قصّة مطار بيروت
ليس الحديث عن ضرورة إنشاء مطار مدني ثانٍ في لبنان جديدًا، بل يعودُ إلى عقود. وتنطوي المطالبة بمطار ثانٍ لا على أبعاد تقنية فحسب، بل سياسية أيضًا، ما أنتج ثنائية بين مطار بيروت الدولي وأي مطار مدني آخر.
ليس الحديث عن ضرورة إنشاء مطار مدني ثانٍ في لبنان جديدًا، بل يعودُ إلى عقود. وتنطوي المطالبة بمطار ثانٍ لا على أبعاد تقنية فحسب، بل سياسية أيضًا، ما أنتج ثنائية بين مطار بيروت الدولي وأي مطار مدني آخر.
عاد الحديث عن تشغيل مطار القليعات ــــ الذي يقع في ساحل عكار في شمال لبنان على بعد كيلومترات من الحدود السورية ــــ إلى الواجهة في لبنان من جديد.
إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء اللبناني، نواف سلام، عن إنجاز اتفاق مع شركة "دار الهندسة" لإعداد دراسةٍ لتشغيل "مطار القليعات"، على أن يتّضح تصور أولي لتوجيه انطلاق العمل فيه. وكان سلام قد أشار في البيان الوزاري، الشهر الماضي، إلى تشغيل المطار نفسه بهدف تنموي لمنطقة الشمال ومعالجة "تحديات أمنية وتقنية" يواجهها مطار رفيق الحريري الدولي، المطار المدني الوحيد الذي يقع جنوب العاصمة بيروت.
ليس الحديث عن ضرورة إنشاء مطار مدني ثانٍ في لبنان جديدًا، بل يعودُ إلى عقود، خصوصًا خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت بين عامي 1975 و1991. ولا تنطوي المطالبة بمطار ثانٍ على مسألة تقنية تتعلق بعدم القدرة على تطوير المطار الحالي فحسب، بل إنّ أبعادًا ومصالح سياسية تتجلّى خلف هذه المطالبة، ما خلق ثنائية بين مطار بيروت الدولي وأي مطار مدني آخر.
وشهد مطار بيروت الدولي محطات تاريخية مهمة كانت جزءًا من الأحداث الأمنية والسياسية في لبنان، وقد تعرّض للقصف خلال معظم الحروب الإسرائيلية، وقامت إسرائيل في الآونة الأخيرة ــــ حتى بعد إعلان وقف اتفاق النار مع لبنان ــــ بالتهديد بقصف المطار، بحجة استخدامه من قبل "حزب الله" لتهريب السلاح والمال من إيران، وهي إحدى الحج التي تُستخدم لدى الحديث عن ضرورة وجود مطار آخر.
رسميًا، افتُتح مطار بيروت الدولي في العام 1938، خلال فترة حكم "الانتداب الفرنسي". وتأسست شركة "طيران الشرق الأوسط" اللبنانية في العام 1945. واتخذ اسمه الحالي "مطار بيروت ــــ رفيق الحريري الدولي" في أيلول/سبتمبر 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. وخضع المطار، بعد الحرب الأهلية اللبنانية لتأهيلين عامَي 1994 و2000.
وقد أطلقت إسرائيل اسم "الهدية" على عملية استهدافها مطار بيروت، والتي نفذتها ليل 28 كانون الأول/ديسمبر 1968. وخلال 40 دقيقة تقريبًا، دمّرت القوات الإسرائيلية 14 طائرة تابعة لـ"طيران الشرق الأوسط" و"طيران ليبيا".
وأحرقت الفرق الإسرائيلية الخاصة التي حطّت في مطار بيروت عبر 14 طائرة مروحية، 11 طائرة بشكل جماعي، وفخّخت طائرات أخرى وفجّرتها، في حين أطلقت قنابل دخانية في أجواء المطار ومحيطه لمنع الوصول إليه.
وأعلنت إسرائيل تنفيذها العملية ردّا على هجوم مسلّح قامت به "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ضدّ طائرة إسرائيلية في العاصمة اليونانية، أثينا، بحجة أن منفذي الهجوم قدموا من لبنان. وتولى قيادة العملية رفائيل إتان، الذي عُيّن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في العام 1983 خلال فترة احتلال لبنان.
طائرة مدمرة تابعة لشركة "طيران الشرق الأوسط" إثر هجوم 1968
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي بدأ في 6 حزيران/يونيو 1982 وصولًا إلى العاصمة بيروت، تعرّض مطار بيروت لقصف من القوات الجوية الإسرائيلية دمّرت خلاله ستّ طائرات تابعة لـ"طيران الشرق الأوسط"، ما أدى إلى خروجه عن العمل لمدة 115 يومًا.
وخلال هذه الفترة، غزت القوات الإسرائيلية المطار، تحديدًا مكاتب شركة الطيران، ونفّذت عمليات نهب وسرقة للمعدات والأوراق، واحتجزت مدنيين وعددًا من رجال قوى الأمن والموظفين.
العلم الإسرائيلي مرفوعًا في المطار
وفي العام الذي يليه (1983)، كانت قيادة مشاة البحرية الأميركية (المارينز) تتّخذ من مبنى المديرية العامة للطيران المدني في مطار بيروت مقرًّا لها. وتعرّض المقر، في 23 تشرين الأول/أكتوبر، لاستهداف بشاحنة محمّلة بالمتفجرات أسفرت عن مقتل نحو 250 عسكريًا أميركيًا. وتزامن الاستهداف مع عملية ثانية على مقر سرية المظليين الفرنسيين قرب مستشفى بيروت في بئر حسن.
وسبق ذلك تعرّض مقرّ المارينز لقصف صاروخي في 22 تموز/يوليو من العام نفسه أدّى إلى إقفاله لغاية شهر أيلول/سبتمبر.
كذلك اختُطفت طائرة أميركية، في 14 حزيران/يونيو 1985، بعد إقلاعها من مطار أثينا في اليونان، وحوّلت رحلتها مطار روما إلى مطار بيروت، في عملية استمرت أيامًا، حظرت الولايات المتحدة إثرها حركة الطيران إلى المطار.
صورة لمقرّ المارينز قُبيل تفجيره
كان المطار يقع في منطقة "بيروت الغربية" بحسب التقسيم الذي شهدته الحرب اللبنانية بين "الشرقية والغربية"، فخضع لسيطرة عسكرية تنوّعت بتنوّع المجموعات والأحزاب التي تواجدت في المنطقة خلال فترات متفرّقة من الحرب وتعرّض لقصف متنوّع، مثل قصف طاله في العام 1976 دُمّرت خلاله طائرة تابعة لـ"طيران الشرق الأوسط". وشهدت الطريق المؤدية إلى المطار عمليات خطف عدّة، بينها خطف موظفين فيه.
أصبح المطار عام 1986 تحت سيطرة الجيش السوري، الذي تواجد في لبنان منذ 1976، وأُعيد تشغيله مع بداية توافق سوري ــــ لبناني بعد لقاء بين الرئيسين اللبناني أمين الجميل والسوري حافظ الأسد في العام 1987.
وأُقفل المطار، بين آذار/مارس وأيلول/سبتمبر 1989، خلال المعارك بين الحكومة العسكرية التي تشكّلت بقيادة قائد الجيش حينذاك ميشال عون (الذي شغل منصب رئاسة الجمهورية اللبنانية عام 2016) وبين "القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع.
وخلال الحرب الأهلية، أُقفل المطار 828 يومًا في فترات مختلفة بفعل القصف الإسرائيلي والاشتباكات اللبنانية.
قصفت إسرائيل مطار بيروت في 13 تموز/يوليو 2006، في اليوم الثاني لبداية حربها على لبنان (التي عُرفت بـ"حرب تموز")، في أول استهداف لبنية تحتية مدنية وللعاصمة اللبنانية خلال الحرب. طال القصف الجوي والبحري من البوارج التي حاصرت الساحل اللبناني ثلاثة مدرجات وخزانات وقود. وتعطّلت حركة المطار حتى 17 آب/أغسطس من العام نفسه، بعد ثلاثة أيام من وقف إطلاق النار.
عام 1987، أُقفل مطار بيروت بسبب وصول معلومات عن تهديد بقصفه في أي لحظة
اتّخذ طريق المطار الذي يقع ضمن الضاحية الجنوبية لبيروت رمزيّة مهمة للتحركات والاحتجاجات السياسية والشعبية، من تظاهرات ومسيرات إلى قطع الطريق، خصوصًا مع بداية الحرب الأهلية.
ومن أبرز قضايا الاحتجاجات كانت قضية أهالي المخطوفين والمفقودين والمعتقلين خلال الحرب الأهلية، والتي بدأت تحركاتها في فترة الثمانينيات. كما شهد طريق المطار احتجاجات على أعمال الخطف المتكررة وعلى الوضع المعيشي وزيادات الأسعار وانهيار سعر صرف الليرة.
سياسيًا، شهد طريق المطار مطالبات بوقف الحرب الأهلية والوفاق الوطني وإدخال إصلاحات على النظام السياسي واحتجاجات لبنانية وفلسطينية على "اتفاقية أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في العام 1993، واحتجاجات على قرار الحكومة اللبنانية قطع العلاقات مع إيران وترحيل القائم بأعمالها من لبنان.
تكرّرت المحاولات والمطالبات بتحويل مطار "القليعات العسكري" إلى مطار مدني، من بينها قرارات حكومية في الثمانينيات، تبعها قرار آخر عام 2012 يقضي بتوسيعه وتطويره لاستقبال الأفراد والبضائع، دون أن ينفّذ أي من تلك القرارات.
أُنشئ المطار في 1941 على بعد نحو 100 كلم من العاصمة بيروت، وفيه مدرجان يبلغ طول كل منهما 3200 مترًا، وتحوّل عمله لأغراض مدنية في نقل موظفين وعمال بين لبنان ودول عربية في 1960، قبل أن يُصبح تحت إشراف الجيش اللبناني كقاعدة جوية له، بمواكبة ومساعدة من فرنسا التي درّبت الفنيين وزوّدته بطائرات عسكرية. وخلال الحرب الأهلية، توقّف العمل في المطار.
شهد مطار القليعات انتخاب رينيه معوّض كأول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد توقيع "اتفاق الطائف" عام 1989 بهدف إنهاء الحرب الأهلية. ففي 5 تشرين الثاني/نوفمبر، حطّت طائرات تحمل أعضاء من المجلس النيابي اللبناني وأعضاء اللجنة العربية المكلفة بتطبيق الاتفاق، وعقد النواب جلسة استثنائية انتخبوا خلالها معوّض رئيسًا للجمهورية، علمًا أنه اغتيل في بيروت بعد أيام من الجلسة، وقرّر مجلس الوزراء تسمية المطار باسمه فأصبح يعرف بـ "مطار الشهيد رينيه معوّض".
لم يكن مطار "القليعات"، حتى اللحظة، الوحيد الذي تمّ التلويح باستخدامه كمطار ثانٍ خلال الحرب الأهلية بسبب "الوضع الأمني" لمطار بيروت وصعوبة تنقل المواطنين بين المنطقتين "الشرقية والغربية"، بل شكّل "مطار حالات" قرب مدينة جبيل، شمال العاصمة اللبنانية، جانبًا أساسيًا من المطالب السياسية لـ"القوات اللبنانية"، عبر شعار رفعه رئيسها سمير جعجع في الثمانينيات "حالات حتمًا"، حين دعا إلى جعل مدرج حالات مطارًا مدنيًا لمنطقة بيروت "الشرقية" وشمالها.
ومع نهاية 1986، أعطت "القوات" مهلة شهر لتشريع مدرج حالات بحجة استخدام مطار بيروت كمقرّ عسكري، وانتشرت أخبار عن طلعات تجريبية للطيران المدني في أيار/مايو من العام نفسه.
في الأول من شباط/فبراير 1987، أُقفل مطار بيروت بعد قيام شركات التأمين العالمية بتعليق التأمين على ركابها المتوجهين إليه، بسبب وصول معلومات عن تهديد دائم بقصف المطار في أي لحظة، حتى "يتمّ حسم موضوع تشغيل مطار حالات".
وجرت نقاشات سياسية حول فتح مطار حالات، وتلزيم إدارة الطيران المدني استخدام المطارات العسكرية مؤقتًا بعد توقيف التأمين عن رحلات مطار بيروت، ولـ"وضع حد لعذاب المواطنين المسافرين بحرًا عن طريق مرفأ جونية". كما شهد العام نفسه تظاهرات مطالبة بفتح مطار حالات.
وفي حين لم تأتِ الإجابات الفنيّة إجابية حول إمكانية استخدام مطار حالات كمطار مدني ثان، لم يتحقّق مشروع "القوات" بسبب المعارك التي نشبت بينها وبين الحكومة العسكرية في العام 1989.