
أكتب الآن بعد اتصال من والدتي من أحد مراكز الإيواء في غزة. بُحّة صوتها المرتجف اخترقتني وهي تقول: "في مكان بالجنوب يا ولدي؟ بدنا ننزح...".
صَمَتّ، لم أجد كلمة أجيبها بها. أي قلب يستطيع أن يواسي أمًّا تخشى أن ينهار سقف الخيمة على أحفادها مع كل صاروخ؟ الغبار يملأ رئتيها الضعيفتين، والخوف ينهشها أكثر من المرض. كيف ستحمل عائلتي ما تبقّى من حياتها في كيس صغير؟ كم مرة يمكن لإنسان أن ينزح دون أن يفقد نفسه؟
عائلتي نزحت أكثر من خمس عشرة مرة؛ من بيت حانون إلى الجنوب، ثم عادت إلى غزة، وها هي تُطرد منها من جديد. في كل مرة يدفع أفراد عائلتي جزءًا من قلوبهم، من صحتهم، من كرامتهم. لا أملك جوابًا، لا أنا ولا العالم كله.
من يجرؤ على أن يجيب أمي حين تسألني: "وين نروح يما؟".
عامان من الصمود كانت كافية ليجد الاحتلال طريقه إلى المحرقة. بيوت غزة القديمة تُنسف الواحد منها تلو الآخر، وأهلها يسلكون درب النزوح نحو الغرب. هذه المرة لا مساعدات، لا هدنة، ولا حتى وهمُ أمل. قصفٌ متواصل بلا توقف، يفتح الباب لما يشبه الخروج الأخير، النظرة الأخيرة إلى غزة القديمة.
لم يكن المشهد مجرد حلقة جديدة في سلسلة النكبات. غزة القديمة هي "المدينة الأم"، قلب القطاع الذي احتضن تاريخه كله: الأسواق العتيقة، المدارس الأولى، المعالم الأثرية، الأزقة الضيقة، والأبواب الخشبية التي عاشت قرونًا تحت شمسٍ حفرت آثارها على جدرانها.
غزة القديمة لا تُهجَّر فقط، بل تُقتلع من جذورها.. نوافذها المهجورة تلوّح كأمّ تودّع أبناءها وهي تدرك أنهم لن يعودوا
اليوم يتركها أهلها خلفهم، ليس بنزوح عادي، بل بخروج أخير بلا عودة، بعدما ضاقت الأرض حتى لم تعد تتسع لخطوة إضافية. ما يستطيعون حمله يختصر حياةً كاملة: صورة باهتة، غطاءٌ مثقوب، مفتاحٌ بلا باب. أشياء صغيرة لكنها أثقل من الركام، تختصر ذاكرة أجيال مضغوطة في أكياس بالية.
هنا لا ينزح الإنسان بما يملك، بل بما يُعرّفه: كونه غزيًّا. أما الوجهة فهي لا شيء، حرفيًا لا شيء. ما تبقى من القطاع هو 22% فقط، مساحة بالكاد تكفي لظل إنسان. مواصي خانيونس والمناطق الوسطى تحولت إلى زنزانة كبرى مكتظة بخيام النازحين من كل صوب. لا مكان لبناء خيمة جديدة، ولا حتى لفتح نافذة نحو السماء. حتى الجغرافيا غدت ضدهم. وحين تسألهم "إلى أين؟" يأتي الرد بهزّة كتف صامتة، أعمق من الخراب نفسه. ليست جهلًا بالوجهة، بل انكسارًا كاملًا، علامة على طريق بلا نهاية، على مستقبل يُسلب منهم مع القدرة على الحلم والاختيار والتوقّع.
غزة القديمة لا تُهجَّر فقط، بل تُقتلع من جذورها. قبابها المهدمة ونوافذها المهجورة تلوّح كأمّ تودّع أبناءها وهي تدرك أنهم لن يعودوا. لكن وراء هذا المشهد سؤال أكبر: ماذا يعني أن يُختصر وطن كامل إلى هامش ضيق من الأرض؟
الاحتلال يسعى إلى تحويل الفلسطيني من صاحب قضية إلى مجرد "مشكلة إنسانية" تبحث عن مأوى. لكنّ جوهر الصراع لم يتغير: حق في الأرض، وحق في الحياة، وحق في البقاء. النزوح من غزة القديمة ليس نهاية القصة، بل فصل جديد في النكبة المستمرة، التي تُكتب الآن أمام أعين العالم.
ومع كل ذلك، يعود صوت أمي ليمزق صدري: "وين نروح يما؟".
سؤال أكبر من العالم كلّه، سؤال يظل معلّقًا حتى يكتب الفلسطيني جوابه بقدميه يوم عودته.