
لم تنتهِ الحرب. هذه المدونّة كنت بدأت بكتابتها أيّام تصاعد العدوان الأولى على لبنان، لكنّي يومها شعرت بالخجل من مشاركتها. اليوم، استيقظت على كابوس يروادني لطفلين يمسكان بأطراف طفل ثالث ويشدّانه في اتجاه معاكس، حتّى تحوّل إلى أشلاء. أحلم بالكثير من الأشلاء، أحلم بكثير من الوجوه الغريبة وأستيقظ، وكل الثقل في قلبي.
كنتُ طفلة أتكئّ بمرفقي النحيل على فخذ جدتّي، مُسمّرة أمام شاشة تلفاز أحمر بشاشة تبثّ، بالأبيض والأسود، مشاهد من بلد لم أكن أُدرك اسمه. رأيت طفلًا يجثو خلف والده مختبئًّا، فيما الوالد خائف. لحظات تمرّ، و"يموت الولد".
بكيتُ بصمت. شعرت بغضب طفولّي في داخلي. نظرتُ إلى الشارع المقابل لدكّان جدّي. كان هناك حجر مرمّي على الطريق. استدرت وهمست في أذن أمّي: ليت هذا الحجر يصل إليه فيدافع عن نفسه.
كبرنا وكبر معنا مشهد والد الطفل ينوح، فيما الأخير نائم نومًا أبديًا في حُجر والده. عرفتُ الاسم وحفظته عن ظهر قلب. محمد الدرّة. كانت هذه بداية معرفتي بإسرائيل.
كنتُ أكبر في أزقّة ضيعتي، وأرى على واحد من جدرانها عبارة حفرت في رأسي، وستبقى محفورة إلى الأبد. عبارة عرّفتني على من قتل الطفل محمد، وأنّ من قام بذلك يستحّق حجارة الأطفال كلّها، لأنّه "شرّ مطلق".
كنت، إذ أكبر، أرى على خزانة ابنة خالتي صورة ممزّقة الأطراف للرقم 18، تجسّد رجلين إحداهما مبتورة، واسم "قانا" أسفلها ينزف. زُرت مقبرة قانا حيث دُفن ضحايا المجزرة الإسرائيلية عام 1996. كنتُ صغيرة، ولاحظتُ أنّها تختلف عن سائر المقابر. فقبورها أكبر من بقية القبور. أيقنت أكثر من ذي قبل أنّ "إسرائيل شرّ مطلق".
على دفتر صغير زهرّي اللون كتبتُ بقلم أخضر: "اليوم استيقظتُ مذعورة، لقد قصف الشرّ المطلق الوادي بالقرب من منزلي. شاهدتُ الدخان برفقة بنات الجيران. جئنا إلى منزل عمّي. سننتصر".
هُجرّت بعد استهداف قانا مرّة ثانية. بقيَت أمّي وجدّي، وغادرنا نحن الصغار. أدركتُ أنّ إسرائيل لا تريد أنّ تبقى أمّي قريبة منّي. كان هذا عام 2006. لكن، في الحرب نفسها، سمعتُ عبارة "انظروا إليها تحترق"، فأيقنت أنّ الشعور المناهض للشر المطلق ينبغي أن يترافق مع مقاومة كي يخمد شيئًا من ألمنا.
كبرتُ، وفي صفي زميلة قتلت إسرائيل جميع أفراد عائلتها في قانا. كانت صامتة معظم الوقت. في عينيها ألم، وثبات، وشعور أعمق من شعوري على الأرجح حيال قتلة عائلتها.
كبرتُو ثم غادرت قريتي والبيوت التي أودعت فيها أسراري وذكرياتي. غادرتُ ضيعتي عين بعال في صور، واختار القدر لي النبطيّة مدينة، وزفتا ضيعة أخرى. هناك كان المنزل الأوّل الذي أسميته "بيتي". وهكذا أصبحت لي في جنوب لبنان بقعتان من الأمان، أخشى عليهما اليوم، وأتّألم عندما أرى ذكرياتي فيهما مغطاة بالرماد.
بكاء الأب الناجي المفجوع، صوت مرتّل القرآن، المختلف هذه المرّة، كل هذه التفاصيل تلاحقني إلى اليوم
كانت نوافذ بيتي الصغير كبيرة، مطلّة على حرش زفتا الجميل. أحبّ الشجر وأحبّ شجر زفتا أكثر. كانت الطيور تغفو على أغصانها، وأبناء آوى تسكن بينها. وكان فيها عمو "الدكنجي"، أبو باسل، يرحّب بي دائمًا بوصفي "جارة الرضا". كان لي فيها عائلة جديدة باتت سندي بعد أمّي. وكان لي فيها صديق كلّما أتعبتني الحياة قال لي "هينة يا أختي"، وصديقة تخبّئ لي دائمًا حصّتي من خير زيت زيتون الجنوب. هؤلاء هجّرتهم إسرائيل في الحرب الأخيرة على جنوبي الحبيب. الحرب التي ما زالت أذيالها تقتل فينا.
لا أذكر تاريخ اليوم الذي توجهّت فيه برفقة صديقتي إلى الجنوب. ما الذي دفع بنا حقًّا للذهاب إلى هناك خلال الحرب من أجل تغطية صحافيّة؟
لا أذكر كم كانت الساعة، لكّنها كانت متأخرّة من الليل. وكنّا جالستين على السرير نتابع الأخبار ونحاول إنجاز عملنا قبل أن يجتاح صوت السماء ويُخفي صوت البحر. لم يترك الصوت لنا مجالًا للتكهّن. كنا ندرك الفارق بين جدار الصوت والغارة، وبين الطيران الحربي وصوت الدرون - الـ MK وخلافها - التي اعتدنا على تسميتها "أم كامل". هذه المرّة كان صوت الطيران الحربّي سابقًا وقوع مجزرة بحق عائلة قرّرت الصمود في منزلها في الصرفند بلحظات.
صباح اليوم التالي، توجّهنا إلى مكان المجزرة. كانت ألعاب الأطفال الذين غابوا مبعثرة بين الركام. تشهد على الواقعة. من بعدها توجّهنا إلى باحة الحسينيّة حيث بعض ممّن ظلّوا في البلدة ينتظرون إحضار جثامين الشهداء.
أكفان خضراء مربوط على أطرافها قماش أبيض. داخلها جثامين طاهرة. أكفان كبيرة، وبعضها صغير.
ليلة المجزرة مرّت أمامي صورة طفل بلا رأس على "ستوري الواتساب" لأحد أفراد الدفاع المدنّي من البلدة. ثبّت نظري طويلًا عليها ولم أبكِ. لم أتنهّد حتّى. لم أقوَ على ذلك. خجلت من حزني أمام هذه الصورة. ما زالت هذه الصورة تلاحقني إلى اليوم، وكلّ صور رؤوس الأطفال.
على حافّة تطلّ على مجموعة من القبور المحفورة وقفتُ أراقب إجراءات الدفن. كان الشجر هامدًا. كأنه يصغي إلى أفراد الدفاع المدنّي إذ يحاولون تحديد هويّة أصحاب الأكفان، لمعرفة كيفية وضع الجثامين: أي جثمان بجوار الآخر. سألتُ أحد عناصر الدفاع المدني: لمَ تضعون أوراق الشجر فوق القبور؟ "كي لا يتسلّل إلى القبر التراب!"، أجابني.
بكاء الأب الناجي المفجوع، دموع الصحافيّة التي أتت لتغطية التشييع الهادئ، صوت مرتّل القرآن، المختلف هذه المرّة. كل هذه التفاصيل تلاحقني إلى اليوم.
في بداية الحرب، قلتُ لنفسي: حسنًا، ها قد وقعت الواقعة، يجب أن تصمدي. كابرتُ لمغالبة الدموع، وتطوّعت مع المتطوّعين، وأكملت عملي الصحافي. قلقي على أهلي في الجنوب سلّمته إلى الله، وقلتُ لن أبكي. لكنّي أذكر أنّي، ذات صباح، وقفت في مطبخي الصغير في شقتي ببيروت، أحتضن قنينة زيت الزيتون التي كان فيها القليل، وبكيت كثيرًا.
لم تنتهِ الحرب. كنتُ قد باشرت بكتابة هذه المدونّة مطلع الحرب. اليوم، أيقظني كابوس يظهر فيه طفلان يُمسكان بأطراف طفل ثالث، ويشدّانه في اتجاه معاكس حتّى تحوّل إلى أشلاء. أحلم بالكثير من الأشلاء، أحلم بكثير من الوجوه الغريبة وأستيقظ، وكل الثقل في قلبي.
أعلمُ أنّ هذا يسمّى "اضطراب ما بعد الصدمة". في جلسات العلاج النفسي، أشعر بالخجل من نفسي. أخجل أن أبكي وأن أشكو ثقل الحرب، لأنّ خسارتي لا تُذكر أمام من خسروا أحبابهم أو بيوتهم. لكنّي، في قرارة نفسي، أشعر أنّي أرغب بأن أجهش بالبكاء على أصحاب الأكفان الخضراء الذين راحوا ضحيّة شرّ مطلق، وعلى زيتون بلادي، وأرقّة الضيعة، وخيرة الشباب، وعجزي، وقلقي من صوت الطيران، وصراخي المكبوت، وخوفي على أهلي، وعلى من ينادي بـ"سلام" لا عدالة فيه.. في الوطن ذاته الذي يُفترض أن يكون جامعًا لنا.