"شوكولاتة دبي" في غزة

هذه مجاعة مصمّمة بعناية. ليست صدفة ولا فشلًا، بل تخطيطًا دقيقًا. هناك من يقرّر متى نأكل، ومتى نجوع. متى نحيا، ومتى نموت.

اليوم، رأيتُ على رفّ صغير في بسطة السوق "شوكولاتة دبي" تتلألأ بوقاحة، كأنها تاجٌ من ثروات العالم. تتمايل بين المسليّات والمكسرات والقهوة، وسط مدينة لا تجد فيها حبة دواء. شعرتُ بالقهر يلتهم قلبي. ها هو العالم، مجددًا، يقلب الموازين.

لا مصادر غذائية في الأسواق هنا. لا لحوم ولا دجاج ولا وقود، ولا أي ما يسند حياتنا اليومية. ما يغذي الجسد والروح محرّم علينا، وما يسهّل حياتنا ممنوع، إلا تلك الرفاهيات الصغيرة التي تلمع لتخدعنا... أو ربما لتخدع العالم.

قبل أسبوع واحد فقط، بحثتُ في صيدليات خانيونس كلها عن دواء لابني زين، ولم أجده إلا بالواسطة بعدما استسلمت أعصابي وجرّبت الطرق الممكنة كافة. شعرت بالعجز والخذلان، وبالغضب يتحوّل إلى بركان داخلي. كيف للإنسان أن يعيش على المسليّات والقهوة والشوكولاتة، بينما يُمنع عنه ما يحفظ حياته؟ كيف يمكن لعالم أن يختار له الحلوى بدل الدواء، والتزيين بدل البقاء؟

هذا ما يسمّونه "هندسة المجاعة". يريدون للعالم أن يرى بريق رفوفنا، لا أن يسمع صراخنا. لا همّ إن كانت قلوبنا تصرخ. يريدون أن نبدو ممتلئين، لا جائعين. أحياء بلا صوت وأموات بلا ضجيج، في مسرحية تُدار من بعيد.

كان الزحام اليوم في السوق كالريح العاتية. المئات يتدافعون. وجوههم مشدودة، وأيديهم متشابكة، وأنفاسهم تكاد تختنق. اقتربتُ من أحد المارة وسألته: "ماذا يحدث هنا؟". أجابني بصوت تتراوح نبرته بين الدهشة واليأس: "تاجر جايب عشر كراتين دجاج… واللي بيلحق يشتري!".

هذا الواقع ليس مجرد حرمان، إنه جريمة منظمة

عام كامل حُرم الناس فيه من اللحوم، حتى نسوا طعمها. بدت اللحوم التي تباع في السوق السوداء أشبه بشعاع بسيط يذكّرهم بإنسانيّتهم المفقودة. كانت عيون المتوافدين إلى السوق تتلألأ للحظة واحدة. لحظة تشي بالفرحة والحزن معًا، يشعرون خلالها أنهم ما زالوا بشرًا، قبل أن يبتلعهم الزحام مرة أخرى ويعود الصمت الثقيل إلى السوق.

إنها مجاعة مصمّمة بعناية. ليست صدفة ولا فشلًا، بل تخطيطًا دقيقًا. هناك من يقرّر متى نأكل، ومتى نجوع. متى نحيا، ومتى نموت. وفي كل يوم يمرّ، يتعمّق القهر أكثر، ويستقر الألم في القلب أكثر مما يستقر الجوع في المعدة. 

نحن محاصرون بالظلم، وبشهية العالم لمشاهدة موتنا البطيء. ولسنا على بال أحد.

أي وقاحة هذه؟ أي عالم يختار لنا الشوكولاتة بدل الدواء؟ أي قلب يمكن أن يرى طفلًا يتلوّى من الألم، ويبتسم أمام رفوف الحلوى؟ 

هذا الواقع ليس مجرد حرمان، إنه جريمة منظمة. كابوس مدروس، يظهر في تفاصيل صغيرة كحال رفّ البسطة المليء بالمسليات إلى جانب الصيدلية الخاوية. 

كل تفصيل نراه هنا يحكي لنا قصة استهتار العالم بحياتنا. كل لحظة تثبت أن هذا الألم ليس طبيعيًا، بل هو قرار مُتخذ بوقاحة لا مثيل لها.

لكننا ما زلنا هنا، برغم الرفاهيات الخادعة والأفراح الناقصة والمآتم.

برغم كل هذا القهر الذي لا يطاق، ما زالت قلوبنا تنبض، وما زالت أصواتنا تُسمع، وعيوننا ما زالت ترى الحقيقة.

لن يقتلنا العالم ببطء.

لن نصبح أرقامًا.

نحن بشر، وسنظل كذلك… حتى لو أرادوا أن يسرقوا ما في حياتنا من أمل.

لسنا بخير يا صديقي

تعود الحرب إلى غزة مرة أخرى. هكذا يقولون في نشرات الأخبار، كأنها لم تغادر أصلًا. تعود بخطواتٍ تعرف طريقها...

مالك الشنباري
لا سقف لي إلا السماء‎

يبدو أنّي سأبقى غريبًا في وطني إلى الأبد؛ غريبًا لا لأنّي فقدت البيت، بل لأن البيت نفسه فقدني. 

مالك الشنباري
غزة بين بثَّين: كعكة العالم وركام المدينة

اليوم، في غزة، شعرت أن ميتةً واحدة سريعة قد تكون أرحم من تقطيع أوصالنا البطيء، من هذا التعذيب الذي يباركه...

مالك الشنباري

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة