أثار تعيين إدارة العمليات في سوريا بقيادة أحمد الشرع عددًا من الجهاديين غير السوريين كضبّاط في الجيش السوري الكثيرَ من النقاشات الحادّة، أولًا حول عدم حيازتهم جنسية سورية تتيح انضمامهم إلى الجيش السوري، وثانيًا حول ما إذا كان الشرع يسعى إلى تعيين مقربين منه للسيطرة على الجيش أم كان تعيين هؤلاء يرتبط بعدم قدرته على تهميشهم بسبب ثقلهم العسكري. بالنسبة لي، يطرح هذا الحدث سؤالين أساسيين ملتبسين، أحاول في حدود ما تسمح به هذه المقالة أن أقاربهما.
السؤال الأول هو حول معنى الجنسية السورية، أو - بشكل أدق - معنى أن تكون سوريًا في هذا الوقت. هل يمكننا أن نضع مفهومًا واضحًا متكاملًا يعرّف الهوية السورية في هذه المرحلة، ربطًا بما مرت به البلاد من أهوال؟ والأهم، كيف يمكن ربط ذلك بمستقبل البلاد أو بالتصورات المتعلقة بهذا المستقبل؟
ولكي أحيد عن الاصطفافات حيال الإسلام الراديكالي، سأعطي مثالًا من ألمانيا حيث أعيش (في شطرها الشرقي تحديدًا) منذ أكثر من عقد من الزمن. فقد مرّت البلاد في مراحل وشهدت تحوّلات عدّة، من الرايخ الثاني الذي شهد نموًا اقتصاديًا قبل الحرب العالمية الأولى، مرورًا بصعود المد القومي المتطرّف ممثلًا بالنازية قبيل الحرب العالمية الثانية، ثم انقسام البلاد بعد هذه الحرب وانضمام شطرها الشرقي إلى المعسكر الاشتراكي، قبل سقوط جدار برلين الذي عاد بعده الشعور القومي في ألمانيا الموحدة لينمو توازيًا مع الانتماء لأوروبا باعتبار ألمانيا قاطرة لها، وصولًا إلى عودة اليمين بقوة مع شيوع مفاهيم في المجتمع أقرب للقومية ربطًا بمعاداة المهاجرين والانتماء إلى الاتحاد الأوروبي نفسه.
في هذا السياق يصبح السؤال عن هوية المواطن الألماني معقدًا: هل هو قيصري ملكي، أم قومي نازي، أم شيوعي، أم أوروبي، أم...
يطرح هذا المثال مبررات السؤال عن الهوية السورية وتحوّلاتها الحالية واللاحقة. فهل سوريا نتاج الوعي القومي الذي وُلد في سياق الثورة العربية الكبرى للخروج من عباءة العثمانيين (والتي بات يصعب اليوم وصفهم بالمحتلين) والانضباط لاحقًا في حدود سايكس - بيكو (التي دأب الجميع في سوريا تقريبًا على انتقادها انطلاقًا من انتمائه العروبي أو الأممي الشيوعي أو السوري القومي أو الإسلامي إلا حين يصل الأمر إلى القضية الكردية، إذ حينها تبدو الحدود مقدّسة في نظر الجميع تقريبًا باستثناء الكرد بطبيعة الحال)؟ وكيف تحوّل البلد مع القمع الاشتراكي الأسدي الذي تحوّل إلى قمع مافياوي، وبعد الثورة السورية التي وقعت إثرها أجزاء واسعة من البلاد تحت سيطرة قوتين ساحقتين تبرر كل منهما جرائمها بجرائم الأخرى - أي "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ونظام الأسد المجرم الذي استقدم جيوشًا خارجية من إيران وروسيا والعراق ولبنان ضاربًا بذلك المفهوم الوطني، ومحدثًا شتاتًا مخيفًا للسوريين في أنحاء العالم؟
كان يمكن أن يتم الأمر مع إعلان هؤلاء "الضباط" قسم الولاء لسوريا، علمًا أنه كان من الأجدى إعادة الضباط والجنود المنشقين
فلنتخيل ما مرّ على مواطن سوري يقيم في الرقة أو دير الزور إذ يتنقّل بين نظم متباينة ومتحاربة، فتُحدّد هويته من قبل دولة قمعية ديكتاتورية ولاحقًا من قبل جهاديين من دولٍ عدّة، لتتحوّل هويته من مواطن عربي إلى مواطن "سوري" ولاحقًا إلى طائفة سنية أو إلى إحدى طوائف أقليات كما يحلو للبعض تسميتها. أيّ تشوه أصاب هذه الهوية بعد أكثر من نصف قرن من القمع ومنتجات هذا القمع؟
ولعل هذا التشوّه انتقل للمهجّرين من سوريا. فالتواصل بينهم يبدو صعبًا بالفعل تحت وطأة الاستقطاب. إذ نجد أنهم يجسّون نبض بعضهم البعض أولًا عن طريق استفسارات عن المدينة أو الطائفة قبل تحديد موقعهم من الآخر، مع ما يتبع ذلك من فرضيّات مسبقة حول مواقفه وآرائه.
من الضروري مقاربة السؤال حول معنى أن تكون سوريًا اليوم. إن مفهوم الهوية - كما يظهر المثال الألماني - متحرك ومتغير ومتفاعل مع الأسئلة الأكثر حرارة في المجتمع. وبرغم عدم وجود إجابة واحدة شافية لهذا السؤال، فإن توافقات الحد الأدنى أمر ضروري، خصوصًا في بلد مثل سوريا.
وقد يبدو لوهلة أن السؤال ينطوي على رفاهية. لكن إذا ما أخذنا في الاعتبار التوترات والاحتكاكات في البلد بين العرب والأكراد في ظل النفوذ التركي، وبين السنة والعلويين، بالإضافة إلى احتلال أراض سورية من قبل إسرائيل ووجود قواعد روسية وأخرى أميركية، سيغدو السؤال ملحًا أكثر من أي وقت، ومقاربته ستغدو واجبًا على العاملين بالشأن العام. من هنا ينبغي نظم الإجابات من خلال أطر مؤسسية حزبية تتيح الضغط على السلطات الإسلامية وتحول دون فرض مفهوم إسلامي للهوية السورية، أقرب لذلك الموجود في إيران.
السؤال الثاني الذي تطرحه قضية تعيين ضباط أجانب يتّصل بوعيهم وفهمهم لمعنى أن يكونوا سوريين أولًا. بديهي أن الإيغوري والطاجيكي والألباني والتركي أتوا إلى سوريا لأسباب جهادية تتناقض مع فكرة الحدود السورية، فالتناقض غير قابل للإصلاح بين منهج لايعترف بالحدود وآخر قائم على حماية تلك الحدود. يضاف إلى كل هذا النقاش أن الشرع قام بخطوته هذه قبل امتلاك شرعية تتيح له الترفيع، وقبل إنشاء بنية قانونية تشرعن له لذلك، بل حتى قبل إنشاء الجيش السوري الجديد نفسه.
وبرغم ما سبق، لا تبدو خطوة منح الجهاديين الأجانب رتبًا في الجيش السوري الجديد، بحد ذاتها، خطأ كاملًا من باب براغماتي وواقعي على الأقل. فمن المفهوم تكريم جهودهم في محاربة نظام الأسد برغم اختلافنا مع نهجهم الجهادي. ولعل تلك الخطوة وسيلة لاحتوائهم في صيغ مؤسسية، خصوصًا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن "داعش" ما زالت موجودة في سوريا، وأنهم قد ينتقلون إلى تيار سلفي جهادي أكثر تشددًا ما لم يتم احتواؤهم.
غير أن المشكلة تكمن في الغموض الذي رافق القرار، إذ لم يوضح ما إذا كان الجيش المقبل هو جيشًا لكل السوريين، بما في ذلك المسيحيين والعلويين مثلًا، وما إذا كان سيُتاح لهم أن يكونوا أفرادًا فاعلين فيه على قدم المساواة مع سائر السوريين، أي ما إذا كان الجيش سيكون جيشًا وطنيًا، لا جيشًا إسلاميًا سنيًا. وهذا يتطلب أولًا شفافية في صياغة نص القرار، وشرحًا للمبادئ العامة الحاكمة له، وكشفًا لآلية تحديد الرتب المقدّمة ونطاق الذين سيشملهم القرار ومصير سائر الأجانب الذي يُقدّر عددهم بالآلاف.
كان يمكن أن يتم الأمر مع إعلان هؤلاء "الضباط" قسم الولاء لسوريا أولًا، علمًا أنه كان من الأجدى إعادة آلاف الضباط والجنود المنشقين عن جيش الأسد، وكان ذلك من شأنه تفادي إلغاء الجيش السوري وإعادة بنائه من الصفر، والاكتفاء بإعادة هيلكته أخذًا بالاعتبار تراتبية أفراده ورتبهم. حينها، لن يكون تعيين عقيد إيغوري من بين عشرات العقداء قرارًا خطيرًا أو إقصائيًا. أما التفرد في اتخاذ قرار من هذا النوع وغياب آليات الشفافية، فمن شأنه أن يشكل خطرًا على التعددية في سوريا، على المديين المتوسط والبعيد.