أن نرجع

كيف يمكن فهم الرجوع إلى جنوب لبنان بعد حرب مدمّرة؟ ما معنى الرجوع في قواميس الراحلين؟

أقف على مصطبة بيتنا المهدّم في "سجد" بعد أيام قليلة من وقف إطلاق النار، تمامًا عند ممر الورد الجوري الذي كان يفضي إلى ساحة الدار. تختلط عليّ التواريخ: الممر كان مزنّرًا بالورد في البيت بنسخته الأولى حين زنّرته إسرائيل بالديناميت سنة 1985. لمَ أستذكر الدار القديمة الآن؟ والورود الفرنسية المسمّاة pensée  التي كانت أمي تشكّها لتغيظ جدّتي المغرمة بزراعة الأرضي - شوكي علي جانبي الممر؟

تتداخل ذكرى أطلال البيتين، القديم الغائر في الذاكرة والحكايات (ومنها أن الثلج كان يغمر بيوت "سجد"  بالكامل في الشتاء الطويل فيختبئ أهلها مع "الطَرش" والمونة المخزنة في أواني الفخّار في جوف البيوت ليأتي أهل القرية المجاورة يرفعون الثلج بالمعاول عن الأبواب في أول الربيع)، والجديد الذي بناه أبي بعد تحرير الجنوب بشكله الدائري وطبقاته الأربع والذي شجّه الصاروخ في رأسه، وشجرة اللوز التي تحرس مدخله فينتظر أبي أول ثمارها: حبات خمس بعدد أولاده وجملته الرقيقة مثل يديه: "خير السنة ورزق جديد واللي طعمنا عمرُه يزيد" .

ألهج بما قاله الشاعر الكربلائي رضا الهندي يومًا في البيوت وأهلها: "فبكيتُ حتى خلتها ستجيبني/ببكائها حزنًا على أهليها"، لكن لمَ نبكي البيوت ونرجع إليها؟ أسأل نفسي وألومها: ألم تسترشد يا محمد بالشيخ الأكبر وحفظتَ عن ظهر قلب ما قاله في البيوت وأحوالها: "فلا نزالُ في سَفر أبدا من وقتِ نشأتِنا ونشأةِ أصولنا إلى ما لا نهاية له، وإذا لاحَ لك منزلٌ تقولُ فيه هذا هو الغاية انفتحَ عليك منهُ طرائقُ أخر، تزوَّدْتَ منه وانصرَفتَ. فما من منزلٍ تُشرفُ عليه إلاّ ويُمْكنُ أن تقولَ هو غايتي، ثمّ إنّكَ إذا وصَلتَ إليه لمْ تلبثْ أن تخرجَ عنه راحلًا".

لكني أحب هذا البيت بمطلّه من ناحية الشرق على حرمون ومن جهة الغرب على ضباب "مرج التفاح"، أقطف تفّاحة من الاسم الرومانسي لتلك الأيكة المنبسطة من جبل الريحان وأرميها في قصيدة بشار بن برد: "يا لَيتَني كُنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً/ أَو كُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا... حَتّى إِذا وَجَدَت ريحي فَأَعجَبَها/ وَنَحنُ في خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا". أحبّه وأرى نفسي على سطحه مع النابغة أرعى النجوم فوق جبال عامل و"ليس الذي يرعي النجومَ بآيبِ".

لا تحبّ اللغة الرجوع، وكأنّ لها ثأرًا في مرادفاتها مع الراجع والعائد، ولا تستحضر فيه إلا الحنث والغدر والموبقات كلّها

أحب مكتبته وما قاله أحدهم يومًا: "بيت المرء حيث كتبُه"، أحب السيارة الحمراء التي أهداني إياها خالي المسافر إلى الكويت في طفولتي: كانت فرجة أطفال القرية حين أصفق لها فتمشي، فيقايضون اللعب بها بكمشة من التين المجفف والجوز من حقول آبائهم. أسمح لقلبي الذي يترجم أشواقه للبيت أن يعترض على صاحب "ترجمان الأشواق" الذي يزيدني كلامه في السفر والرجوع حيرة على حيرة.

أهرب إلى اللغة. أبحث عن مرادفات "رحَل" فأجد ما يلي:

"أَبْحَرَ، ابْتَعَدَ، ارْتَحَلَ، اغْتَرَبَ، انْتَزَحَ، انْتَقَلَ، انْصَرَفَ، انطَلَقَ، بانَ، بَعُدَ، تَحَمَّلَ، تَغَرَّبَ، سَافَرَ، تَنَقَّلَ، ذَهَبَ، سافَرَ، سَارَ، شَطَّ، ظَعَنَ، غادَرَ، غَرَبَ، غَرَّبَ، مَضَى، نَأَى، نَوَى، هاجَرَ، هَجَرَ، تَرَكَ، غَادَرَ"، أضعها مباشرة مقابل مرادفات "رجَعَ":

"آبَ، آلَ، أَخْلفَ وَعْدَهُ، اِرْتَدَّ، اِنْثَنَى، انْخَزَلَ، انْقَلَبَ، تَرَاجَع، ثابَ، حَنَثَ، خانَ، ردَّ، زار مريضًا، غَدَرَ، فاءَ، فَجَأ، قَفَلَ، نَكَثَ، نَكَصَ، انْكَفَـأَ": أقولُ ما أرقّ اللغة في مرادفات الرحيل!

وكأن تلك المفردات معجمٌ لمطالع شعراء الجاهلية في الوقوف على الأطلال وتشييع هودج "خولة" و"هريرة" و"عبلة" و"أسماء" في المعلّقات والمُذَهَّبات والسُّمُوط والجاهِلِيَّات والسَّبْع أو العشر الطِّوال.

في مرادفات الرحيل الإبحار والسفر والهجرة، استذكر آية من الكتاب أحبها: "إني مهاجرٌ إلى ربّي"، وتحيلني جملة النفري في موقف البحر إلى سمكة رشيقة: "وقال لي إذا وهبت نفسك للبحر فغرقت فيه كنت كدابة من دوابه"، وما قالته العرب في "مَسافر الوجه: ما يظهر منه"، فيطفو فوق اللغة وجه رقيقٌ لامرأة أحبها.

لا تحبّ اللغة الرجوع، وكأنّ لها ثأرًا في مرادفاتها مع الراجع والعائد، ولا تستحضر فيه إلا الحنث والغدر والموبقات كلّها. أكاد لا أعثر في كتاب "الفروق في اللغة" لأبي هلال العسكري على منقبة تعلي الراجع فوق الأواب، أو تصف العائد بغير مرتكب فعل التكرار والكراهة:

"الفرق بين الأواب والرجوع: قال الراغب: الأوب ضرب من الرجوع، وذلك لان الأواب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة، والرجوع يقال فيه، وفي غيره. والأواب، كتواب: الراجع إلى الله تعالى بترك المعاصي، وفعل الطاعات، ومنه قيل: التوبة أوبة. أما الفرق بين الرجوع والعود: الرجوع: فعل الشيء ثانية، ومصيره إلى حال كان عليها، والعود: يستعمل في هذا المعنى على الحقيقة، ويستعمل في الابتداء مجازا، قال الزجاج: يقال قد عاد إليّ من فلان مكروه، وإن لم يكن قد سبقه مكروه قبل ذلك. وتأويله أنه لحقني منه مكروه. انتهى".

 لسنا أبناء ضالين إن أخرجتنا فلسطين من ديارنا، بل أرى الراجعين إلى ترابهم كالراجعين من الحج، مغسولة ذنوبهم كما ولدتهم أمهاتهم

أقول تحذو الفلسفة والفنون والأسطورة حذو اللغة في التنكيل بمن يرجعون. لا يرحّب ساكنو كهف أفلاطون بالذي ارتحل إلى النور ورجع إليهم بما اكتشف ورأى، ولا يتحقق رجوعٌ إلا بتوافق ضمني بين أطراف ثلاثة: الذي يرجع، ومن يسمح له بالرجوع، وأولئك الذين ينتظرون عودة الراجع. أما رمبرانت الرسام فيستند إلى إنجيل لوقا في لوحته (عودة الإبن الضال) ليستحضر باللون ثنائية السفر والرجوع: 

"وَلَمْ تَمْضِ أيَّامٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى جَمَعَ الابْنُ الأصغَرُ كُلَّ مَا يَخُصُّهُ وَسَافَرَ إلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ. وَهُنَاكَ بَدَّدَ كُلَّ مَالِهِ فِي حَيَاةٍ مُسْتَهْتِرَةٍ.  وَبَعْدَ أنْ صَرَفَ كُلَّ مَا مَعَهُ، أصَابَتْ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ ذَلِكَ البَلَدَ فَابْتَدَأ يَحتَاجُ فَذَهَبَ وَعَمِلَ لَدَى وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ ذَلِكَ البَلَدِ، فَأرسَلَهُ إلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى الخَنَازِيرَ وَكَانَ يَتَمَنَّى لَوْ أنَّهُ يَسْتَطِيعُ أنْ يُشبِعَ نَفْسَهُ مِنْ نَبَاتِ الخَرُّوبِ الَّذِي كَانَتِ الخَنَازِيرُ تَأْكُلُ مِنْهُ، لَكِنَّ أحَدًا لَمْ يُعطِهِ شَيْئًا. كَمْ مِنْ أجِيرٍ عِنْدَ أبِي يَشْبَعُ وَيَفْضُلُ عَنْهُ الطَّعَامُ، أمَّا أنَا فَأتَضَوَّرُ جُوعًا هُنَا!  سَأقُومُ وَاذْهَبُ إلَى أبِي وَأقُولُ لَهُ: يَا أبِي، لَقَدْ أخْطَأتُ إلَى اللهِ وَإلَيكَ...يَا أبِي، أخْطَأتُ إلَى اللهِ وَإلَيكَ. وَأنَا لَمْ أعُدْ جَدِيرًا بِأنْ أُدعَى ابنًا لَكَ": يركع الولد في اللوحة عند أقدام أبيه، ويتعمد رامبرانت إظهار عدم التناسق في أطراف جسده: لا يشبه الراجعُ المسافر، لا يتطابق درب العودة مع درب السفر كجانبي العُملة: "فلا أنتَ أنت، ولا الطريقُ طريق" كما يقول أدونيس.

ربما خدعني رمبرانت هو الآخر كما خدعتني اللغة: لسنا أبناء ضالين إن أخرجتنا فلسطين من ديارنا، بل أرى الراجعين إلى ترابهم كالراجعين من الحج، مغسولة ذنوبهم كما ولدتهم أمهاتهم. أستذكر زين العابدين إمام الفقراء في حديثه مع الشبلي، حيث لا يكون الرجوع إلا مطهرًا وقربى: "فعندما رجعت إلى مكة، وطفت طوف الإفاضة نويت أنك أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته، وتمسكت بوده، وأديت فرائضه، وتقربت إلى الله تعالى؟ قال الشبلي: لا. قال الإمام زين العابدين له: فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا ذبحت، ولا أديت نسكك، ولا صليت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقربت، ارجع فإنك لم تحج".

أصحح للمرة الأخيرة للشعر الجاهلي: تستحق دار "نورة" وقوفًا على أطلالها ودمعتين ووردًا، في الرجوع وليس وفي الرحيل

تمرّ جنازة "نادر" الذي استشهد والبارودة في يده فتنثر النسوة الأرُزّ ويستقبلن الجثمان بالزغاريد، تقف أمه بعينيها الزرقاوين الدامعتين، يخفق يمام أبيض في سماء القرية ويدور حول الجنازة: أوقن أن تفسير حسن عبدالله للعودة (أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد...عاد مستشهدًا فبكت دمعتين ووردًا ولم تنزو في ثياب الحداد) أجمل من تفسير رمبرانت وأفلاطون: "نادر" ابن الأرض المهتدي بلا شطط أو ضلالة، ولا حاجة لتسوية بين العائد وبارودته التي سمحت له بالعودة وشجرة الصنوبر عند باب المقبرة التي تنتظر عودته.

أسمح لنفسي بسؤال آخَر: ما الذي تعلّمته تلك الفتاة من صديقين في مدرسة "رمل الظريف" لتقلق به راحة الماكثين في القرية العاملية النائية؟ وهل بقي في كفركلا والخيام وعيتا الشعب وعيترون سوى الشهداء؟ بلى ربما يكون البيت هنا أجمل من الطريق إلى البيت.

يبقى أن أشاكس الأسطورة: يترك أوديسيوس حوريات البحر وكل ذلك العالم الفنتازي والأسطوري ليعود إلى إيثاكا، إلى حضن زوجته بينيلوب، في رجوع من السماوي إلى الأرضي...

أرجع إلى اللغة، ها هي تخفي مرادفًا للرجعة (رجع: ارتفع) يعينني في مشاكستي، ألا ترجع الأرواح إلى ربها في رحلة معاكسة من الأرضي إلى السماوي يا أوديسيوس (فارجعي إلى ربك راضية مرضية)؟، ألا يقال في التراث : "وفلان يؤمن بالرجعة، بالفتح: أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت، كما في الصحاح، قال صاحب اللسان: وهو مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم، ومذهب طائفة من المسلمين من أولي البدع والأهواء، يقولون: إن الميت يرجع إلى الدنيا ويكون حيا كما كان، ومن جملتهم طائفة من الرافضة يقولون: إن علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، مستتر في السحاب، فلا يخرج مع من خرج من ولده، حتى ينادي مناد من السماء اخرج مع فلان. وفي حديث ابن عباس: من كان له مال يبلغه حج بيت الله، أو تجب عليه فيه زكاة، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت، أي سأل أن يرد إلى الدنيا، ليحسن العمل".

أرى عليًّا في السحاب فوق القرية يأخذهم جميعًا إليه، من الأرضي إلى السماوي يا أوديسيوس، ويحمل التوابيت الخشبية لأولادنا المذبوحين، يرفعها في السحاب إلى عرش الله في سدرة المنتهى...

أن أرجع، أن أسمي الدار على اسم أمي، أن أسحب من تحت الركام الهيكل القديم الصدئ للسيارة التي أصفق لها في طفولتي فتنطلق في ممر الورد، أن أصحح للمرة الأخيرة للشعر الجاهلي: تستحق دار "نورة" وقوفًا على أطلالها ودمعتين ووردًا، في الرجوع وليس وفي الرحيل.