الخوف كغريزة جماعية.. بنسخة مكرّرة!

هناك من يختبر في سوريا الآليات المستعملة نفسها للنجاة المبكّرة من طوفان محتمل. أين ما التفتنا نجد ورشة من المتطوعين في الدفاع عن الأخطاء الطارئة بدلًا من تصحيحها أو تقويمها أو مقاومتها.

ما هو مؤكد وجوهري وصميمي، أن جرعة الخوف التاريخية في سوريا هي نفسها، بنسخة مكرّرة. ملعقة قبل الطعام، وملعقة بعد الطعام. الجرعة التي ربيناها على دفعات مثل دود القزّ، فاخترعنا حريرًا صناعيًا يقينا من شتاءات طويلة لا قدرة لنا على احتمالها.

كتلة الخوف الصلبة هذه، تلك التي صقلناها وصقلتنا طوال نصف قرن بالشبهات والتقارير الكيدية و"المتهم ليس بريئًا حتى تثبت إدانته"، دحرجناها عن صدورنا بكامل لياقتنا النفسية مثل صخرة. وبدلًا من تفتيتها لعناق رياح الحريّة المستجدة، أهديناها كتلة واحدة بالمواصفات نفسها لعهدٍ آخر بتوابل إضافية محسّنة، على أمل أن  ننال شهادة حسن سلوك في سباق المئة متر الأولى، ممهورة بختم المختار، أو هكذا توهّمنا بقصد الصعود إلى حافلة النصر.

اصطففنا بآليات الخنوع ذاتها أمام كوة النافذة الواحدة في قيد النفوس للحصول على وثيقة "غير محكوم". هكذا، تجاهلنا عمدًا أن تلوُّث الدورة الدموية بثاني أكسيد الكربون السلطوي تمّ تدريجيًا، وليس دفعة واحدة، كما نفعل الآن. ذلك أن الأمر احتاج إلى زمنٍ طويل حتى اكتملت أصفاد "المراقبة والعقاب"، وذلك بدورات تدريبية مكثّفة على وليمة الخنوع.

الآن، هناك من يختبر الآليات المستعملة نفسها للنجاة المبكّرة من طوفان محتمل. أين ما التفتنا نجد ورشة من المتطوعين في الدفاع عن الأخطاء الطارئة بدلًا من تصحيحها أو تقويمها أو مقاومتها. كأن "العبودية المختارة"، بحسب ما يقول إيتيين دو لابويسيه، قدر التائهين في صحراء الكثبان الرملية. عبودية الأمس بوصفها منهجًا صالحًا للحظة الراهنة بتغييرات طفيفة فرضتها تحوّلات المرحلة.

هكذا طوينا الحقبة الفولاذية على عجل، من دون فحص عميق لذلك الورم التاريخي الخبيث، واكتفينا بحفنة حبوب أسبرين لمعالجة الصداع لا أكثر. نظن أن تفكيك نصّ الأمس يحتاج إلى معاينة أعمق وحفريات أكثر رسوخًا، وليس مجرد دورة من حواضر البيت في التنمية البشرية أو حفنة تعليقات عجلى في مواقع "السوشال ميديا". فالمسألة ليست تصفية حساب عشائري أو طائفي، أو غنيمة أو ثأرًا مؤجلًا، أو تبادل أماكن أو درسًا عن الطغيان، إنما عملية تنظيف جذرية لعلل الجسد المريض.

ها نحن نسبح في النهر مرتين، تحت وطأة غريزة الخوف وحراشف الرعب القديم باستعادة الخطاب البلاستيكي نفسه من صندوق الذاكرة

في الصيدليات الأيديولوجية المناوبة، لن نجد في الوصفة الطبية مكانًا لعلماء الاجتماع. أولئك الذين تم تغييبهم عن الساحة تمامًا طوال نصف قرن مضى.

بلاد بلا سوسيولوجيا! ولكن مهلًا، ما حاجتنا إلى ابن خلدون وأسلافه، لتشريح أحوال بلاد مكتومة القيد؟ ألا يكفي تدريس هذا العلم المارق في مدرجات الجامعات، بشرط ألا يرتطم بالأسئلة الصعبة حول طبائع البشر في خريطة متشظية تتنازعها الهويات الصغرى في المقام الأول؟

ما يجري تصديره عمليًا هو خطاب وهمي، أجوف، لا قيمة فعلية له، أو أنه بالكاد يلامس قشرة البيضة. إذ يُحرّم قطعيًا "تقشير البصلة" والكشف عن طبقاتها المتراكمة من العفن، أمس واليوم. 

كذا تجاهلنا التصدعات والبثور والندوب وحالات الجرب المتفشية علنًا في المشهد العمومي، وأقصينا جانبًا تشوهات علم الاجتماع العسكري، والنظر إلى هذه التشوهات على أنها أيقونة مقدّسة لا يجوز المساس بها بوصفها منعطفًا تاريخيًا في صناعة المجد.

هكذا، أيضًا، عصفت الريح بأرجوحة البلاد بين برزخي: شهيد وقتيل! شعب جرى ترويضه بقوة الهتاف والإهانة والقمع في وضح النهار، وذلك بسطوة البسطار العسكري وشعارات القيادة الحكيمة، ونشيد حزب "البعث"، والأغاني الوطنية (قاد سليمان العيسى قطار الوحدة العربية في كتب القراءة المدرسية إلى الهاوية، وأهدر عيسى أيوب موهبته الشعرية بأغانٍ تافهة تمجّد وطنًا لا يشبه أحوال مواطنيه).

على المقلب الاخر، جرى تشويه مكونات ثلث الخريطة أو ما يسمى الجزيرة السورية ودفنها معنويًا تحت رمال البادية، بعد نهب نفطها وقطنها وقمحها. وكان علينا أن نصفّق فرحًا للعلامات الخمس المضافة على مجموع البكالوريا لأبناء المحافظات النامية كنوع من الاعتراف الضمني بنسبة ذكاء أقلّ بالمقارنة مع أبناء الداخل النبهاء بالوراثة وبمزايا البعثات الخارجية.

هذه الصورة المزوّرة لأبناء البدو والعشائر على نحوٍ خاص، جرى تعميمها أيضًا على الدراما التلفزيونية والإذاعية بتصدير شخصية  تدعو للضحك والتسلية بسخريات فجّة من كائنات هلامية لا محلّ له من الإعراب في الفضاء العام، مثلما جرى تغييب التراث الشفوي للمنطقة عن الشاشات الرسمية لمصلحة "نَوَريات" الملاهي الليلية ومغني حفلات الأعراس، وعشيقات الضباط.

هكذا تفوّقت لهجة على أخرى، وإثنية على أخرى، بقوة وتيرة "أورغازم" استبدادي محمول على رافعة الخوف، ما أدى إلى تصدعات عميقة في بنية الاجتماع السوري، من دون مراجعات ميدانية للخلل المتراكم حيال معنى المدينة، والهوية الجمعية، والمواطنة، وحرية الرأي، والزّي، وتجاور سوق الحميدية وباب توما، و"بوظة بكداش" و"خمّارة أبو جورج"، والازقة الضيّقة في حيّ الأمين، وفسحة شوارع المالكي، ومقهى "الروضة"، ومقهى "الداون تاون". 

ها نحن إذًا نسبح في النهر مرتين، تحت وطأة غريزة الخوف وحراشف الرعب القديم باستعادة الخطاب البلاستيكي نفسه من صندوق الذاكرة، وكأننا لم نغادر مفرمة الزمن الآفل، خطوة واحدة إلى الأمام!  

في هذا السياق، تشير عالمة الاجتماع هدى زين إلى أن" تفكك الاجتماع لا يحدث دفعة واحدة، بل يتقدم عبر انحلال تدريجي تخفيه استمرارية الأطر الاجتماعية في شكلها، برغم فراغها من المضمون وتآكل تماسكها الداخلي"، وبضربة شاقولية تضيف" تحوّل الخوف إلى غريزة جماعية"!

موسم إعادة تدوير البلاستيك الدرامي

نحن إزاء ممثّلين أقرب إلى الروبوتات وهم ينطقون حواراتهم المفترضة، سواءٌ كان الواحد منهم عاشقًا أم لصًّا أ...

خليل صويلح
نوري اسكندر: العود والتشيللو والكمان في نغمٍ واحد

كان همّ نوري اسكندر الخاص تخليص الموسيقى العربية مما أصابها من خدر، وتوقّفها عند حدود التطريب لا أكثر. فب...

خليل صويلح
مقبرة الكتب المنسيّة

مشهد الجرافات التي اقتحمت الركن المهمل حيث تتكوّم آلاف الكتب المستعملة تحت جسر الرئيس بدمشق، طوى زمنًا كا...

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة