عن مهدي: جميل الأثر الذي رحل

استهدفت إسرائيل مركزين للدفاع المدني في البلدة بتاريخ 27 أكتوبر 2024. كان بينهم مهدي، الذي أكتب له وعنه هذه المادة.

من بين الركام، شقّت الكلبة التي كان مهدي يهتم بها طوال فترة الحرب طريقها نحو رفاقه، تحمل في فمها أحد أطراف جسده الذي تحوّل إلى أشلاء. اقتربت منهم، وضعته أمامهم، فاستدلّوا بها إلى مكانه. كانت تلك عودته الأخيرة إليهم.

في جلسته الأخيرة، كان مهدي في إحدى نقاط تجمّع عناصر الدفاع المدني، يدخّن نرجيلته مرتديًا زيّه، متأهّبًا، واضعًا روحه بين راحتي كفيه، مكرّرًا عبارته المعهودة: "الحياة ما فيها شي". كانت خدمته للناس طريقه إلى الحياة.

"كلنا أمّهات مهدي". جملةٌ قالتها قريبتي خلال زيارتي أفرادًا من عائلتي في صيدا، بعد نزوحهم إليها جرّاء الحرب. كان الجميع متشحًا بالسواد، حزنًا على فقدان خيرة شبّان بلدتنا، عين بعال الجنوبيّة، من عناصر الدفاع المدني التابع لـ"كشافة الرسالة الإسلامية"، إثر قصف إسرائيلي استهدف مراكز تجمعهم. كان اسم مهدي يتردّد طوال الجلسة، وصوره تُعرض على الشاشات الصغيرة. لم أكن أعرف قصّته، لكن حضوره كان أكبر من أن يُغفل.

أكتب عن مهدي عبد الرضا، الطفل الذي كبر والألم رفيقه، عن ابن قانا الذي نشأ بلا أمّ، وحرمه والده من دفء الأبوة. عن الشاب الذي عُجنت أشلاؤه بتراب الجنوب، ولم يكن يحمل بطاقة هويّة تخوّله أن يعيش كمواطن لبناني برغم أنّه لبناني الأصل. عن الذي هزمت ابتسامته عنصريّةً كانت تختبئ خلف ملامح الناس، عن الشاب خفيف الظلّ، البطل، الذي لم تُفارقه الضحكة. عن روحٍ خطفتها إسرائيل من بين أحبّائه.

وُلد مهدي في أفريقيا، لأبٍ لبناني وأمّ أفريقية. في عام 2015، أرسله والده إلى لبنان ليعيش في كنف جدّته في بلدة عين بعال. صارت له عائلةً وملاذًا وأمًّا. "تركته أمّه"، كما تقول جدّته، وتخلّى عنه والده، فشبّ متعلقًا بها كمن يتعلق بحبل نجاة. عين بعال التي ترعرع في أزقتها، كانت مثواه الأخير.

لمهدي أخت وُلدت في غامبيا من أم أفريقية أيضًا. لم يعرفها. أن تكبر بعيدًا عن أهلك وتشعر أنك ثقيل بلون جلدك، وأن تمرّ بك الأيام محمّلة بأسئلة دون أجوبة... هو شعور أعرفه جيدًا، وبه نشأ مهدي. سؤالٌ واحد ظلّ يدور في رأسي: هل علمت والدته أن ابنها رحل؟ هل تدري أخته أنّ لها أخًا قتلته إسرائيل؟

دُفن مهدي كما تمنّى، وسط الناس الذين أحبّهم وأحبّوه فكانوا أوفياء لوصيّته: "بدي الكلّ يكون بالدفن"

يقول أصدقاؤه إنّه حاول مرارًا التواصل مع عائلته، لكنّه لم يتلقَّ أي جواب. تتكرّر على ألسنتهم عبارة واحدة كأنها خلاصه: "الله اختاره، هو بيعرف مين ياخد لعنده". مهدي ظُلم في الحياة، وقتلته إسرائيل.

بصوت مبحوح ولهجة لبنانية "مكسّرة"، تجيب جدّته على اعتذاري على تأجيج ألمها: "لا يا بنتي، ما تخافي... هو ما فارقني يوم. مهدي بجنّن، كان حياتي كلّها". توسّلت إليه أن ينزح معها إلى بيروت مع اشتداد الحرب، لكنّه رفض أن يترك المركز أو زملاءه الذين بقوا في البلدة.

رحل مهدي. قتله العدوان، وبقيت جدّته وحيدة في منزلها، من دونه، هو الذي كان يرفض المبيت في المركز برغم رغبته، فقط كي لا تظلّ وحدها. تتذكّره في زياراته الخاطفة أثناء دوامه ليطمئن عليها، في قبلاته على جبينها، في خفّة روحه، وفي كل مرة تهمس فيها: "يُقبرني". كانت تتمنى أن تراه عريسًا، لا أن تزفّه شهيدًا.

عمل مهدي في مركز فرز للثياب في البلدة، وأحبّ كرة القدم التي جمعته بأقرانه، ومن خلالهم التحق بفريق الدفاع المدني التابع لـ"كشافة الرسالة الإسلامية". صار قلب المركز، وروحه. يصفه قائده وصديقه حسن بيطار بـ"صاحب القلب الميّت" لشجاعته وإقدامه في المهمات.

سألت رفاقه عنه، فسبقت تنهّداتهم كلماتهم. في حضرة الفقد، تخونهم اللغة. غدرتهم الحرب وسرقت صديقهم البشوش الضحوك دائمًا. تركت وراءها صمتًا ثقيلًا وضريحًا يجتمعون عنده ليل كل خميس كي يخففّوا الحنين المشتعل في صدورهم. يعلمون تمامًا قسوة الحياة التي عاشها. وحين تنتهي كلماتهم، يقولون: "الله أحنّ بعباده، بيعرف مين بياخد لعنده".

مهدي عرف العنصرية، كما أكّد صديقه، لكنه هزمها بلطفه. فأحبّه الجميع حين عرفوه حقًّا.

كان آخر لقاء له مع حسن بيطار قبل ساعات من المجزرة. حضر مهدي واستلم الطعام لتوزيعه على العناصر، وغادر. أدار ظهره لرفيق أيّامه، فكان ذلك الوداع الأخير.

استهدفت إسرائيل مركزين للدفاع المدني في البلدة بتاريخ 27 أكتوبر 2024. يقول حسن: "الحيرة اللي حسّيت فيها كانت قاسية. مش عارف لوين أركض، رفقاتي كانوا موزّعين بين المركزين".

الاستهداف كان واضحًا؛ سيارات الإسعاف كانت مركونة أمام المركز، وأعلام الدفاع المدني مرفوعة، لكن همجيّة إسرائيل جعلت الجميع هدفًا.

رسالة مهدي الأخيرة على مجموعة "الواتساب" كانت: "المسيّرة منخفضة، وقوّات اليونيفيل مرّوا وقاموا بالتصوير، أرى أن نُخلي هذه النقطة" لكن الإخلاء لم يتّم فالغارة الإسرائيليّة كانت أسرع.

رفاقه ما زالوا في حالة صدمة. مهامهم في الإنقاذ مستمرّة، كما زياراتهم لروضة مهدي ورفيقيه. يقول صديقه علي: أجلس وحدي وأبكي. أسمع آخر الرسائل وأشاهد آخر لقاء جمعنا في صيدا في مهمة لمهدي لتأمين مستلزمات أهالي البلدة الصامدين، كان العناق الأخير بينهما. الصدمة قويّة لدرجة أن يرفض دماغ علي تصديق هذا كله، لكنّ القبر شاهد على الحقيقة.

حين أسألهم عن الدعم النفسي، يقول حسن: " مش ملحقين بعد"، فالاستهدافات الإسرائيلية مستمرّة وتقتيلنا مستمّر، وكل ما حولنا ينخر في ذاكرتنا. فكيف لهذا الألم أن يهدأ؟

رحل مهدي من دون أن يحصل على بطاقة هويّة. كان أصدقاؤه يعملون على إصدارها وكانت بانتظار توقيع الأب. غاب الأب والأم عن التشييع. جلده الأسود، الذي عانى بسببه، جُبِل بتراب الجنوب، الجنوب الذي خدمه طوعًا ومحبةً. دُفن مهدي كما تمنّى، وسط الناس الذين أحبّهم وأحبّوه فكانوا أوفياء لوصيّته: "بدي الكلّ يكون بالدفن". ولهذا أكتب عن مهدي، لأنّ له كلّ الحق بأن تُروى قصّته.

عشرون دقيقة بعد منتصف الليل: بداية يوم لا أرغب به

أكتب هذه المدونة وأنا أشعر بالخجل. الثلاثينيات في عصرنا مقترنة بالإنجازات، لكنّ الواقعية من حولي تسلبني ا...

غوى كنعان
الأكفان الخضراء تلاحقني

في جلسات العلاج النفسي، أشعر بالخجل من نفسي. أخجل أن أبكي وأن أشكو ثقل الحرب، لأنّ خسارتي لا تُذكر أمام م...

غوى كنعان
ذاكرة من طفولة ودم

يصبح اللجوء المؤقت دائمًا بالنسبة لبعض السوريين. فمَن يُدفن خارج بلاده يُحكم عليه بالبقاء لاجئًا إلى الأب...

غوى كنعان

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة