حلب.. بين قبرين

ما قصّة مقام الخصيبي الذي أشعل إحراقُه فتيل التوتر في سوريا؟ وما هي رمزيته السابقة على الحرب السورية ومن ثم المرافقة لها؟

"جنب القبر الإنكليزي".. "بعد قبر الإنكليز بشي خمسمية متر".. "نزلني عند قبر الإنكليزي"، وعبارات مشابهة عديدة علقت في ذاكرتي منذ اليفاعة، حين لم أكن أعرف عن "القبر الإنكليزي" سوى اسمه الذي تحول اسمًا لكامل المنطقة المحيطة به على مسافة نحو خمسة كيلومترات من مدخلها الغربي، نحو الريف الشمالي. 

سأكتشف لاحقًا أن التسمية مستمدة من نصب تذكاري يرتبط بآخر معركة شهدها الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى. في 26 – 10 – 1918 "هاجمت طلائع الجيش الإنكليزي الزاحفة الجيش العثماني بكتيبتين من الفرسان الهنود، جاهلة بأنّ العثمانيين قد انتقلوا من حالة التراجع إلى حالة التجمع والتمركز، ففاجأت الرشاشات العثمانية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك القوات المهاجمة وأوقعت كثيرًا من القتلى في صفوفها"، كما يروي الكابتن البريطاني Harold Courtenay Armstrong.

هكذا حسم العثمانيون المعركة لصالحهم، لكن ذلك لم يغير جوهريًّا في مسار الحرب. وبعد بضعة أيام، تقدم العثمانيون بطلب هُدنة أٌقرت في 31 – 10 – 1918، قبل أن تنتهي الحرب العالمية رسميًّا في 11 – 11 – 1918.

تُعرف المنطقة بأكملها اليوم باسم "القبر الإنكليزي"، ويُظنّ خطأً أنّها تضم جثامين جنود إنكليز. غير أنه في الواقع نصب رمزي لـ"تخليد ذكرى اللواء الهندي الخيّال الخامس الذي توفي أفراده في القتال الأخير في الشرق الأوسط (...) لمقاومة القوات التركية" كما تنص كتابة كانت منقوشة على النصب التذكاري.

هو ليس قبرًا إذًا، ومعظم الضحايا الذين سقطوا كانوا هنودًا قاتلوا في معركة قرّرها مستعمرُهم. والمعلومة الدقيقة الوحيدة هنا أنها كانت آخر معارك الحرب العالمية في المنطقة، وأنّ البعثة الدبلوماسيّة البريطانية في سوريا اعتادت لسنوات طويلة الاهتمام بـ"القبر"، وزيارته سنويًّا في الساعة 11 من يوم 11 من الشهر 11، فيما يتذكر بعض المهندسين أن السفارة البريطانية في دمشق انتفضت حين طُرح مشروع لتوسعة الطريق قبل أكثر من 20 عامًا، وزجت بثقلها لمنع المساس بالنصب. 

على الجهة المعاكسة من مدينة حلب، تقع مقبرة يعرفها الحلبيون باسم "مقبرة جبل العضام/العظام". أول ما يوحي به الاسم أن التسمية قادمةٌ بداهةً من كون المنطقة موقعًا للدفن، وهو بالتالي مليء بالعظام البشريّة. لم أكن قد فكرت بمنبع التسمية حين عرض عليّ الصديق الباحث علاء السيد بعض مقتنياته من المستحاثّات البحرية التي جمعها من "جبل العضام" ويقدر عمرها بنحو 14 مليون عامًا.

كان مقام الخصيبي بسيطًا بلا مبالغات، وحين قرر العقيد (السابق) سهيل الحسن ترميمه، أوعز بتوسعة الموقع، وضرب حوله أسوارًا

تقوم حلب بشكل أساسي على ثماني تلال، يتموضع "جبل العضام" فوق واحدة منها، وعلى مقربة منه ثمة مرتفع آخر سمّاه الحلبيون "الجبل الأحمر" وفوقه بُنيت منذ نحو مئتي عام (1830) "تكية الشيخ يبرق" أو "التكية البراقيّة". يقول مؤرخ حلب، الشيخ كامل الغزي، في كتابه الشهير "نهر الذهب في تاريخ حلب" إن الموضع "اشتهر باسم الشيخ يبرق وهو رجل من الصالحين مدفون في زاوية يدخل إليها من أواسط الجهة الغربية من هذا الرباط". يخالف كلام الغزي المعهودَ من كون تسمية "مقام" تُطلق على أماكن رمزية خلافًا للقبر أو الضريح الذي عادة ما يحوي جثمانًا.

لم يشكل الأمر فارقًا عند كثير من الحلبيين بطبيعة الحال، فقد دأب كثير منهم على زيارة الموقع وطلب الشفاء من بعض العلل ببركة صاحبه، من دون أن يشغلوا بالهم بكونه مقامًا أو قبرًا، بل إن كثرًا لا يعرفون عن صاحبه سوى أنه "رجل صالح من أولياء الله".

وخلافًا لما قد يظنه المرء، لا ترتبط التسمية الشعبية "الشيخ يبرق" بالمطبخ الحلبي، بل يُقال في تأصيل المفردة إنها كانت في الأصل "يبرُق" بضم الراء في إحالة إلى البرق، إذ "كان يُشاهد ومضٌ عند المقام بين وقت وآخر"، فيتنادى السكان منبهين إلى أن "مقام الشيخِ يبرُقُ". فيما يقول تفسير آخر إن التسمية في الأصل كانت "مقام الشيخ بيرق"، والبيرق هو العلم في اللغة العربيّة كما هو معروف. 

ثمة قولان في هويّة صاحب المقام. يرِد ذكره في منظومةٍ للشيخ محمد أبي الوفا الرفاعي الشاذلي "الشيخ يبرق الرفيع القدر، وهو براقٌ عند من لا يدري"، ويُعلق شارح المنظومة في الهامش بالقول إن "الشيخ يبرق هو محمد بن أحمد بن محمود الرفاعي الأحمدي". أما القول الثاني، وهو الأشهر، فأن الشيخ يبرق هو أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، الذي يحظى بمكانة رفيعة عند أبناء الطائفة العلوية.

بعد أن سيطر النظام السوري السابق على كامل مدينة حلب أواخر العام 2016، قرر العقيد (السابق) سهيل الحسن ترميم المقام الذي كان قد تضرر جزئيًّا بفعل قذيفة مدفعيّة إبّان المعارك (كان المقام في القسم الواقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة من حلب). قيل أيضًا إن من أحد أسباب الترميم أن "المقام كان مهملًا"، وهذا يجافي الواقع بالمطلق.

في الواقع، كان المقام بسيطًا بلا مبالغات، وهو طابعٌ يطغى على كل المزارات والمقامات لدى أبناء الطائفة العلوية في سوريا، على نحو يشابه أيضًا حال معظم مقامات الأولياء عند أتباع الطرق الصوفيّة، زد على ذلك أنّ زيارات المقامات عند أبناء الطائفة العلوية لا تكتسي طابعًا دينيًّا صرفًا بقدر ما هي فعالية روحيّة واجتماعيّة.

حين قرّر الحسن ترميم المقام، لم ينطلق من هذه القاعدة، ولم يكتفِ بالترميم، بل أوعز بتوسعة الموقع، وضرب حوله أسوارًا، وحوّل الترميم إلى حدثٍ ذي رمزيّة طائفيّة حين قرنه بـ"تحرير حلب". ثم، بعد سنوات، ومع "تحرير حلب" المضاد أقدمت مجموعةٌ من "المحرّرين" على إحراق المقام، وقرّرت جهةٌ ما تسريب مقطع مصوّر يوثّق الفعل في توقيت بالغ الحساسية، ليضيف إلى التحديات الهائلة التي تواجه "الإدارة العامة" تحديًا فائق الخطورة.

هل ينبغي على "الإدارة" مواجهته بمفردها؟ قطعًا لا، فهو بكل تأكيد تحدٍّ للسلم الأهلي بأكمله، ولملايين تحولوا طوال السنوات الماضية إلى أدواتٍ للنار، وضحايا لها في آن واحد.

ما لم تقله "الروايات الكاملة" حول سقوط نظام الرئيس الفار

ثمة معلومات تؤشر إلى أن استسلام النظام السابق في حلب لم يكن قرارًا اتُّخذ خلال ساعات، ولا علاقة له بموازي...

صهيب عنجريني
"بناء الشخصيّة" بين دراما الزبدة ودراما الزّبَد

بعض الشخصيات قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها، مع ذلك، يُفترض أن تقدّم لنا عو...

صهيب عنجريني
من دمشق: عن "سبعة أيام غيّرت سوريا"

"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة