مُرافعة إلياس رودريغيز، مطلق النار في السفارة الإسرائيلية

أطلق إلياس رودريغيز النار على عاملَين في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وقبل ذلك كتب - أو نُسب إليه - ما يُشبه المرافعة التي أراد من خلالها سرد ما كان يجول في خاطره من أفكار، قبل إقدامه على الخطوة المتزامنة مع المذبحة في غزة. هذه الرسالة المنسوبة إلى رودريغيز كاملة.

ترجمة: مهيار ديب

22 أيار/مايو، 2025

يقول كِن كليبنستاين، الصحفي المستقل الذي عمل مع منصة The Intercept، إن البيان المنسوب لإلياس رودريغيز، المتّهم بقتل اثنين من موظفي السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة يوم الأربعاء، وصله بُعيد الحادثة بقليل.

ويعتقد كليبنستاين أنّ "الوثيقة صحيحة لأسباب عدّة، من بينها توقيع رودريغيز عليها وتاريخها قبل وقت لا بأس به من كشف الجهات القانونية أو أيّ وسيلة إعلام عن اسمه". ويضيف أنه ينشرها "لا تمجيدًا للعنف"، بل كي "يتمكن الجمهور من فهم حقيقة ما حدث على نحو أفضل".

يضيف: "غالبًا ما تُؤدي إشاحة الوجه عن محتوى مثل هذه النصوص إلى فراغ إعلامي سرعان ما تملؤه وثائق مُضلِّلة، أو نظريات مؤامرة، أو تسريبات انتقائية من سلطات يسعها أن تشوّه الحقائق. أعتقد أنّ ضوء الشمس هو أفضل معقّم، لاسيّما حين يتعلق الأمر بالسياسة، كما تبيّن الوثيقة".

وقد كشفت رئيسة شرطة العاصمة، باميلا أ. سميث، عن هويةَ رودريغيز ووصفته بأنّه رجل ثلاثيني من شيكاغو، قالت إنه صرخ "الحرية لفلسطين" في موقع الحادث. ويعكس البيان هذه الرسالة، فيشير إلى الحرب في غزة على أنّها مظلوميته الأساسية، ويصوّر قيامه بالقتل على أنّه تعبير عن احتجاج سياسي.

وهذه هي الوثيقة كاملة:

20 أيار/ مايو، 2025

"هالينتار" كلمةٌ تعني شيئًا شبيهًا بالرعد أو البرق. وفي أعقاب فعلٍ ما، يتطلّع البشر إلى نصٍّ يحدد معناه، ومن هنا هذه المحاولة. فما ارتكبه الإسرائيليون من الفظائع بحقّ فلسطين يفوق الوصف ولا يحصره العدّ. وبدلًا من قراءة الوصف، كثيرًا ما نشاهده وهو يجري على فيديو، في بثّ حيّ مباشر أحيانًا.

وبعد بضعة أشهر من التصاعد السريع في تعداد الوفيّات، فقدت إسرائيل القدرة حتى على الاستمرار في إحصاء القتلى، الأمر الذي خدم ما تقوم به من إبادة جماعية خير خدمة. وإلى حين كتابتي هذا الإيضاح، وثّقت وزارة الصحة في غزة 53,000 قتيل بالقوة الراضّة، وما لا يقل عن عشرة آلاف تحت الأنقاض، ومن يدري كم من آلاف القتلى الآخرين بسبب أمراض كان يمكن اتّقاؤها، وبسبب الجوع، مع مواجهة عشرات الآلاف الآن خطر المجاعة الوشيكة بسبب الحصار الإسرائيلي، ويقف وراء هذا كلّه تواطؤ الحكومات الغربية والعربية.

مكتب الإعلام في غزة يضع في إحصائه العشرة آلاف الذين هم تحت الأنقاض في عداد القتلى. وتشير التقارير الإخبارية إلى أولئك "العشرة آلاف" الذين هم تحت الأنقاض منذ أشهر، برغم الإنتاج المتواصل لمزيد من الأنقاض وقصفها مرّة بعد مرّة، وقصف الخيام وسط الركام. وكما هو الحال مع أرقام قتلى اليمن التي أُوقفت عند بضعة آلافٍ لسنوات تحت القصف السعودي البريطاني الأميركي قبل أن يُكشف بعد فوات الأوان عن 500 ألف قتيل، فإنّه من شبه المؤكد أنّ جميع هذه الأرقام ليست سوى إحصاءات مجرمة منقوصة.

لا أجد صعوبة في تصديق التقديرات التي تُشير إلى 100 ألف أو أكثر. فقد قُتل منذ آذار/ مارس من هذا العام ما يزيد على مجموع الذين قُتلوا في عمليتي "الجرف الصامد" و"الرصاص المصبوب" معًا. ما عسانا نقول بعد عن أعداد الأطفال المشوّهين والمحروقين والممزّقين أشلاء؟ نحن الذين سمحنا بحدوث هذا لن نستحق أبدًا غفران الفلسطينيين. لقد أعلمونا بكلّ هذا. 

لقد ضحّى آرون بوشنيل وآخرون بأنفسهم أملًا في وقف المجزرة، وتعمل الدولة على إقناعنا بأنّ تضحياتهم ذهبت سدىً

ليس العمل المسلح عملًا عسكريًا بالضرورة. وهو ليس كذلك في العادة. فعادةً ما يكون مسرحًا وفرجةً، وهذه سمة يتقاسمها مع عديد من الأعمال غير المسلحة. وقد بدا الاحتجاج السلمي في الأسابيع الأولى للإبادة الجماعية كأنّه يُشير إلى نقطة تحوّل ما. فلم يسبق قط أن انضمَّ عشرات الآلاف إلى الفلسطينيين على هذا النحو في الشوارع في أرجاء الغرب.

لم يسبق قط أن أُجبر هذا العدد الكبير من السياسيين الأميركيين على الاعتراف، في خطبهم على الأقل، بأنَّ الفلسطينيين بشر أيضًا. لكن هذه الخطابة لم تُحدِث فارقاً يُذكر إلى الآن. ويتباهى الإسرائيليون أنفسهم بأنّهم تفاجأوا بإطلاق الأميركيين العنان لهم لإفناء الفلسطينيين.

لقد تحول الرأي العام ضد دولة الفصل العنصري الإبادية، لكنّ الحكومة الأميركية لم تبالي، ورأت أن تفعل ما تفعله من دون رأي عام، فتجرّمه حيث يمكن، وتخنقه بتطميناتٍ باهتة بأنها تبذل قصارى جهدها كي تلجم إسرائيل حيث لا يسعها أن تجرّم الاحتجاج صراحةً.

ولقد ضحّى آرون بوشنيل وآخرون بأنفسهم أملًا في وقف المجزرة، وتعمل الدولة على إقناعنا بأنّ تضحياتهم ذهبت سدىً، وأنّه لا جدوى من التصعيد من أجل غزة، ولا جدوى من جلب نار الحرب إلى الداخل. غير أنّه لا يسعنا أن ندعهم يُفلحون في ذلك. وتلك التضحيات لم تذهب سدىً.

علينا، إذًا، أن نبيّن أنّ الحصانة التي يشعر به ممثلو حكومتنا في تحريضهم على هذه المذبحة هي وهم. فما نراه من حصانة هو الأسوأ بالنسبة إلينا، نحن الذين على مقربة من مرتكبي الإبادة الجماعية.

يروي جراحٌ عالج ضحايا إبادة المايا على يد الدولة الغواتيمالية حادثةً كان يُجري فيها عملية لمصابٍ إصابةً بالغة خلال مجزرة، حين اقتحم مسلحون الغرفة فجأةً وأردوا المريض قتيلًا على طاولة العمليات وهم يضحكون. قال الطبيب إنَّ أسوأ ما في الأمر كان رؤية القتلة الذين يعرفهم حقّ المعرفة، وهم يتبخترون علانية في شوارع المحلّة في السنوات التي تلت.

في مكان آخر، حاول رجلٌ ذو ضميرٍ مرّةً أن يلقي روبرت ماكنمارا في البحر من عبّارةٍ متجهةٍ إلى مارتاز فينيارد، حانقًا من الحصانة والغطرسة ذاتهما اللتين رآهما لدى جزّار فيتنام ذاك وهو جالسٌ في صالة العبّارة يضحك مع أصدقائه. لقد أثارت سخطَ الرجل "وضعيّة ماكنمارا نفسها، كما لو أنّها تقول: "تاريخي لا غبار عليه، ويمكنني أن أنزل إلى حانةٍ كهذه مع صديقي العزيز رالف هذا، وعليك أن تتقبل الأمر". لم يُفلِح الرجل في إلقاء ماكنمارا من على الممشى إلى الماء، وتمكّن وزير الخارجية الأسبق من أن يتشبّث بالسور ويتسلّق بصعوبة ليقفَ على قدميه، لكن المهاجِم شرح مغزى المحاولة قائلًا: "حسنٌ، لقد أخرجته خارجًا، أنا وهو وحدنا، وفجأةً لم يعد تاريخه نظيفًا، أليس كذلك؟".

وهذه كلمة عن أخلاقيات التظاهر المسلح. نحن المعارضون للإبادة الجماعية نكتفي بالقول إنّ الجناة والمحرضين فقدوا إنسانيتهم. أتعاطف مع هذا الرأي وأدرك قيمته في تهدئة النفس التي لا تطيق أن تتقبّل ما تراه من فظائع، ولو على الشاشة. لكن التجرّد من الإنسانية لطالما أثبت أنّه شائع على نحو صادم، وعادي، وإنساني بالمعنى المبتذل. وهذا ما يمكّن الجاني من أن يكون أبًا حنونًا، أو ابنًا بارًّا، أو صديقًا كريمًا ومعطاءً، أو غريبًا ودودًا، قادرًا على التحلي بالقوة الأخلاقية حين يناسبه ذلك بل حتى حين لا يناسبه في بعض الحالات، لكنه يبقى وحشًا على الدوام.

الإنسانية لا تعفي المرء من المساءلة. كان من الممكن تبرير هذا الفعل أخلاقيًا لو جرى قبل أحد عشر عامًا، خلال عملية "الجرف الصامد"، حين بدأتُ أعي شخصيًا سلوكنا الوحشي في فلسطين. لكنني أعتقد أنّ ذلك كان ليبدو، لمعظم الأميركيين، غير مفهوم، وجنونيًا. ويسعدني أنه يوجد اليوم على الأقل كثير من الأميركيين الذين سيجدون هذا الفعل مفهومًا للغاية، ويجدون، بطريقة مضحكة نوعًا ما، أنّه الشيء الوحيد المعقول الذي يُفعَل.

أحبك يا أمي، وأبي، وأختي الصغيرة، وبقية أفراد عائلتي، بمن فيهم أنت، و*****

الحرية لفلسطين

-إلياس رودريغ