في أرشيف الـrebranding السوري - أو إنتاج صورة مغايرة في الأذهان لما كانت عليه - يظهر بشار الأسد بعد تولّيه الرئاسة بوصفه وريثًا "إصلاحيًا مستنيرًا". صحيح أن الدستور عُدّل ليصبح على مقاسه ويتيح له تولّي المنصب في سنّ الرابعة والثلاثين، كما لو كان وثيقة كُتبت من أجله، إلا أن الصورة التي أُريد تصديرها آنذاك كانت تشي برغبة بـ"تبييض الصفحة"... و"تجاوز الماضي".
وبشار الأسد، بالمناسبة، كان يعطي وعودًا برّاقة على الدوام. وكان يُقال إن حوله جماعة "لا تسمح له بالعمل" (التعبير الشائع، في الحقيقة، كان أكثر وضوحًا وصراحة)، وعلى الدوام كانت تُدبَّج له المبررات. لكنه، في الحقيقة، كان مجرّد انعكاس لطبيعة "النظام"، ببنيته العصبويّة أولًا، وأدواته الأمنية الموروثة ثانيًا.
بعد أربعة وعشرين عامًا، يتحوّل الأسد إلى رئيس فار. نجد أنفسنا أمام محاولات جنينية، متدرّجة، لإعادة تأسيس الدولة. يُعيَّن جهاديون عرب وأجانب في الجيش، يُغفَل ملف العدالة الانتقالية، يُعاد النظر بالمناهج الدراسية، وهكذا دواليك.
هكذا، وجدنا أنفسنا أمام تعديلين - من جملة تعديلات - يكمّل الواحد منهما الآخر:
إعادة كتابة التاريخ البعيد في المناهج التربوية عن طريق حذف أحداث وشخصيات وأفكار، كما لو أنها لم تكن، وإعادة كتابة التاريخ القريب عن طريق حذف أرشيف "جبهة النصرة" من الوعي، كما لو أنه لم يكن.
وهكذا، رحنا نشهد انتقال سوريا، تدريجيًا، من عهد "الأبد" حيث احتلال المستقبل، إلى عهد الـ "لم يكن"، حيث الهيمنة على الماضي... تمهيدًا لاحتواء المستقبل. وبدا أن ما يحدث في سوريا يتجاوز الـrebranding بأشواط. فـ"الشرعية الثورية" في عهد ما بعد "النصرة" تنتج سورياها الخاصة. لكنّ عملية الإنتاج هذه ما زالت قيد التجريب، تراعي عوامل خارجية (بالدرجة الأساس) وداخلية (بدرجة أقل) لا حصر لها.
ما يتغافل عنه أنصار الإدارة الجديدة في دمشق هو أن أي انزياح عن الخط المرسوم لها يستتبع استعادة صورتها السابقة
تحاول الإدارة السورية الجديدة الإمساك بمفاصل الدولة كلّها، في ما يشبه السباق مع الزمن لمنع وقوع انقلاب أو فوضى ولتأكيد أهليتها لمفاوضة الخارج. تستفيد من أخطاء تجربتي "الإخوان" المصرية والليبية وثغرات كل منهما، وتعتمد على دعم تركي كبير يُتيحه الاتصال الجغرافي، وتزيد من مركزيّّته في الحسابات التركية أبعادٌ استراتيجية واستثمار سياسي ومالي وعسكري مديد. هذا في حسابات الحد الأدنى.
أما في الحد الأقصى، فيبدو عمل هذه الإدارة منصبًا على هندسة توازنات وصياغة وعي يمكّنها من تثبيت غلبتها واستدامة وجودها في السلطة. بهذا تكون سلطةً تأسيسيةً للجمهورية السورية الثالثة. تجربة أتاتوركية بالمقلوب؛ تأخذ الدولة من علمانية مشوّهة ونظام الأسد العليل و"ترتقي" بها إلى دولة إسلامية "نيو-أمويّة".
يمكن القول إن هاجس الانقلاب على السلطة السورية الناشئة (أو الفوضى) وجيه، خصوصًا إذا ما أدركنا أن أحمد الشرع، البارع في تسويق نفسه وإعادة إنتاج صورته بشكل مبهر، غير قادر على الإمساك بالأرض السورية بالكامل كما يفترض كثر. فالتباين في أداء الفصائل على الأرض بين منضبط ومتفلّت، وتكرار الحديث عن "تصرفات فردية" خلال المداهمات والاعتقالات، يشيان بذلك، علمًا أننا لا ندرك، حتى اللحظة، ما المقصود من هذه التجاوزات وما هو غير مقصود منها. ما يشي أيضًا بالتعقيدات على الأرض وجود إدارة كردية في الشمال وأخرى أقلّ تشكلًا في المناطق الدرزية في الجنوب.
عدد اللاعبين المحليين على الرقعة السورية كبير. كذلك عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين. وكل يوم يمرّ، يُبرز تنوّع أرخبيل تنظيمات المعارضة المسلحة التي يصعب أن يرضى الأقوياءُ فيها بأن تَطوي الحربُ صفحتَهم، من دون أن يُتاح لهم الحصول على بعض غنائم الدولة.
ما يلعب لصالح الشرع اليوم أن أحدًا من القوى الدولية لا يمتلك شهية مفتوحة للانخراط في نزاع سوري جديد. لكنّ الاحتمال هذا ستزداد فرصه إن مثّل حاجة قصوى للاعب خارجي (أو أكثر)، وكان استثمار هذا اللاعب (أو أكثر) فيه ذا مردود استراتيجي عالٍ وكلفة مادية محدودة.
يشرح هذا سبب توزيع الشرع رسائل التطمين في كل اتجاه، بدرجات متفاوتة طبعًا، وبغموض أحيانًا خصوصًا حين يتعلّق الأمر بإيران. يبدو، بوضوح، مصممًا على تعميم انطباع مفاده أنه يرغب بـ"تصفير المشكلات"، قبل أن يباشر بعملية بناء الدولة من الصفر. شيء من قبيل استعادة سياسة "العدالة والتنمية" التركي الحاكم، التي رعاها وزير الخارجية ثم رئيس الحكومة الأسبق والقيادي المستقيل من الحزب، أحمد داود أوغلو، قبل عشرين عامًا، يوم كان الانفتاح بين أنقرة ودمشق جاريًا على قدم وساق.
لكن برغم وجاهة هاجسي الانقلاب والفوضى، فإن استفراد "الهيئة " بالسلطة (مع إضافات بسيطة أو شكلية من فصائل أخرى)، في ظل عدم امتلاكها كادرًا بشريًا قادرًا على إدارة الدولة، من شأنه إما أن يعطّل إدارة الشرع بسبب كثرة طلبات الخارج، أو أن يُفقدها الاستقلالية والقدرة على خلق هوامش للحركة، ويُلحقها بالتالي بسياسات الأطراف الدولية الأقوى.
ما يتغافل عنه أنصار الإدارة الجديدة في دمشق هو أن أي انزياح عن الخط المرسوم لها (والخط هذا نتاج توازنات متغيّرة باستمرار) يستتبع استعادة صورتها السابقة على الـ rebranding، أي أرشيفها الزاخر بأعمال عنف وخطاب كراهية صريحين.
من هنا يمكن القول إن مصلحة سوريا وقرارها المستقل يستوجبان التخفّف من عبء ماضي الإدارة الجديدة، متمثلًا بـ"جبهة النصرة" وما تبعها من هيئاتٍ، لها ممارسات عنف ممنهجة داخل إدلب وخارجها.
هذا سبب إضافي، وجيه جدًا، للحاجة إلى أوسع تمثيل ممكن للسوريين بدلًا من فرض منطق الغلبة، حتى لا يظل سيف هذا الماضي مصلتًا، وتنسحب تبعات ذلك على السوريين أجمعين.