قبول الجائزة كان أمرًا غير وارد"، قالت لاري في إحدى المقابلات.
غير أن قصّة ياغي مثيرة بالمقارنة مع قصص الآخرين. فهو من أصول لاجئة. فلسطيني، بل غزّاوي، تمكّن من صعود السلّم ولم يمنعه من ذلك ما قاسته عائلته المهجّرة عام 1948. وفي المقابلة التي أُجريت معه لتبليغه بنيله جائزة "نوبل"، قال "كنّا أكثر من عشرة أفراد نعيش في غرفة واحدة. نتشاركها مع الماشية التي نربّيها. وُلدتُ لعائلة لاجئين، وأهلي بالكاد كانوا يعرفون القراءة والكتابة". لكنّه أضاف، مستدركًا، أنّ "العِلم هو أكبر قوّة للمساواة في العالم". وبهذا، نزع ياغي عن حالته كلّ المعوقات البنيويّة التي ولّدها لجوؤه والجهة المتسبّبة بهذا اللجوء.
والحال أن العِلم، في الواقع، ليس "أكبر قوّة للمساواة في العالم"، ولا الأكاديميا. فالاثنان، كما الإنجازات المتصلة بهما، يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالموارد والفرص المتاحة، وكذلك بالخيارات والمواقف السياسية والأخلاقية التي تفتح أبوابًا أو تغلقها. لا يمنع هذا وجود استثناءات، لكنّه يحصرها في هذه الخانة: خانة الاستثناءات فحسب.
كان يمكن لقصة البروفيسور عمر أن تُقدَّم بوصفها مقاومة للظروف الخاصّة (والعامّة) التي أوجدها طرفٌ مُستعمِر. ربما كان ذلك سيُغلق أبوابًا في وجهه، وهو ما يدركه على الأغلب. لكنّ قوله إنه "يتشرّف كثيرًا باختياره" للجائزة الإسرائيلية قبل سنوات، كان تسليمًا بنزع أي فعلٍ مقاومٍ للظروف التي رافقت نشأته من ذاكرته الفردية. وهذا واحد من أهداف منحه الجائزة أساسًا، وهو يشبه ما يُراد من الخوارزميات والقيود على الداتا وآليات الإنتاج المعرفي أن تقوم به: نزع مفهوم المقاومة وأرشيفها.. من الذاكرة الجمعيّة أيضًا.
تُنشر هذه المقالة بالتزامن في "أوان" ومجلة "الجنوب" التي تُصدرها "دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرّر المعرفي"