مصرف لبنان: منزل العملة والحاكم

أقرّ البرلمان اللبناني قانون رفع السرية المصرفية بعد سجالات ومعارك ضارية في الإعلام والمؤسسات الرسمية، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في البلد عام 2019 على وجه التحديد. كيف شكّل هذا المصرف منزلًا للّيرة ولحاكمه، وللنظام المالي اللبناني منذ نشأته؟

مع إقرار البرلمان اللبناني قانون رفع السرية المصرفية، أصبحت متاحة القدرة على طلب الهيئات الرقابية، وبمفعول رجعي مدته عشر سنوات، "معلومات محمية بالسرية المصرفية" مع إمكانية تحديد حساب معين أو عميل معين، "بما في ذلك إصدار طلب عام بإعطاء معلومات عن جميع الحسابات والعملاء".

واتّسم موضوع رفع السرية المصرفية بـ"الحساسية" البالغة، ورفض مسؤولون لبنانيون ومصارف لبنانية إقراره خلال سنوات الأزمة المالية، فأثاروا معارك سياسية بغية عدم تحقّق ذلك.

وتتجه الأنظار حاليًا نحو مصرف لبنان الذي يُنتظر منه انتهاج سياسة مالية تعالج تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، والتي ظهرت تجلياتها في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وذلك ربطًا بانطلاق "العهد الجديد" ممثلًا بانتخاب رئيسين جديدين للجمهورية والحكومة اللبنانية، وتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان. وينتظر لبنان دعم صندوق النقد الدولي له، خصوصًا لحاجته إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية على لبنان، بعدما ينفذ شروطه و"الإصلاحات" المطلوبة منه. 

نستعرض هنا أبرز المحطات التاريخية والتقنية في تاريخ مصرف لبنان، عرّاب السرية المصرفية والأزمة المالية والاقتصادية المستمرة. 

بطاقة تعريف

أُنشئ مصرف لبنان المركزي عام 1963 بموجب قانون حمل اسم "قانون النقد والتسليف" الذي يحدد السياسة النقدية والمالية للبنان ويحكمها وينظمّ عمل المصرف المركزي. وبالتالي، يحتاج أي أمر تنظيمي لعمل المصرف والسياسة المالية إلى تعديل القانون في المجلس النيابي. 

باشر عمله في الأول من نيسان/أبريل 1964، وجاء المصرف ليحل مكان "مكتب القطع" وهو مؤسسة عامة لبنانية ــــ سورية ذات استقلال مالي كانت تحكم الإصدارات النقدية في البلدين. 

يتمتع المصرف بالاستقلالية المادية والمعنوية تحت سلطة حاكم يعاونه أربعة نواب ومجلس مركزي، ويخضع اختيار الحاكم والنواب، كمناصب الدولة الرسمية كافة، للمحاصصة الطائفية. يعيّن الحاكم لست سنوات بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. 

تعاقب سبعة حكام على رأس مصرف لبنان منذ عام 1964 وصولًا إلى كريم سعيد الذي عيّن في نهاية شهر آذار/مارس 2025. 

 

 

الأزمة المالية ــــ 2019

"الأكثر حدة وقساوة في العالم". هكذا وصف البنك الدولي الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان، معتبرًا أنها من بين أصعب "ثلاث أزمات سُجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر". تأتي أزمة لبنان بعد أزمة تشيلي عام 1926 وأزمة إسبانيا المالية بعد الحرب الأهلية فيها عام 1931. وقد انكمش الاقتصاد اللبناني خلال سنتين من الأزمة بنسبة %58 ليكون أشد انكماش بين 193 بلدًا حول العالم، بحسب البنك الدولي.

ولم تكن الأزمة المالية إلا انفجارًا لتراكمات في السياسات المالية لمصرف لبنان تحت سلطة الحاكم رياض سلامة، الموقوف حاليًا لدى السلطات اللبنانية منذ العام الفائت، بعد 30 عامًا قضاها في المصرف المركزي قبل أن يُتهم ــــ محليًا ودوليًا ــــ بقضايا فساد واختلاس أموال. 

إصدارات المصرف بعد الأزمة:
أوراق لا قيمة لها

شهدت قيمة الليرة اللبنانية انهيارًا كبيرًا وتدريجيًا مقابل الدولار الأميركي منذ بداية الأزمة المالية.

ومقابل الانهيار، أصدر المصرف أوراقًا جديدة بقيمة 20 ألف ليرة لبنانية بعد أقل من شهر من بداية الأزمة المالية. وبعد عامين على الأزمة، وضع في التداول ورقة نقدية من فئة 10 آلاف ل.ل. في خضمّ انهيار قيمتها التي أصبحت تساوي دولارًا أميركيًا واحدًا خلال العام نفسه. 

وتبع ذلك، في العام 2022، طباعة ورقة من فئة 5 آلاف ليرة لبنان لم يوازِ سعرها ــــ حينذاك ــــ رغيف خبز واحد.

وكان لافتًا، مقابل هذه الإصدارات، الحديث عن احتمال المصرف إصدار ورقة بقيمة نصف مليون ليرة وأخرى بقيمة مليون ليرة لمجاراة الأزمة القائمة، إلا أنّ هذا احتاج إلى قانون يقرّ في المجلس النيابي، ما حال دون إصدارها. 

سعر الصرف بين اليوم وبداية الأزمة:

 

 

انهيار الليرة اللبنانية

انهارت قيمة الليرة تدريجيًا خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975:

من 3.3 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي الواحد إلى 3000 ليرة لكل دولار.

دفع ذلك المصرفَ إلى إصدار فئة 250 ليرة، لأول مرة، عام 1978 وصولًا إلى إصدار فئة الألف ليرة عام 1988، قبل أن يتوالى إصدار الفئات الأخرى الكبرى وصولًا إلى فئة الـ 100 ألف ليرة لبنانية. 

وبرغم أنّ "الليرة اللبنانية" هي العملة الرسمية للبنان، إلا أن أدنى فئة متداولة ــــ بعد الحرب الأهلية وحتى الأزمة المالية ــــ كانت 250 ليرة لبنانية. بعد الحرب الأهلية، ولوقف التدهور الكبير في في قيمة الليرة، ثُبت سعر صرفها أمام الدولار الأميركي عند معدّل 1507 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد. 

في السبعينيات، كانت ليرة لبنانية واحدة قادرة على شراء سندويش فلافل، أما الآن، فيبلغ سعر السندويش 200 ألف ليرة لبنانية تقريبًا. 

الليرة بعد الحرب الأهلية

تدهورت الثقة بالنظام المصرفي خلال الحرب الأهلية حتى تعيين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عام 1993، ليأتي بصورة المخلّص الذي عُرف بعرّاب "الليرة بخير"، في دلالة على الاستقرار المالي لسعر الصرف. 

من أجل تحقيق ذلك، رفع سلامة الفوائد على الليرة لجذب الدولار، لكنه اعتمد على الاستدانة. وحاول المصرف تأجيل الأزمة التي بدأت تتضح منذ سنوات عبر "هندسات مالية" لجذب الدولار من البنوك التجارية مقابل أرباح كبيرة للمصارف. فانتهى الأمر بأزمة مالية كبيرة و"تبخّر" ودائع الناس في المصارف اللبنانية الخاصة، وهي المشكلة المستمرة حتى اللحظة. 

يقع لبنان حاليًا ضمن قائمة الدول الخمسة الأكثر مديونية في العالم، حيث بلغ حجم الاستدانة، حتى شهر نيسان/أبريل الحالي، %183 من الناتج المحلي الإجمالي (بحسب البنك الدولي). 

سويسرا الشرق

ليس لقب "سويسرا الشرق" الذي عُرف به لبنان منفصلًا عن مصرف لبنان المركزي. فالسرية المصرفية للقطاع المصرفي جعلت لبنان المركز المالي للشرق الأوسط والدول العربية الخليجية في فترتي الستينيات والسبعينيات، وكانت تشبه قوانين السرية المصرفية تلك المطبقة في سويسرا، والتي جعلتها ملجأ لحفظ الأموال من كل أصقاع العالم. ونتج من ذلك ازدهار اقتصادي وسياحي في لبنان، وأصبح مركزًا في الإقليم معروفًا بـ "سويسرا الشرق". 

صورة لبنان في عملاته النقدية

اعتمد المصرف المركزي على طباعة معالم لبنان الأثرية المختلفة في كافة المناطق لطباعتها على العملات الورقية والنقدية مع التركيز على الأرزة التي تتوسط العلم اللبناني. وتشمل الصور على العملات آثار وقلعات رومانية ومغاور طبيعية وتماثيل فينيقية وطباعات الأبجدية الفينيقية بارتباطها الوثيق، في الخطاب العام، بتاريخ لبنان القديم. 

مصرف لبنان منزلًا لحاكمه

عُرف إدمون نعيم كأحد الحكام المؤثّرين في تاريخ المصرف، بعد تعيينه عام 1985 حاكمًا من قبل رئيس الجمهورية حينذاك أمين الجميل. 

نشرت المجلة الاقتصادية العالمية Investor Institutional  عام 1990 صورة لنعيم وهو أمام أكياس رمل تسدّ باب مكتبه في المصرف المركزي، وحملت الصورة عنوان "المصرفي في الحصن" ــــ The Banker in the Bunker. 

هناك، في المصرف المركزي، عاش الحاكم لمدة خمس سنوات، وبُنيت له غرفة نوم ومطبخ صغير ومرحاض، بعدما شعر بإمكانية استهداف المصرف واستهدافه بسبب رفضه سياسة إقراض الدولة، فضلًا عن سياسات أخرى. وقد تكررت محاولات استهداف المصرف المركزي بالقصف وتفخيخ السيارات. 

وقبل عام من نهاية ولايته، أي عام 1990، اقتحمت القوى الأمنية التابعة لوزارة الداخلية مبنى المصرف وسحبت حاكمه من قدميه من الطابق السادس إلى الطابق الأرضي بعد إصدار السلطة اللبنانية أمرًا بإحضاره بالقوة، قبل أن يتمكن من الإفلات ويختبئ في خزنة المصرف. وجاء هذا على خلفية رفض نعيم تحويل أموال طباعة جوازات السفر لصالح وزارة الداخلية، بعد اكتشافه تلاعبًا في الكلفة.

التعليم الرسمي في لبنان: عن كفاح أساتذة وطلبة

دفع اشتداد الأزمة على صعيد تأمين الحاجات الحياتيّة الأساسيّة عائلات كثيرة إلى إيقاف تعلّم أبنائهم، وأحيان...

ماهر الخشن
ملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة: هل ستقبل الحكم؟

بُذلت جهود مختلفة لتقديم شكاوى وأدلة ضد إسرائيل إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة. إثبات المسؤولية الجرمية...

ماهر الخشن
المحرومون من الرعاية الصحية في لبنان

يحتاج حوالي مليوني شخص في لبنان إلى خدمات صحية إنسانية في العام 2022 في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي...

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة