التاريخ المثقوب: علاقة روسيا بـ"سوريا الأمويّة"
متى بدأت العلاقة "التاريخية" بين روسيا وسوريا بالتّشكل، وكيف تقلّبت؟ هل كانت "تاريخية" في زمن الأسدَين؟ وهل كانت كذلك قبل حكم الأسد الأب؟
متى بدأت العلاقة "التاريخية" بين روسيا وسوريا بالتّشكل، وكيف تقلّبت؟ هل كانت "تاريخية" في زمن الأسدَين؟ وهل كانت كذلك قبل حكم الأسد الأب؟
يحلو لأنصار الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وصف الدولة التي يقودها، خلفًا للرئيس السابق بشار الأسد، بـ"الدولة الأمويّة". تنطوي هذه الاستعادة على منطق جذّاب. فهي تقوم على استحضار تاريخ سحيق يتقلّص معه حضور الدولة السورية الحديثة إلى حدودٍ دنيا، ويكادُ معها التاريخ السوري يبدأ منذ لحظة إسقاط نظام الأسد. أما الأزمنة الفاصلة بين الدولة الأمويّة قبل 13 قرنًا والدولة النيو ــــ أمويّة اليوم فتُصبح تفصيلًا، بل مجرّد وصلٍ بين مرحلتين مَجيدتين.
تتشابه الرغبة هذه بابتلاع التاريخ مع ما سبقَ لحافظ الأسد أن فعل، لا لجهة اختصاره الدولة السورية بشخصه فحسب، بل أيضًا لجهة استناده إلى الماضي نفسه في عمليّة تشكيل صورته في أذهان مجموع السوريين (وغير السوريين). فالأسد الأب كان بالغ الاهتمام بإظهار انتسابه إلى "ماضٍ أمويّ" أيضًا، برغم خلفيته "العلويّة"، بل بسببٍ منها على الأغلب، ورغبةً منه بتجاوز الحواجز المعنويّة التي تفرضها هذه الخلفية عليه.
وفي هذا السياق يورد المؤرخ الفرنسي المختصّ بالشأن السوري جان بيار فيليو أن الأسد "بنى مشروعًا سُلاليًا تحت راية حزب البعث (...) على غرار ما كان الأمر بالنسبة لسلالة الأمويين". أما عبد الحليم خدام، نائب الأسد الأب والمنشقّ لاحقًا عن ابنه بشار، فيجيب ردًا على سؤال حول "النموذج التاريخي الذي كان حافظ الأسد يتمثل شخصيته" بالقول إنه "معاوية بن أبي سفيان، فعندما تمّ بناء مجمع المؤتمرات سُمّي مجمع الأمويين، وكان حافظ الأسد يتحدث كثيرًا عن معاوية". ويتفّق معه على ذلك وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، الذي يقول في سلسلة مقابلات أجرتها معه جريدة "القبس" الكويتية قبل سنوات، إن حافظ الأسد يبدأ "في اجتماعاته التي قد تدوم سبع ساعات بالحديث عن الأمويين" وإنه "يستعيد تاريخ سوريا من تلك اللحظة".
غير أن سعي النظام الانتقالي في سوريا اليوم إلى إعادة إنتاج بعض أوجه النظام السابق ليست محصورة بـ"النسب التاريخي" الأمويّ فحسب، بل تنطبق على جوانب أخرى تتجاوز الحقول الرمزية وتطال ميادين عملية. ومن الأمثلة على ذلك ما يتّصل بالعلاقة بين سوريا وروسيا التي وصفها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بـ"التاريخية" بُعيد زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع الأخيرة إلى موسكو. وهذا، في الحقيقة، أمرٌ مفهوم. إذ حتى لو أراد النظام الجديد إحداث قطعية نهائية مع سلفه، فإن التاريخ ليس لعبة "ليغو" قابلة للفكّ والتركيب كيفما اتفق. بيد أن المشكلة تكمن في رغبة النظام الجديد بتجاوز التاريخ والإقرار بعدم القدرة على ذلك في الوقت عينه. المشكلة في غياب الحد الأدنى من الاتساق، وهو غياب يبدو ملمحًا أساسيًا من ملامح النظام الجديد.
لكن متى بدأت هذه العلاقة "التاريخية" بين روسيا وسوريا بالتّشكل، وكيف تقلّبت؟ هل كانت "تاريخية" في زمن الأسدَين؟ وهل كانت كذلك قبل حكم الأسد الأب؟
حين ظهرت الدولة الروسية المستقلة في سبعينيات القرن الخامس عشر، بعد مسار تاريخي استمرّ قرونًا من الزمن، كان الجانب الديني في الهوية الروسية، ممثلًا بالكنيسة الأرثوذكسية، حاضرًا بقوّة. وكان هذا الحضور بارزًا على نحو خاص في علاقة روسيا بالعالم الإسلامي والشرق الأوسط. إذ إن هوية الإمبراطورية الروسية، وفق المؤرخ البريطاني المختصّ بالشأن الروسي أورلاندو فيجيس (Orlando Figes)، " تم تحديدها عمليًا من خلال الصراع بين المستوطنين المسيحيين والبدو التتار [المسلمين] في السهوب الأوراسية". لاحقًا، خاضت روسيا حروبًا مع الإمبراطورية العثمانية، بينها واحدة أوصلتها إلى احتلال بيروت التي كانت حصنًا عثمانيًا على الساحل السوري عام 1770.
غير أن المقصود بالعلاقة "التاريخية" بين سوريا وروسيا لا يستوجب التنقيب في الماضي السابق لولادة الدولة السورية بالطبع. والعلاقة بين الدولتين ــــ وإن كان البعض يُعيدها إلى مراسلاتِ عام 1919 السريّة بين إبراهيم هنانو الثائر على الفرنسيين وفلاديمير لينين مؤسّس الاتحاد السوفييتي ــــ وُلدت في حقيقة الأمر عام 1955، يوم كانت سوريا أول دولة عربية تستلم أسلحة سوفييتية، قبل أن تتبع ذلك بعام (أي سنة 1956) أوّلُ زيارة لرئيس سوري إلى موسكو، قام بها شكري القوتلي.
مثّل النصف الأول من السبعينيات ذروة التعاون العسكري بين دمشق وموسكو، وقد ارتبط هذا التعاون ارتباطًا وثيقًا بحرب 1973
جذور العلاقة، إذًا، تعود إلى ما قبل حافظ الأسد. لكنّ مطلقها، أي القوتلي، ينتمي بدوره إلى تاريخ سوري تمّ "حذفه" أو تجاوزه قبل أسابيع قليلة من اليوم مع إلغاء "عيد الشهداء" (الذين أعدمهم العثمانيون) في سوريا. فالقوتلي كان ناشطًا في جمعية "العربية الفتاة" المناهضة للدولة العثمانية، وصدر عليه حُكم بالإعدام عام 1916 قبل أن يُسقط عنه. أي أنّ المسار الذي أوصله إلى رئاسة الجمهورية ومن ثمّ إلى تأسيس العلاقة مع موسكو (وكان يمكن أن يوصله إلى المشنقة)، لم يعُد معترفًا بأهميته في الرواية الرسميّة اليوم. ليس هذا فحسب، بل إنّ القوتلي الذي اعتبره السوفييت حليفًا محتملًا بعد الإطاحة بسلفه أديب الشيشكلي المقرّب من الغرب، فتح أبوابه لموسكو في ظلّ أزمة سورية ـــ تركية كان يُمكن أن ينجُم عنها غزوٌ للأراضي السورية عام 1955، وقد شكّلت الأزمةُ مع أنقرة دافعًا مُهمًا لتأسيس العلاقة تلك.
بين عهد القوتلي ووصول "البعث" إلى الحكم بقيادة صلاح جديد عام 1966، تذبذت العلاقة بين دمشق وموسكو برغم متانتها بشكل عام. إذ ساءت أثناء الوحدة مع مصر (1958 ــــ 1961) بسبب القيود التي وضعها عبدالناصر على الشيوعيين (والتي تجاوزت قيود "البعثيين" عليهم)، ثمّ، مع انقلاب عام 1966 ووصول الجناح اليساري لـ"البعث" إلى السلطة بقيادة صلاح جديد، تحسّنت قبل أن تزداد رسوخًا مع زيادة اعتماد نظام "البعث" على موسكو إثر هزيمة 1967 أمام إسرائيل.
وقد شكّل الاعتماد على موسكو مصدر انقسام داخل القيادة السورية التي كانت تشهد تنافسًا بين فصيل يوصف بـ"الراديكالي" (ويستلهم النموذج السوفييتي) بقيادة صلاح جديد وآخر يوصف بـ"المعتدل" بقيادة حافظ الأسد. حتى أن الأسد انتقد آنذاك "التدخل السوفييتي" في الشؤون السورية علنًا، وحين تواجه الرجلان، دعم السوفييت جديد لكنهم تبنّوا نهجًا محايدًا حيال الأسد بعد نجاحه في تنحية خصمه والوصول إلى السلطة (مثيرٌ للانتباه هذا التفصيل إن قارنّاه بالسلوك الروسي اليوم).
وبرغم ما سبق، شهدت الأعوام اللاحقة لانقلاب الأسد تقاربًا لافتًا بين موسكو ودمشق. وقد برز ذلك على نحو خاص في مجال التعاون العسكري قُبيل حرب أكتوبر 1973 وخلالها وبعدها مباشرة. إذ تُظهر بيانات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" أن قيمة واردات السلاح السورية من روسيا زادت من 562 مليون دولار (عام 1971) إلى 1.4 مليار دولار (عام 1972)، ثمّ بلغت 3.327 مليارات دولار (عام 1973) و3.702 مليارات دولار (عام 1974).
هذه السنوات مثّلت ـــ "تاريخيًا" ـــ ذروة التعاون العسكري بين دمشق وموسكو، وقد ارتبط هذا التعاون ارتباطًا وثيقًا بحرب 1973، أي التاريخ الذي حُذف ـــ للمفارقة أيضًا ـــ من جدول الأعياد الرسمية السورية الجديدة قبل أيام.
في السبعينيات زادت أهمية سوريا كحليف للاتحاد السوفييتي مع توتّر العلاقات بين موسكو والقاهرة، أولًا إثر طرد الرئيس المصري أنور السادات الخبراء السوفييت قُبيل حرب أكتوبر (عام 1972) ثمّ بعد إلغائة "معاهدة الصداقة" بين الجانبين عام 1976. لكنّ دمشق، حتى تلك اللحظة، ظلّت تحافط على مسافة من موسكو تسمح لها بالمناورة. إذ تُظهر وثيقة من أرشيف "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" (CIA)، مثلًا، تقييمًا لهذه العلاقات مفاده أنها "لم تُمكّن السوفييت من السيطرة على سوريا (...) فبرغم سنوات من الإلحاح، فشلت موسكو في إقناع سوريا بتوقيع معاهدة صداقة كتلك السارية مع العراق، وكانت حتى وقت قريب سارية مع مصر". بيد أنّ الوثيقة أشارت إلى التحسّن المطّرد لهذه العلاقات، وهو ما تجلّى من خلال استخدام البحرية السوفيتية الموانئ السورية في طرطوس واللاذقية بعد حرب 1973، وتقديم السوفييت مساعدات عسكرية بقيمة 2.5 مليار دولار لسوريا منذ عام 1955، 90% منها بعد حرب 1967.
المعضلة أن هذا التاريخ، بمحطاته الفاصلة، يُراد حذفه في السرديّة والخطاب الهادفين إلى صياغة عقل جمعي جديد في سوريا
إثر اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ودخول الجيش السوري بعد ذلك بعام في مواجهة مع "منظمة التحرير الفلسطينية" بقيادة عرفات وحلفائه من قوى اليسار في لبنان، تراجعت علاقة دمشق بموسكو. ومع هذا التراجع جاء دور حافظ الأسد (بعد السادات) لإخراج نصف المستشارين العسكريين السوفييت من سوريا (وكانوا آنذاك أكثر عددًا من أي مكان آخر في العالم). ثمّ، في منتصف 1976، أي في ذروة التباعد بين دمشق وموسكو في الملف اللبناني، زار الأسد باريس لأول مرة خلال رئاسته وأعلنت سوريا نيتها شراء أسلحة فرنسية، في ما بدا رسالة واضحة منها تفيد برغبتها بتخفيف الاعتماد على موسكو.
لكنّ هذا التردّي لم يدُم طويلًا. إذ وقّع الجانبان عام 1980 معاهدة صداقة وتعاون (علمًا أنهما اختلفا لاحقًا حول تفسير ما نصّت عليه من التزامات)، وعام 1982 أبرما صفقة تسلّح نفّذ بموجبها الرئيس السوفييتي أندروبوف ما تعهّد به سلفه بريجنيف (خلال زيارة الأسد إلى موسكو منتصف العام نفسه) لجهة تسليم وحدات دفاع جوي سوفييتية من طراز سام – 5 إلى سوريا. كانت تلك المرّة الأولى التي تُنشر فيها مثل هذه الصواريخ خارج الاتحاد السوفييتي، وقد ترافقت الصفقة مع تحذيرات سوفيتية لإسرائيل يومذاك من مغبة القيام بأي عمل عسكري ضد سوريا.
وبرغم بلوغ الشراكة السوفيتية ــــ السورية أعلى مستوياتها عامي 1983ــــ 1984، إلا أن نقاط خلاف مهمة ظلّت عالقة بين الجانبين، أبرزها الخلاف بين سوريا و"منظمة التحرير"، والموقف السوري في الحرب العراقية ـــ الإيرانية (كانت موسكو تضغط من أجل تحقيق مصالحة سورية ــــ عراقية).
لاحقًا، ومع الانفتاح الذي أبداه الرئيس السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف نحو إسرائيل في النصف الثاني من الثمانينيات، مالت العلاقة بين الجانبين مجددًا إلى الفتور، خصوصًا بعد تصريح غورباتشوف بأن هدف سوريا المتمثل في التكافؤ الاستراتيجي مع إسرائيل غيرُ واقعي، ودعوته دمشق إلى تحقيق ما تصبو إليه من خلال تسوية سلمية.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانكفاء روسيا على نفسها في ظلّ أزماتها السياسية والاقتصادية الطاحنة، تراجعت قدرة دمشق على التعويل عليها كظهير دولي. لكنّ الدور الروسي عاد إلى النمو مطلع الألفية، ومعه عاد البحث عن أدوار خارج الحدود. بيد أن رحلة الأسد الابن في السلطة لم تطُل دون تعثّر. فمع تآكل شرعية النظام ومعها بنيته وتقلّص الجغرافيا السورية الآمنة بدءًا من العام 2012، حاولت موسكو فرض نفسها كضابط إيقاع داخل سوريا ومع دول الجوار إثر قلبها الموازين العسكرية على الأرض في مصلحة الأسد. لكنّ ضعف "المردود الاستثماري" الناجم عن دعم الأسد الابن ظهر في نهاية المطاف، ومعه ظهر ترهّل نظامه وصعوبة الرهان على استدامته، وجاءت التحوّلات الإقليمية الجارفة التي أطلقت شرارتها عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية التالية لها لتقلب دفّة الميزان وتُنهي عهد بشار الأسد في غضون أيام.
هذه لمحة شديدة الاختصار لـ"تاريخٍ" من العلاقات شديدة التعقيد بين دمشق وموسكو. وهو "تاريخ" يُحال إليه في سياق "شرح" وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لطبيعة العلاقات بين سوريا وروسيا اليوم.
تكمن المعضلة في أن هذا التاريخ، بمحطاته الفاصلة (مثل "حرب أكتوبر" 73 واجتياح لبنان 82 اللذين شهدا ذروة التعاون بين دمشق وموسكو)، يُراد حذفه أو القفز عنه في السرديّة والخطاب الهادفين إلى صياغة عقل جمعي جديد في سوريا (حذف "حرب أكتوبر" من الأعياد الرسمية مثلًا)، من دون أن تكون هناك قدرة على تجاوز تبعات هذا "التاريخ" في الحاضر.
على هذا النحو، تقدّم السلطة الحالية التاريخ للجمهور بعد تشذيبه من منعطفاته البارزة، وتهرب منه عبر استعادة أمجاد أمويّة لا تتجاوز قيمتها الحقول الرمزية، علمًا أن نظام الأسد الأب نفسه سبق أن استعان بها في سياق صناعة "أسطورته التأسيسية".