
مع بزوغ فجر الثالث والعشرين من شباط/فبراير، أشهرَ "مجتمعُ المقاومة" في لبنان حُزنه السياسيّ. تخطّى حدث تشييع الأمينين العامين لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، حيّزه العاطفي، برغم غزارة الانفعال فيه. وفي خلاصات المشهد، مثّل النعش منبرًا للجمهور كي يعيد تقديم خطابه، بدلًا من قيادته هذه المرّة، في مساحة الوضوح الإقليميّ.
هو صراع واحد فقط ترتبط به المعارك، والتسويات، والمراجعات، والهدن، وشبكات المصالح وفق التعريف الصراعيّ للمصالح، لا التعريف المهادن باسم "الواقعيّة".
والحال واضح في أنّ الصراع مع الاحتلال، خصوصًا بعد شعوره بالانتصار، يزداد تعقيدًا وصعوبةً. وهنا، لا فرق في نظر المهيمن بفعل السطوة الغربيّة، بين أرضٍ يجب احتلالها ومنبرٌ يجب احتلاله، بين حياةٍ يجب السيطرة عليها وموت يجب تسويقه بصورة المقصلة التي لا نجاة منها.
حاولت طائرات الاحتلال المرور كشفرة المقصلة، لكنّ المشهد المحفوف بالرعب لم ينجح هذه المرة. فما واجه المقصلة كان الصوت. هنا، ربح جمهور التشييع صبغة القتال فوق ملامح حزنه. بدا حزنًا مقاتلًا، والقتال بالصوت هذه المرّة كفعلٍ دفاعيٍّ عن مشروعيّة الصاروخ بعيدًا عن وهج اللحظات السياسية التكتيكية.
ومهما قيل تحت ستار "العقلانيّة" من جانب خصوم الحزب، أو الرمزيّة من جانب أنصاره، فالثابت أنّ حجم الحشد البشريّ في تشييع السيّدين، يشكّل حجر أساسٍ في الاستنتاجات اللاحقة لهذا الحدث. ماذا لو أن السيناريو المعاكس هو ما جرى؟ ستكون هزالة الحشود، كأنّها حشوةٌ صاروخيّة ثقيلة دافعة للفرح السياسي بالانتكاسة العسكرية للمقاومة ونتائجها السياسيّة.
ماذا لو كان تقييم الحجم الشعبي مستندًا إلى المنصات الافتراضية فقط؟ هناك هيمنت تفاعلات الاستهزاء والشماتة بالتشييع بنسبة كبيرة، ولم يحتج المتابع جهدًا كبيرًا لفهم أنّ معظم ما جرى على الفضاء الافتراضي، كان مخطّطًا له، كالغارات الوهميّة فوق المدينة الرياضيّة، والشواهد على ذلك واضحة من كثرة الحسابات الوهميّة.
ليست المسألة مديحًا للكثرة والجموع، بل محاولة لإعادة تعريف وظيفة الحشد خارج بؤرة التنميط العدديّ الانتخابيّ السائدة في البلد.
يمكن المحاججة بأن تعريف التطبيع قد بات اليوم مختلفًأ عمًا سبق، أسوأ وأوضح مما سبق
المشهدُ من تخوم بيروت إلى كتفها الجنوبي، شكّلَ ردًّا معنويًّا كبيرًا على خمسة وثمانين طنًّا من الصواريخ اغتيل بها نصر الله. وبهذا المعنى، تجاوز التشييع ظاهرَه البصريّ من عزاءٍ مشرقيِّ الطابع بقائدٍ احتل موضع الأسطورة في تصوّرات أنصاره، إلى خيارٍ سياسيٍّ متجدّد وناتجٍ من تجربة مريرة. وفي خلاصته، هو قرارٌ برفض التسليم للقتل والتدمير كأداة لحسم وجهة الصراع.
هكذا، وبمعزل عن تاريخانيّتها، لا مناص من اعتبار "لوحة" التشييع نقطة الانطلاق الجديدة، والتفاوضيّة أيضًا، على المستويين اللبناني والاقليميّ. وبينما تختل موازين الأوراق التفاوضية في المدى المنظور، تركنُ المقاومة إلى ذخيرتها الشعبيّة الداعمة، كملاذٍ إجباري يدعمها في السعي لتقليص الاختلال في تأويل الاتفاق، وإن كان أفضل الاحتمالات يقول إن هذا التعديل سيتم ببطءٍ مرير.
قد يكون ذلك مريحًا لأصحاب الخطاب الداعي، مواربةً، إلى "الاستئناس" بالضعف وابتلاعه، كشرطٍ منهجيٍّ لعبور المرحلة بأقلّ الأضرار الماديّة الممكنة. لكنّ العدوانيّة الإسرائيليّة المتواصلة، فتحت ثغرةً واسعة في متن هذا الخطاب، وجعلت منه استعادةً رديئة لمسار التطبيع منذ عقود. وإذا اتفقنا أنّ لهذه الحرب بسياقاتها ونتائجها المختلفة، سلطةً ما، في إعادة تعريف المصطلحات، يمكن المحاججة بأن تعريف التطبيع قد بات اليوم مختلفًأ عمًا سبق. أسوأ مما سبق. أوضح مما سبق.
يفتقر المشهد السياسي اللبناني، اليوم، إلى قدرة أطرافه الأساسيّين على ترجمة خطابهم وتفسيرهم للوقائع إلى أحداث يوميّة. كأن تتلقى المقاومة ضربات يوميّة من دون أن ترد، وكأن يزور رئيس الحكومة الجنوب من دون المرور للمشاركة في تشييع ضخم لنحو مئة شهيد في بلدة عيترون. وكأن يتحدّث رئيس الجمهورية عن الدبلوماسيّة كأداة وحيدة لاستعادة المناطق الباقية تحت الاحتلال. وهنا، يبدو أن الاحتلال مدعومًا بالغطاء الأميركي الواسع جدًا، يقول للجميع إنه الوحيد الذي يحق له فرض التفسيرات لما يجري، وأن الاشتباك السياسي الداخليّ في لبنان يسير تحت وطأة السلوك الإسرائيلي.
وهنا نعود مجددًا إلى التعريفات. مثلًا، المطالبة المشروعة بالمحاسبة عمّا جرى وتقييمه، هي حمّالة وجهين على الأقل. وجه يريد محاسبة المقاومة على "تهوّرها" وتفضيلها الحسابات الاقليمية كما يقول، من دون أن يستطيع ذلك. وفي المقابل، مقاومة لا تملك القدرة اليوم، سياسيًا على الأقل، لفرض تعريف المحاسبة بناءً على أسئلة جوهرية حول الموقف من العدوان الإسرائيلي على البلد، وحول تأمين الخطاب السياسي التبريريّ للعدوان، وحول درجة الوطنيّة في المواقف التي سادت خلال المعركة الشرسة.
خمس تلال لبنانية محتلة والعدد قابل للارتفاع، تلاقي جبل الشيخ بقسميه السوريّ واللبنانيّ في الانتهاك نفسه. توغّل إسرائيلي في ثلاث محافظات جنوبية سوريّة، وقرار واضح بمنع سوريا من بناء أي قوة طبيعيّة على الحدود مع الأراضي المحتلة.
الحالة الأولى خارجة عن لائحة بنود تطبيق القرار 1701، والحالة الثانية، أي السوريّة، تكشف مجدّدًا شخصيّة الاحتلال الـUPDATED التي لا تقيم وزنًا لاتفاق أو تسوية، بل لهدف واحد: منع الجميع من أسباب القوة الطبيعية، كي يشعر المستوطن أنّه في مأمن، وأنّ في انتظاره أراضٍ جديدة كي يستوطنها مستقبلًا.
يحتاج جمهور الحزب إلى التعامل معه بوضوح أكبر وفق مقتضيات المرحلة الصعبة، وكلّما ازداد الوضوح ستزداد القدرة على مواجهة عناصر التشويش
تبدو الدبلوماسية اللبنانية، اليوم، كالمساعدات التي تم إلقاؤها من الجو على غزّة. تأثير محدود جدًا، يوسّع الثغرة في الخطاب الذي لا يرى من المشهد كلّه سوى دعوة المقاومة للاعتراف بالهزيمة، ويقرنُ ذلك بتسويق معلوماتٍ، يبدو أنّها صحيحة، حول الابتزاز الذي يجري في قضية إعادة الإعمار، ووضعها كليًّا في سلّة الشروط السياسيّة والعسكرية، وإلّا فإن مشهد الدمار سيكون ملازمًا لأبصار اللبنانيين لسنوات طويلة.
ما هو الحل لدى مروّجي خطاب السير بمتطلبات الاحتلال وفهمه للقرارات الدولية؟ ليس موجودًا في التداول حتى اليوم لسببين: الأول هو عدم نضوج ظروف التسويق للتطبيع كحلٍّ يضمن الأمان والإعمار للبلد، والثاني، هو أنّ أيّ حلٍّ تحت هذه العناوين لن يكون سياديًّا بـ"الفطرة".
يترك ذلك أثره البالغ في آليات الدفاع النفسي السياسيّة لدى فئة واسعة، تشعر أنّ المسار اللبنانيّ يتجّه بالتدرّج نحو انهياراتٍ أكبر لكن بحلّةٍ سياسيّةٍ دستوريّة يعوّمها خطاب يتغاضى عن الدور الإسرائيلي كمحدّدٍ أساسيّ لما يجري في لبنان والإقليم. هكذا برز موقف انفعاليٌّ يتكرّر بكثرة، ومفاده أنّ كثيرين ممّن لم ينتخبوا ثنائي "حزب الله" – "حركة أمل" في الانتخابات الماضية، سوف يصوّتون له في الانتخابات المقبلة كتعبير عن رفضهم للخطاب الآخر في البلد.
يخطئ الحزب إذا نام على حرير هذه المواقف الانفعاليّة. وهو، إن فعل، سوف يكون مشهدٌ مشابهٌ لسكرة خصومه بالمفاعيل السياسية للضربة الإسرائيلية التي تلقّاها. لن يوفّر المسار الإقليميّ الصاعد فرصةً لتدمير الحضور السياسي للمقاومة، بالوتيرة نفسها التي استهدف فيها قدرتها العسكرية وربّما أكثر.
في المقابل، ما زال الحزب يتبنى في جزء كبير من خطابه نقاطًا من حقبة ما قبل الحرب. كما يسجّل غياب الوضوح في الملف الداخليّ بتطوراته الأخيرة، إلى درجة تجعل جمهوره أحيانًا في حالة تشويش واضطراب، كما حصل مثلًا في قضية منع الطائرة الإيرانية من الهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي، أو في ملف إعادة الإعمار حيث تبدو بعض النقاط مشوشة ولا سيّما في ما يخص توزيع الأدوار في هذه القضية الحساسة.
يحتاج جمهور الحزب إلى التعامل معه بوضوح أكبر وفق مقتضيات المرحلة الصعبة، وكلّما ازداد الوضوح ستزداد القدرة على مواجهة عناصر التشويش المقبلة سياسيًا وميدانيًا وإعلاميًا قبل الانتخابات المفترضة.
وعلى افتراض أن هذه الانتخابات ستحصل، وهو ما لا يمكن تأكيده اليوم، فإنّها ستكون نقطة حاسمة في ترجمة كلّ الأصوات والسرديات اللبنانيّة المتناحرة إلى أفعال سياسيّة. حاول رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميّل أن يقدّم شيئًا خارج الصندوق الصراعي المستحكم بالبلد. طالب بروايةٍ لبنانيّة جامعة يعترف فيها الجميع بشهداء الجميع. قد يكون ذلك مقدّمةً تقود إلى تسويّة في المستقبل.
حتّى ذلك الحين، ينحصر الصراع اللبنانيّ على كيفيّة الموت بيد الاحتلال، وعلى محتوى النعوش ومحتوى تأبين من فيها. رفضُ الموت أو قبوله. لا شيء في صندوق الدبلوماسية يبدو نافعًا لدرء هذا الخطر المتمدّد. هذا ما قاله تشييع السيد حسن نصر الله، حتى إشعارٍ آخر.