
سقط النظام السوري يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر، ودخلت أولى فصائل المسلحين أو الثورة، من غير مطلقي عملية "ردع العدوان" إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وبدأ بعدها التلفزيون السوري ببث أغان وقف كثيرون مستغربين إزاءها.
مثّلت هذه الأغاني بالنسبة للبعض أوّل خطابات الإدارة الجديدة التي لم تكن قد وصلت إلى دمشق بعد؛ أغاني السلفية الجهادية التي كان أهل المناطق الواقعة تحت سلطة نظام الأسد يسمعونها عن طريق الفيديوهات المتداولة فقط.
ومع استلام الإدارة الجديدة السلطة، عُيّن شخص يُدعى علاء برسيلو مديرًا للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، في خطوة لم تخرج عن سياق التعيينات الأخرى التي نفذتها الإدارة، والتي ما زال فهمها عصيًا حتى اللحظة. فالشخص المذكور لم يبلغ الأربعين عامًا من العمر، وتفيد سيرته الذاتية بأنه كان مديرًا لصفحة "مبدعون سوريون في إدلب".
ومع إقدام الإدارة الجديدة على إغلاق وسائل الإعلام الرسمية، أخذ المشهد السوري يشهد حالًا من التخبط الإعلامي في مجالات عدّة. فاتُخذت قرارات لم تُقر، كإدراج علامة الديانة في المجموع العام في البكالوريا، وحُوّر مضمون قرارات أخرى، كحال تلك المتعلقة بالإجازة مع راتب لكثير من موظفي القطاع العام، فيما بدت بعض القرارات غير مفهومة كقرار تعديل المناهج الدراسية وخلافها، من دون أن يظهر شخص أو وسيلة إعلام لشرحها أو الحديث بشأنها.
يدقّ هذا ناقوس خطر في ما يخص أداء الإدارة الجديدة الإعلامي. ففي الوقت الذي يتدفق فيه عدد كبير من وسائل الإعلام العربية والعالمية لمواكبة مجريات الأحداث في البلاد، تغيب فعالية وسائل الإعلام السورية بأنواعها كافة.
ويبرز التخبط في نقطة بسيطة، لكن جوهرية، تتمثل بالغموض الذي يكتنف العملية الاتصالية وآلياتها. فدراسة الجمهور الذي تخاطبه، وتحديد الرسائل الموجهة إليه وكيفية توجيهها والوسائل المستخدمة لذلك، ألف باء عملية الاتصال. لكن القيادة الجديدة اختارت قناة "تليغرام" للتواصل مع جمهورها، و"واتساب" مع أرقام من لوكسومبورغ. أما أكثر المواقع التي يستخدمها السوريون، أي "فيسبوك"، فلم يكن للإدارة صفحة عليها، بل ظهرت صفحات عدة تنتحل صفتها لتشوّش عليها.
وبرغم أن وكالة "سانا" الرسمية عادت إلى العمل، فما تغير فيها كان اللون الأحمر الذي أصبح أخضر، بينما الأسلوب المستخدم فيها ظل كما كان، ومعه المبالغات غير المهنية في أدائها التحريري، ولكن هذه المرة بشكل معكوس. فيما ظهرت منشورات غريبة ومضحكة لوزارة الداخلية، حيث يُنشر عنوان خبر مع الفقرة الأولى، ويؤجَل نشر الفقرة التي تليها ـــ وقد تكون مرتبطة بالفقرة الأولى بشكل مباشر ـــ إلى منشور آخر.
من منبع الجُمل نفسها لمن أُطلق عليهم في السابق وصف "المؤيدين"، ينهل سوريون اليوم تعابير ويستنسخون أفكارًا مماثلة
وقد كثر تكرار سوريين لجملة "اعطونا رقم بترد عليه الهيئة" في الآونة الأخيرة، خصوصًا لدى بحثهم عن جهة تتلقى شكاويهم من انتهاكات "الفصائل غير المنضبطة"، على حد تعبير القيادة الجديدة، بحقهم.
وفي موازاة ذلك، أخذ مصطلح "فلول النظام" يغزو السوشال ميديا السورية، وأصبح أي عمل تقدم عليه الإدارة الجديدة يسمى ملاحقة لـ"فلول النظام"، وكان بالكاد يرفق بتوضيحات للجمهور، وبرزت في المقابل تعابير من قبيل "فصائل غير منضبطة" و"تصرفات فردية" للإحالة إلى أفعال تتبرأ منها السلطة وتتهم غيرها بها.
وفي اللحظة التي بدا فيها أن الإدارة باشرت بمخاطبة الجمهور السوري عبر وسائل الإعلام، حلّت كارثة التعيينات التي شكّك كثيرون بصوابيتها، وقد شملت أشخاصًا ـــ مع الاحترام لهم ـــ غير مهيئين لتولي المسؤولية المناطة بهم، ولا توجيه أي رسائل للداخل السوري أو للخارج، خصوصًا أنهم بالكاد مطلعين على أفكار سواهم، ولم يتجاوزوا الأفق الضيق للتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
وقد ظهر هذا في حديث السيدة عبيدة ارناؤوط لقناة "الجديد" اللبنانية عن "كينونة المرأة"، مرورًا بكلام السيدة عائشة الدبس عن عدم فتح المجال لمن يخالفها الرأي في ما يخص إدراة شؤون المرأة، وصولًا إلى ما قاله محافظ دمشق في مسألة التطبيع مع العدو، حتى أصبح ما أورده هؤلاء مثار تندر بين كثير من السوريين.
كل هذا فيما توحي "السوشال ميديا" السورية لأي متابع أن البلاد مقسومة إلى قسمين، أحدهما فيه جموع ترى السماء صافية، والآخر فيه جمهور يراها سوداء كالحة. وهو ما يذكرنا بعام 2012 ـــ عام تسلّح الثورة ـــ يوم كانت وجهتا النظر هاتان موجودتين في البلاد، إنما بشكل معكوس.
وفي ظل هذا كله، برزت شخصية قائد الإدارة السورية وكلامه الموجّه إلى "الخارج"، أحمد الشرع ـــ أبو محمد الجولاني سابقًا ـــ بوصفه الخطاب الوحيد، بغض النظر عن مدى صدقه، المتوازن من حيث الشكل.
لكن من منبع الجُمل نفسها لمن أُطلق عليهم في السابق وصف "المؤيدين"، الذين تغزّلوا بـ"ضحكة الرئيس" وقرروا وضع "طبيب العيون في العيون" واستخدموا تعابير التفخيم بشخص الرئيس الهارب، ينهل سوريون اليوم تعابير ويستنسخون أفكارًا مماثلة، حتى أصبحت بدلة القائد وكرافاته وكلامه مواد ملهمة ومدعاة للغزل.
كل هذا والسوريون لم يعثروا، حتى اللحظة، على خطاب جامع لهم. فيما البلد ازدادت انقسامًا على نفسها، وظلّ حال مناطق "قسد" منفصلًا عن سائر المناطق، وكذا حال درعا والسويداء وسائر والجنوب. وفي حين أن التقسيمات هذه موجودة منذ عهد الرئيس الهارب، فقد أضيفت إليها اليوم مناطق تواجد العلويين في طرطوس واللاذقية وبعض أحياء حمص وريفها، وبعض أرياف حماة.