ما لم تقله "الروايات الكاملة" حول سقوط نظام الرئيس الفار

ثمة معلومات تؤشر إلى أن استسلام النظام السابق في حلب لم يكن قرارًا اتُّخذ خلال ساعات، ولا علاقة له بموازين القوى العسكريّة. هذه أبرز النواقص في "الروايات الكاملة" التي قُدّمت حتى الآن.

تتالت خلال الأسبوع الأخير "الروايات الكاملة" لسقوط النظام السوري، وفرار بشار الأسد إلى موسكو. برغم تباين بعض التفاصيل بين رواية وأخرى، يظل العمود الفقري للسيناريو مشتركًا بينها: أخفى الرئيس الفار خططه حتى عن معظم أعضاء "الدائرة المقرّبة" ثم اختفى، قبل أن "يكتشف" العالمُ صباح 8 كانون الأول/ديسمبر أنّه لم يعد موجودًا في البلاد. وتلاشت بصورة مدهشة كل القيادات الأمنيّة، والعسكريّة، والبعثيّة، ورؤوس المافيات الاقتصاديّة ودوائرهم المقرّبة.

غاب أيضًا كلّ ذكرٍ لسبعة محافظين في محافظات كان بعضها يخضع لسيطرة النظام السابق بالكامل حتى وقت قريب جدًّا من فراره، وبعضها حتى لحظة فراره (حماة، وحمص، وريف دمشق، ودمشق، واللاذقية، وطرطوس، والقنيطرة)، تُضاف إليها حلب التي خرجت عن سيطرته قبلها بنحو أسبوع، ومحافظات أخرى كانت له سيطرة جزئية أو رمزية فيها: درعا، والسويداء، والحسكة، ودير الزور، والرقة، وإدلب، ناهيك بقادة الشرطة والفروع الأمنية والفروع البعثيّة في كل تلك المحافظات! 

في السنوات الأخيرة صارت عبارة "إسقاط النظام بكامل رموزه وأركانه" تُقابل بالسخرية حتى في بعض أوساط المعارضة السورية لما كانت تبدو عليه من "انفصال عن الواقع"، لكنّ بضع ساعات كانت كفيلة لا بتحويل تلك العبارة إلى أمر واقع فحسب، بل وبـ"نجاة النظام بكامل رموزه وأركانه" أقلّه حتى الآن. فأي عصا سحريّة تلك التي حققت هذه النتائج في بضع ساعات؟!

وبينما أُغرقت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بمعلومات متضاربة تتعلّق بالمُعتقلات الوحشية ومصائر المعتقلين و"كلاسين" الرئيس الفار، غابت أي إيضاحات تتعلق برئيس الوزراء السابق محمد غازي الجلالي وأعضاء حكومته بعد عمليات الاستلام والتسليم التي بدت كأنّها التفصيل الوحيد الواضح في ما حصل. 

عودة إلى حلب

غابت تفاصيل عديدة عن "الروايات الكاملة" التي انشغلت بفرار الرئيس السابق بشكل جوهري، بينما أعطت اهتمامًا أقل لمجريات الميدان. فمن أدار المعارك التي كان كثير منها "صوريًّا" باستثناء ما شهدته حماة؟ ومن أعطى أوامر الانسحابات المتتالية؟ ولماذا خرج وزير الدفاع في بيان مصوّر في سابقة لم تشهدها البلاد منذ عقود (5 كانون الأول / ديسمبر)؟ وما مصدر إطلاق الرصاص الكثيف الذي سُمع يوم الجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر في محيط القصر الرئاسي في حي المالكي وسط دمشق؟ وإن صحّ أنه جاء تصديًّا لطائرة مسيّرة بالفعل، فمن أين أتت تلك الطائرة؟ 

سنقف على أسئلة جوهرية أخرى إذا عدنا إلى الوراء أيامًا قليلة نحو منعطف حلب الذي كان مفصليًّا في مسار سقوط النظام، ويبدو ــــ بمراجعة هادئة للأحداث ــــ أشبه ببروفة لما شهدته دمشق برمزيّتها السياسيّة ولو اختلفت التفاصيل.

من اتّخذ القرار بالانسحاب من حلب؟ لا إجابة واضحة عن هذا السؤال، لا سيّما أن القرار وُضع موضع التنفيذ حين كان الأسد في موسكو

بدا دخول قوات "ردع العدوان" إلى حلب بسلاسة أشبه بأمر غير قابل للتصديق: لا معارك عنيفة على أبواب المدينة، ولا حتى في ريفها المتاخم، ولا "عملية مضادة" توعدت بها وسائل إعلام عديدة برغم أن الإمدادات التي اتجهت نحو تخوم المدينة بعد خروجها عن سيطرة النظام كانت هائلة وفق شهادات مؤكّدة عديدة. وقد ضمّت الإمدادات بشكل أساسي قوات عسكرية محسوبة على إيران، وكانت قوات أخرى قد انسحبت أو عُزلت في الريف الحلبي القريب حاضرة أيضًا.

بمراجعة المشهد اليوم، يبدو ما حدث أشبه بتجميع قوّات على أبواب حلب، بينما كانت بوصلة المعارك تتجه نحو حماة. أما العملية المضادة الموعودة فلم تُشنّ على الإطلاق. وتؤكد مصادر موثوقة أنّ الإيرانيين "فوجئوا بانسحابات الجيش السوري، واتّخذ القرار على عجلٍ بعدم خوض أي قتال ما دام الجيش نفسه لا يرغب بالقتال". العبارة الأخيرة تردّدت مرارًا خلال الأيام القليلة التالية على ألسن ساسة إيرانيين داخل سوريا وخارجها.

ثمة معلومات ومعطيات عديدة تؤشر إلى أن استسلام النظام السابق في حلب لم يكن قرارًا اتُّخذ خلال ساعات، ولا علاقة له بموازين القوى العسكريّة. كان محافظ حلب السابق (حسين دياب) قد سبق رئيسه الفار في طريقة الهروب، فغادر خلسةً قبل سقوط المدينة بـ 24 ساعة على الأقل من دون أن يُعلم أقرب المقرّبين منه، إلى أين؟ لا معلومات واضحة. 

أما الفروع الأمنيّة فقد تلقّت أوامر الإخلاء بفروقات زمنيّة لافتة، وأُبلغت بالأمر أيضًا جميع المفارز الأمنية ونقاط الحراسة في مؤسسات ودوائر الدولة، فيما كانت الوحدات العسكريّة آخر من بُلّغ، بل إن بعضها لم يُبلغ قرار الانسحاب أصلًا. 

من بين التفاصيل اللافتة أيضًا أن الطلبة الذين يقطنون المدينة الجامعيّة في حلب (كلهم من خارج المحافظة بطبيعة الحال) قد رُتبت رحلات عديدة لتسهيل إخراجهم من حلب بسرعة ملحوظة، بعدما سقطت قذائف هاون على إحدى الوحدات السكنيّة الجامعية. فيما أبلغت بعض المنظمات كوادرها في الساعات الأخيرة من يوم الأربعاء 27 / 11 / بوجوب مغادرة المدينة (كانت عمليات "ردع العدوان" قد انطلقت صباح ذلك اليوم). 

دخلت حماة تحت عباءة المعارضة بعدما وردت أوامر بالانسحاب نحو حمص، وقررت بعض المجموعات عصيان الأوامر لأن عناصرها ينحدرون من تلك المناطق

"من اتّخذ القرار بالانسحاب من حلب"؟ لا إجابة واضحة عن هذا السؤال، لا سيّما أن القرار وُضع موضع التنفيذ حين كان الرئيس الفار في موسكو، وبدت دوائر القرار السورية بأكملها في حالة شلل تام، بينما غرق الإعلام الرسمي وما في حكمه في حالة تخبّط كبيرة، قبل أن يصدر بيان رسمي عن وزارة الدفاع يؤكد الانسحاب من حلب، وكانت لغته مختلفة عن النمط المعتاد للبيانات العسكرية. ثم، بعد ساعات، أُعلن عن عودة بشار الأسد إلى دمشق، وسرت أنباء من جديد عن أن "الأمور ستعود إلى نصابها"، ولكن هيهات.

حماة فحمص

كانت السيطرة على حلب "عملية نظيفة للغاية"، وجاءت بمثابة مفاجأة أولى حول كيفية تعامل قوات "ردع العدوان" مع المدينة: لم تحدث أعمال انتقاميّة، لم يتعرض السكان لمضايقات مباشرة، ويمكن القول إن الدماء المدنية التي سالت في حلب اقتصرت على ضحايا عمليات قصف نفّذها الطيران الحربي في حيي حلب الجديدة، والفرقان.

خلال يومين بدأ مزاج الشارع في التبدّل الحذر. وفيما كان الخوف ذا وجهين: من سلوك القوات الداخلة، وقصف الطيران، بات يقتصر على القصف، وعلى أي عملية مضادة محتملة. بالتزامن، اقتربت قوات "ردع العدوان" من حماة بسرعة قياسية. كان المتوقع أن تشهد أبواب حماة، ومحيطها القريب (ولا سيما جبل زين العابدين) معارك طاحنة قد تمتدّ لأسابيع.

لكن ذلك لم يحصل أيضًا. وبرغم بعض الكر والفر، دخلت حماة سريعًا تحت عباءة المعارضة بعدما وردت أوامر عسكرية بالانسحاب نحو حمص. قررت بعض المجموعات عصيان الأوامر، والانسحاب نحو مناطق في ريف حماة (لا سيما مصياف ومحيطها) لأن عناصرها ينحدرون من تلك المناطق ورأوا في الدفاع عن عائلاتهم أولوية، فيما آثر العديد من العناصر الفرار نهائيًّا من الساحة، فشوهدت ملابس عسكرية مخلوعة ومرمية على جانبي الطريق، فضلًا عن عشرات الآليات المعطوبة وحتى السليمة.

لم تشذّ حمص عن القاعدة كثيرًا، لا سيما مع تهاوي الروح المعنوية لعناصر الجيش، وحين تكرّرت أوامر الانسحاب من حمص، كانت نسبة غير قليلة من الجنود قد فرّت بالفعل. أما "الطوق" الذي زُعم أنه ضُرب حول العاصمة، فكان طوقًا من كلام لا أكثر، وبات واضحًا أن النهاية صارت وشيكة، لكنها برغم ذلك جاءت أسرع من المتوقع.

سباق نحو دمشق

برغم أن الطريق بات ممهدًا نحو دمشق، لم يبدُ أوّل الأمر أن قوات "ردع العدوان" في عجلة من أمرها. لكنّ تسارع الأحداث في جنوب البلاد، وانسحابات الجيش من درعا والسويداء جعلا طريق دمشق مفتوحًا أيضًا من الاتجاه الآخر أمام فصائل لا تتبع "ردع العدوان"، ما عجّل بتحرّك الأخيرة نحو العاصمة.

سادت خشية من وقوع صدام بين الطرفين المعارضين، خصوصًا أن المجموعة التي وصلت مبنى التلفزيون في ساحة الأمويين بدمشق وتلت "البيان رقم 1" لا تتبع "ردع العدوان"، بل تتبع فصائل الجنوب التي يقودها أحمد العودة، المقرّب من الإمارات والأردن، وموسكو. لحسن الحظ لم يقع الصدام. وليس معلومًا بعد ما حال دونه، ولماذا انكفأت قوات أحمد العودة عن العاصمة وتُرك الأمر في عهدة "ردع العدوان" بسلاسة.

في دمشق ومحيطها وصلت أوامر شفهيّة نهار السبت 7 كانون الأول/ديسمبر إلى قيادات عسكريّة في مراتب عليا بعدم القتال دفاعًا عن العاصمة وبأن "الأمر قد انتهى". وفيما كانت تسارع بمغادرة العاصمة، نقلت بعض تلك القيادات الأمر إلى رتبٍ متوسطة، وهذه بادرت بدورها إلى الفرار. ومع سريان هذه الأخبار وصلت بشكل غير مباشر إلى الرتب الأدنى، والجنود، وعمّت الفوضى.

هل كان الرئيس الفار في قصره فعلًا وقتذاك؟ هذا ما تشير إليه كل "الروايات الكاملة" المتداولة. هل رآه أحد؟ لا. هل ألقى نظرةً أخيرة على عاصمة "مملكة الخوف" التي ورثها عن والده؟ لا أحد يعلم.

حلب.. بين قبرين

ما قصّة مقام الخصيبي الذي أشعل إحراقُه فتيل التوتر في سوريا؟ وما هي رمزيته السابقة على الحرب السورية ومن...

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا عو...

صهيب عنجريني
من دمشق: عن "سبعة أيام غيّرت سوريا"

"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة