
فلسطين داري ودرب انتصاري
تظلُّ بلادي هوىً في فؤادي
ولحنًا أبيّا على شفتيّا
وجوه غريبة بأرضي السليبة
كان هذا أول نشيد حفظناه في الصف الأول الابتدائي، قبل أن نتعلم القراءة والكتابة. حفظناه قبل النشيد السوري، وما زال يتردد في جنبات الروح كلما تردّد اسم فلسطين أمامي. الكلمات البسيطة هذه شكّلت بداية الوعي لدى جيل كامل حول القضية الفلسطينية. لم تحضر فلسطين في المناهج المدرسية فحسب، بل كانت حاضرة في كل بيت، في صحن الزعتر وفي أحاديث الآباء المرابطين على الحدود، وفي صور الشهداء المعلّقة على الجدران.
لم أكن قد تجاوزتُ التاسعة من عمري حين درّبني إخوتي على حفظ أغنية لفرقة "العاشقين"، "من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي، جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه عموما". تصدح الأغنية من المسجّلة القديمة في بيتنا، فتنهمر دموع أمي وتدندنها بصوت خفيض. ولم أكن أعرف، في ذلك الوقت، ما قصة محمد جمجوم وفؤاد حجازي ومن هو المندوب السامي.
ننتقل من صفٍّ إلى آخر وتنتقل معنا قضية فلسطين. يزداد عدد الأناشيد التي تتحدث عنها ودروس التاريخ التي تشير إلى المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية. يزداد حجم التفاصيل المتعلقة بخسارة الحرب وبنبل القضية حتى تنوء حقائب الكتب المدرسية تحت ثقل هذا الحزن الكبير.
وفي الذكرى السنوية ليوم الأرض في 30 آذار/مارس من كل عام، يُلقي مدير المدرسة، قبل دخولنا الصف، كلمة بنا، يسرد فيها تاريخ الأرض الفلسطينية ويتحدث عن مصادرة الصهاينة آلاف الدونمات التي تعود ملكيتها للفلسطينيين عام 1976، ويذكّرنا بأن استعادة تلك الأراضي هي مهمة جيلنا والأجيال التي تلينا. ينتهي الاحتفال بصمت واجم وندخل الصفوف وكلنا إيمان بأننا سندحر الغزاة حين نكبر ونحسن استخدام البندقية.
نصل إلى المرحلة الإعدادية، فيكون كتاب القصص معنون بـ "حق لا يموت"، وهي مجموعة قصصية لغسان كنفاني تحوي في ما تحويه "خيمة عن خيمة تفرق، خيمة أم سعد، رجال تحت الشمس". مازلتُ أحتفظ، حتى الآن، بهذا الكتاب في مكتبتي في القرية.
كان يجري تدريب الفتيان والفتيات على الرمي بالبندقية في الصف الأول الثانوي. نذهب إلى ساحة الرمي ونحن نردد "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم". هكذا كانت تمشي فلسطين معنا جنبًا إلى جنب في الأغاني وفي الفروض المدرسية.
حضر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وفدوى طوقان في دروس اللغة العربية، ولم يخلُ صفٌّ من الصفوف من قصيدة لشاعر فلسطيني، بل أُفرد في الصف الثالث الثانوي فصلٌ كاملٌ تحت عنوان "أدب المقاومة"، وفيه ندرس الأشعار والقصص التي تتحدث عن فلسطين، ناهيك عن أغاني فيروز التي نبدأ بها نهارنا في البيت. وفي معظم الأحيان كانت أغاني مثل "مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة"، وأغنية "بيسان"، و"سنرجع خبرني العندليب"، من الأغاني التي لا تنفك إذاعة دمشق عن بثّها. كما كانت الإذاعة نفسها تبث برنامجًا إذاعيًا يتبادل فيه الفلسطينيون في فلسطين والشتات رسائل تطمينية تنتهي بعبارة "اطمئنوا وطمئنونا عنكم". ولسبب ميلودرامي في العائلة، كنا نواظب على سماعه.
هل كانت فلسطين تعيش في القصائد والأغاني والأناشيد الوطنية فحسب؟ ماذا عن الحاضر والمستقبل؟
لم يكن استرجاع الجولان، بوصفه أرضًا سورية، أكثر أهمية من استرجاع فلسطين. كانت القضية واضحة في أذهاننا. ثمة عدو واحد هو إسرائيل، ومفردة "الشهيد" كانت خاصة بمن يسقط في مواجهة إسرائيل. وبرغم أن النظام السوري كان مراوغًا، فإن المزاج الشعبي في سوريا كان مساندًا لأي خطوة أو موقف ضد إسرائيل، وهذا ما بدا جليًّا أثناء تحرير جنوب لبنان عام 2000 وفي حرب تموز 2006.
عاش الفلسطينيون سواسية إلى جانب السوريين يتمتعون بالحقوق نفسها. ولذا، حين بدأت الثورة السورية، وقف كثير من الفلسطينييين إلى جانب المحتجّين السوريين في التظاهرات، ولطالما سُجن منهم في عهد الأسد الأب بتهمة الانتماء إلى أحزاب يسارية معارضة.
حاصر النظام السوري مخيم اليرموك بعدما اعتقل الكثير من أبنائه وقصف بيوتهم، هذا المخيم الذي لم يكن يضم الفلسطينيين فحسب، بل فقراء من مدن سورية عدة. أذكر فلسطينيًا قابلته في نهاية 2014 وكان خارجًا من مخيم اليرموك وبحاجة إلى غسيل كلى. لم يكن بحاجة لأن يروي لي ظروف الحصار، فقد كان جسده وأجساد أفراد عائلته شاهدة على وحشيته.
حين سقط النظام السوري، سارع العدو الصهيوني لتدمير مقدرات الجيش السوري من عتاد وأسلحة. لم تدمر النيران الأسلحة فحسب، بل سنين عمرنا العجاف التي دفعناها لقاء شراء هذه الأسلحة. ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى انتشرت أخبار عن قرب التطبيع مع إسرائيل. ومع أن الخبر ليس مفاجئًا في السيرورة التي تم بها إسقاط النظام في سوريا وجلب "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة، إلا أنني أعيش حالة إنكار رهيبة من يومها.
لا، لا يمكن. إنها أسوأ لحظة للتطبيع. فقد قتلت إسرائيل أطفال غزة ودمرتها، وها هي تتسلى بقتل الذين يتقاطرون لجلب المساعدات. لكن، مهلًا، هل يعني أن ثمة لحظة مؤاتية للتطبيع، وأخرى غير مؤاتية؟ كيف يمكن لعقلي أن يمرر جملة كهذه من دون أن تستنفر خلايا قلبي ضد هذه الجملة؟ إنها لحظة يجب ألا تكون، فالتطبيع مع جملة كهذه يكاد يقتلني. لستُ وحدي، إنّما كثيرون لديهم الإحساس نفسه. أتخيّل حذف الأناشيد من الكتب المدرسية وحذف المجازر من التاريخ وتغيير جغرافية الخرائط فأقول لا لا لا. أذهب إلى التظاهرات لأروي عطشي إلى الصراخ، ورغبتي في البكاء، وكي تبقى فلسطين حاضرة.
أتذكر نقاشات كثيرة خضتها برفقة صديقتي الراحلة، مها جديد، ضد من كانوا يريدون إسقاط النظام السوري بأي ثمن، حتى لو جاءت إسرائيل. ينبري المدافعون عن السلطة الجديدة بتسويغ التطبيع، وبالقول إن نظام الأسد كان كاذبًا، وإن السلام هو شرط التنمية، وإننا تعبنا من الحروب، وإنّ سوريا ليست في حال جيدة لمواجهة إسرائيل. لكن هل هذا يعني أن نهرول في اتجاه التطبيع؟
تتزايد الأخبار وأحاول ألا أصدقها. أرى تقريرًا على أحد المواقع يفيد بأن الفلسطينيين في سوريا وُضعوا تحت خانة الأجانب، ثمّ يصدر نفيٌ ملتبس. أتذكر الفلسطيني الذي قابلته بعد الحصار، وأُطيل التأمل في صورة أبي. ماذا سنقول لشهداء الثورة السورية الفلسطينيين؟ ماذا سأقول لأبي حين أزور قبره؟ هل كان ذلك سرابًا؟ تصفعني الأغاني الوطنية. تصفعني "سنرجع خبرني العندليب".
يرتفع علم إسرائيل في ساحة السويداء بعد المجازر التي ارتكبتها قوات السلطة الجديدة. أغُصّ وأستشعر الهزيمة. أعضّ على قلبي كي لا يفضحني. لماذا؟ ثمّ لا يطول الوقت حتى أرى مستوطنين يضعون حجر الأساس في القنيطرة. وفيما يجتمع وزير خارجية السلطة السورية المؤقتة مع وزير خارجية إسرائيل لتسوية الأوضاع في السويداء، أتلقى الضربة القاضية. منذ متى وكانت إسرائيل تخاف على السوريين وتنصّب نفسها قاضيًا للصلح بينهم؟ أقرأ خبرًا عن قرب التقاء رموز السلطة مع الإسرائيليين في أيلول/سبتمبر. أفكّر بالشاعر خليل حاوي الذي انتحر إبان دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، وأحسد شجاعته.
هل كانت فلسطين تعيش في القصائد والأغاني والأناشيد الوطنية فحسب؟ ماذا عن الحاضر والمستقبل؟ إذا حذفوا الأناشيد والأغاني والتاريخ، فهل يستطيعون حذف فلسطين من خلايا دمنا؟