
في ضاحية بيروت الجنوبية جرحٌ بليغ، يمتدّ متقرّحًا نحو البقاع والقرى الحدوديّة مع فلسطين. جرحٌ يتشكّل من أحلامٍ كبرى، وينطوي على مساراتٍ متعرّجة في التاريخ القريب لا لجماعة أهلية لبنانية فحسب، بل لجماعات في المشرق العربي وصولًا إلى إيران. جرحٌ يُشبه، بطبقاته المركّبة، دهاليز أنفاقٍ أُريد منها تشكيلُ عالم موازٍ في باطن الأرض، يُقلّص فعاليّةَ سلاح جوٍ هائل القدرة، ويُبطل الهيمنة المطلقة لإسرائيل على الأرض ومن يحيا عليها.
ليلة السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024، فُتح هذا الجرح وِسعه بعد اقتلاع خمسة وثمانين طنًا متفجّرًا أُلقي من السماء أحشاءَ بقعة في ضاحية بيروت. خرج، في تلك الليلة، الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من باطن الأرض خروجًا نهائيًا، بعدما تولّى على مدى أكثر من ثلاثين عامًا قيادة أطوَل حرب متقطّعة مع إسرائيل.. في تاريخ الصراع معها.
اليوم، إذ يُشيّع جثمان السيد نصرالله مع الأمين العام الذي خَلَفه واغتيل بعده بأسبوع السيد هاشم صفي الدين، يخوض مع أنصاره وحلفائه معركة أخيرة ترمز لكلّ ما سبقها.
محطات السيّد الفارقة
ليس السيّد نصرالله أوّل قيادي تغتاله إسرائيل بطبيعة الحال. لكنّه كان، حتى الأمس القريب، عدوّها الأوّل. ولم يكن "رمزًا طائفيًا" بالمعنى التقليدي ولا الحصري للكلمة، ولا كان متجاوزًا طائفته بالمطلق. لكنّ ما كانَه، بالتأكيد، لناحيةِ التشكّل العقائدي و"الوجهة البرامجيّة النهائية" هو عدو وجودي لإسرائيل بوصفها كيانًا استعماريًا له أدوار وظيفيّة في المنطقة.
من هنا أراد نصرالله، حتى أيامه الأخيرة، أن يبني على سوابق فارقة صنعها في صراعه مع الاحتلال. في كل منها كان "حزب الله" يُسجّل نقاطًا تسمح لتجربته بالنمو، أو بِتجاوز عثرات وانتكاسات، وبتعويضِها بمكاسب مرحليّة. وكان يدفع في المقابل ـــ مع بيئته التي خرج منها ــــ أثمانًا بشريّة وعمرانيّة وسياسية (أحيانًا)، في سياق صراع يستحيل أن يأخذ شكل انتصار بالضربة القاضية.
تبدو الحمولة السياسية في الحملة المضادّة للتشييع هي نفسها، معكوسة، الزاد الأيديولوجي لغالبية المشيّعين
هكذا، بدأت رحلة صعود الأمين العام بـ"حرب الأيام السبعة" في تموز/يوليو 1993، بعد عام ونصف على انتخابه خلفًا للسيّد عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل، وإثر تمكّن "حزب الله" من قتل عدد من جنود الاحتلال في جنوب لبنان . تَلتها "عناقيد الغضب" في نيسان/أبريل 1996 التي شكّلت أوّل محاولة جدّية لتوظيف صواريخ الكاتيوشا (البدائية) في معادلة ردع نسبيّة أنتجت "تفاهم نيسان" الذي هدف إلى تحييد المدنيين من الاستهداف. ثمّ جاء انفتاح "حزب الله" المتدرّج على الداخل اللبناني الذي أسفر في نهاية التسعينيّات عن تولّد "سرايا المقاومة" التي ضمّت مقاتلين من خلفيات طائفية وأيديولوجية متعدّدة، قبل أن تُختم الألفيّة بانسحاب إسرائيلي من (غالبية) جنوب لبنان في أيار/مايو 2000. وفي حين شكّل اجتياح العراق عام 2003 ثمّ اغتيال الراحل رفيق الحريري محطّتين موّلدتين لتشنجّات طائفية سيدفع "حزب الله" أثمانها لاحقًا، جاءت حرب تموز/يوليو 2006 لتصل بنجم الحزب، والسيّد نصرالله على نحوٍ خاص، إلى مديات استثنائية في المحيط العربي. لكنّ محاولات الحزب خلق صلات مع بيئات أخرى ("تفاهم مار مخايل" السابق لحرب 2006 مع الجنرال عون وشبكة التحالفات مع قوى إسلاميّة سنّية) تعرّضت لأوّل انتكاسة في مواجهات 7 أيار/مايو المسلّحة، قبل أن تشقّ الحرب السورية للحزب وأمينه العام مسارًا مليئًا بالأفخاخ التي كان صعبًا تجنّب بعضها، وكان ممكنًا تجنّب بعضها الآخر.
حرب السؤال
على امتداد المحطّات المذكورة وما بينها، كان "حزب الله" وأمينه العام مُطالَبون بالإجابة على أسئلة شائكة، علمًا أن موجّهي الأسئلة تلك ـــ من خصوم الحزب ـــ لم يمتلكوا في الغالب إجابات جدّية عليها، باستثناء الركون إلى وقائع متحوّلة في غير صالح شعوب المنطقة، أو فّضلوا، ببساطة، العزوف عن محاولة تقديم إجابات.
حتّى أن نصرالله قدّم، مثلًا، قُبيل اجتياح العراق عام 2003 ـــ خلافًا لما يُتوقّع من شخص تجمعه علاقة عضويّة بإيران ـــ مبادرة تدعو إلى إنجاز مصالحة عراقية تقي البلاد حربًا يصعب مداواة أهوالها، الطائفية منها على وجه الخصوص، وكيلَت له وقتذاك اتهامات من قوى عراقية شيعيّة بالتساهل مع النظام العراقي. لكنّ كثرًا يُفضّلون تناسي المحطّة تلك. إذ إنّها تناقض سرديّتهم الأحاديّة حول أسباب الانخراط في الشأن السوري.
على هذا النحو، أُريد لنصر الله أن يجيب على الأسئلة المصيريّة الخاصة بالمنطقة بشكل معكوس، سواء عبر الخطاب العام أو الفعل. وتكثّف ذلك في اللحظة التي بدا فيها مصيره ومصير "حزب الله" على المحكّ بعد 7 أكتوبر 2023. هكذا، تركّزت الحملة ضدّه على امتداد عام ونصف على "زيف" خطابه المناصر لفلسطين، وفي الوقت نفسه على طبيعتِه "المُغامِرة"، أو "الأداتيّة" (لمصلحة إيران). وصيغَت معادلة خطابية مفادها أن الحزب، إن انكفأ عن نصرة غزة، تداعى بُنيانه السردي والخطابي ومعهما مشروعيّته برمّتها. أما إن أقدم على فعلٍ ما، فكان "انتحاريًا"، وجالبًا المصيبة على جماعته وبلده، بعدما جلبها على المنطقة قبل ذاك.
والحقّ أن الكثير يمكن أن يُقال عن التهيئة لهذه الحرب وما شابها، أقلّه على مستوى بعض الخيارات وأخذ الاحتياطات والعلاقة مع الفاعلين الآخرين والخطاب العام، حيال قضايا لبنان والمنطقة، لكن لا يمكن أن يكون ذلك منصفًا، ولا موضوعيًا (طالما أن الإنصاف ليس غاية الغالبية العظمى من المعلّقين)، إن لم يوضَع الأمر في سياق تقييم الخيارات المُهيمنة الأخرى في المنطقة وطبيعة الموارد المتوافرة ووجهة توظيفها.
ثمّة من خاضوا جلّ معاركهم مع منطق "الممانعة" الذي عابوا عليه غيابَ المشروع وتعريفَ الذات بالضّد، انطلاقًا من تعريفِ أنفسهم بضدّ الضدّ
ثمّ هناك الأسئلة المغيّبة ـــ أي التي أُريد ألا تكون مطروحة أصلًا في سياق الحملة: هل كان، مثلًا، الانزواء في الداخل، في ظل جموح إسرائيلي غير مسبوق، ترفًا ممكنًا بعد 7 أكتوبر؟ وهل قُدّمت رؤىً بديلة لا تنطوي على التسليم الكامل بالتطبيع مع فعل الإبادة في غزة، وانتظار تلقّي ضربة في لبنان، أو الخضوع لوصاية تُحدّد المسموح والممنوع في السياسة والأمن الداخليّين، بل تحدّد أيضًا من يجوز استهدافهم من البشر؟
وهل كانت القوى والأنظمة المناهضة لـ"حزب الله" في المنطقة ـــ بما فيها تلك غير المتواجٍهة مع إسرائيل ــــ قادرة على قراءة التحوّلات الإقليمية بواقعيّة، لكن من دون انكفاءٍ كارثي، مع ما لهذا الانكفاء من تبعات على أمن بلدانها، بل أحيانًا على أمنها المباشر؟ وألم تكن قادرة، عبر أدوات ضغط كثيرة بحوزتها، أن تُنهي حرب غزة بعدما ظهرت طبيعتها الإبادية بأسابيع قليلة؟
التشييع: المعركة الأخيرة مع السيّد
مع توسّع الحملة ضدّ "حزب الله" وأمينه العام إلى ما بعد الحرب والاغتيال، يبدو تشييع السيد، بعد كلّ ما سبق (وكلّ تفصيل منه يحتاج إلى استفاضة) فرصة لخصومه لقتله مرّة أخيرة، وفرصة لأنصاره لتخليد ما يرمز إليه.
تشييع السيد حسن، بهذا المعنى، عنوان لمعركةٍ أخيرة يخوضُها، ومعركة أخيرة معه. أعداؤه يريدون من التشييع هذا أن يكون هزيلًا. وحتّى لو لم يكُن، سيقلّلون من شأنه. ومعركتهم هذه تنطوي على عنوان غير منطوق؛ سنمحو ذكرك.
من هنا تبدو الحمولة السياسية في الحملة المضادّة للتشييع هي نفسها، معكوسة، الزاد الأيديولوجي لغالبية المشيّعين. ففي النهاية، هذا حزب قام لا على التنظيم والعسكرة فحسب، بل على منظومة عقائدية صلبة أيضًا. وعبارة "لن تمحو ذكرنا" مركزيّة في أدبياته التي يشحن من خلالها مناصريه.
وقد سبق لخصوم السيد حسن، في العديد من المعارك خلال العقود الماضية، أن قدّموا له العون، عن غير قصد بالطبع. والكثير منهم كان مستعجلًا، قصير النظر. حتّى إن حازم صاغية، أحد عرّابي الحالة الإعلامية المناهضة لـ"حزب الله"، وصف نصر الله في مقارنة لافتة مع خصومه قبل سنوات بـ"الوجه السياسي الوحيد غير التافه في صحراء السياسة اللبنانية"، والرجل الذي "بنى موقعه بالعمل والجد والسهر، والعيش تحت الأرض، بكل ما يُلازم الأحزاب النضالية والسريّة مما يُنكره أصحابه أو يتّكتمون عليه".
بين خصوم السيّد حسن (وما يمثّل) من هم متّسقون مع ما يؤمنون به، في الداخل اللبناني أو على مستوى المنطقة، ومنهم من يمثّل كتلًا اجتماعيّة عريضة وتطلّعات متمايزة أو مضادّة. لكن ما لا شكّ فيه أيضًا أن بينهم خصوم تحرّكهم المنفعة أو العصبيّة حصرًا، وهم كُثر (جدًا). وفي حالتهم، يتوقّع المرء أن ينال منهم استعجالُ تحصيل النتائج وافتقادُ الرؤيةِ المركّبة والتفكيرِ البعيد المدى.
وهؤلاء، للمفارقة، خاضوا جلّ معاركهم مع منطق المقاومة الذي عابوا عليه غيابَ المشروع وتعريفَ الذات بالضّد، انطلاقًا من تعريفِ أنفسهم بضدّ الضدّ، حتى باتوا، عمليًا، مقاومي مقاومةٍ لا أكثر.
الحملة على التشييع اليوم، فضلًا عن كونها محطة جديدة في سياق حرب السرديّات المديدة، تُبيّن طبيعة القائمين بالحملة، واستثنائيّة المُشيَّع الذي يُقاتَل بعد الممات. وهي محطة ستليها محطات أخرى، أسّس لها السيّد ولم تنتهِ بعد.